العملية الانتقالية المدعومة دوليًا في اليمن وُصفت – في وقت من الأوقات – بأنها قصة نجاح نسبية بين الانتفاضات العربية التي اندلعت في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011.
ومع سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول، ولا تزال تلك العملية السياسية قائمة – من الناحية الإسمية فقط – بينما الأحداث على الأرض تسير في اتجاه مُختلف، ويبدو أن البلاد تستعد لجولة أخرى من الاضطرابات، وربما تحولات أكثر من تلك التي شهدتها البلاد عقب أحداث عام 2011.
ويميل ميزان القوة في منطقة الشمال بشدة لصالح الحوثيين – الحركة الشيعية الزيدية – التي سيطرت على العاصمة في سبتمبر الماضي، ومنذ ذلك الحين تعزز من قوتها وتتوسع جنوبًا وعلى طول ساحل البحر الأحمر. ويرى أنصار الحركة أن الحوثيين يصححون أخطاء الاتفاق الانتقالي الذي تم في عام 2011م، والذي حمى السلطة وفساد نخب النظام القديم. ومن ثمّ فإنهم يدفعون خلف الحركة التي أعلنت استعدادها مواجهة الفساد ومكافحة تنظيم «القاعدة» وسدّ الفراغ الأمني الذي تسببت فيه حكومة عاجزة.
ويرى المعارضون الأشياء بشكل مختلف. فهم ينظرون إلى الحوثيين باعتبارهم مليشيات مدعومة من إيران، كما أنهم ارتبطوا بالرئيس السابق «علي عبد الله صالح» في علاقة أشبه بزواج المصلحة للوصول إلى السلطة. كما أنهم مقتنعون بأن الحوثيين يُخفون جدول أعمال تمييزيٍ يهدف إلى الحفاظ على الهيمنة السياسية للزيديين على شمال اليمن، ويسعون – بشكل خاص – أكثر إلى إحياء الحضور السياسي المتميز للهاشميين– الذين يعودون لنسل النبي محمد، (صلى الله عليه وسلم)، والذين حكموا شمال اليمن لأكثر من ألف عام قبل الثورة الجمهورية في عام 1962.
ارباك العملية الانتقالية
ومما لا شك فيه أن الحوثيين قد أربكوا حسابات العملية الانتقالية التي وُلدت ميتة، وفتحوا فرصًا جديدة للتخلص من الاقتصاد السياسي الفاسد. لكنهم أيضا أحدثوا حالة من الاستقطاب السياسي، وتسببوا في مضاعفة التحديات السياسية والاقتصادية. وتنظر المملكة العربية السعودية بشكل كبير إلى الحوثيين على أنهم وكلاء إيرانيون، ومن ثم علقت الجزء الأكبر من المساعدات المالية لليمن. لقد أبقى الدعم السعودي اقتصاد البلاد واقفًا على قدميه بسبب أربع مليارات دولار على الأقل منذ عام 2012. ويعني إيقاف السعوديين لهذا الدعم بلا شكٍ زيادة معاناة المواطنيين اليمنيين ، وتقويض الحكومة التكنوقراط الجديدة التي تشكلت في نوفمبر/تشرين الثاني، وزيادة احتمالية تعرض اليمن لانهيار مالي في أوائل عام 2015.
وفي داخل البلاد؛ تُثير سيطرة الحوثيين الدعوات لاستقلال الجنوب. ويقول الانفصاليون إن الأحداث الأخيرة بمثابة دليل آخر على استحالة ربط مستقبلهم السياسي بالشمال. وهم يراهنون على أن المملكة العربية السعودية سوف تغير موقفها من الوحدة في نهاية المطاف وتدعم محاولة استقلالهم باعتبارها حصنًا للشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون. وما يثير القلق أكثر؛ هو أخذ الشيعة زمام المبادرة في المعركة ضد تنظيم «القاعدة»، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام صراع طائفي لم تشهده البلاد من قبل. ولم يشهد تاريخ اليمن صراعًا شيعيًا –سنيًا؛ حيث أن الطائفة اليزيدية التي تشكل الأغلبية الشيعية في أقصى الشمال أقرب إلى أتباع المذهب الشافعي السنّي الذين يشكلون غالبية السكان في بقية أنحاء البلاد، وتكاد تكون الشعائر الدينية التي يمارسونها قريبة من بعضها البعض، وقد عاشوا في سلام نسبي لعدة قرون. ومع ذلك؛ فإن تنظيم القاعدة يصب المعركة في قالب طائفي ومن ثمّ يوظفه في حربه ضد الشيعة. وتتداخل هذه الديناميكية مع التوترات السياسية على الأرض التي تعود لأحشاء التاريخ بين المرتفعات الزيدية والجنوب الشافعيّ بطرق قد تفتح ديناميكيات صراع جديدة.
وتبدو صورة الوضع السياسي والاقتصادي قاتمة على نحو متزايد، ولكن المرحلة الانتقالية بعد صالح في ورطة لبعض الوقت. لقد أزالت مبادرة مجلس التعاون الخليجي في 2011 وآليات التنفيذ التي تدعمها الأمم المتحدة مستبدًا متربعًا منذ فترة طويلة على السلطة، وجنّبت البلاد حربًا أهلية بشكل مؤقت، لكنها فشلت في حل النزاعات بين النُخبة، أو إحداث تغيير جذري في الاقتصاد السياسي الفاسد الذي أنهته هذه المعارك. وبدلاً من ذلك وعلى مدى ثلاث سنوات، استغلت نخب النظام القديم حالة الإرباك وتبنّت تكتيكاتٍ تقتنص بها ما استطاعت من الغنائم داخل الدولة في الوقت الذي يزداد فيه تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي ترهق الشعب اليمني، ما فتح الطريق أمام الإحباط بشأن العملية السياسية وما تقود إليه.
وعرقل الصراع المتشعّب مؤتمر الحوار الوطني مرارًا، وكان هدف التفاوض الذي استمر عشرة أشهر التوصل إلى وضع الأساس لدستور جديد. ونجح المؤتمر الشعبي العام في الجمع بين الأطراف السياسية المُختلفة ووضع مجموعة من المبادئ لبناء دولة فيدرالية ديمقراطية. ورغم ذلك بقيت النتائج في كثير من الأحيان غامضة، وفشل المؤتمر في التمخض عن إجماع واضح على ترتيبات تقاسم السلطة قبل الانتخابات أو على مسألة هيكل الدولة المثيرة للجدل، وخاصة مستقبل الجنوب؛ حيث الرغبة في الاستقلال تتنامى على نطاق واسع.
واختُتم المؤتمر في يناير عام 2014، لكن الاتفاقات السياسية الأساسية بعد ستة أشهرمثل تشكيل حكومة أكثر تمثيلية وكفاءة لم تدخل حيز التنفيذ. والأسوأ من ذلك؛ هو القرار الصادر من الحكومة في توقيت غير مناسب تمًاما بشأن رفع الدعم عن الوقود ما فتح النار على على النظام. واقتنص الحوثيون حالة الخلاف الوطني، ونظّموا تظاهرات تطالب بإعادة الدعم وتشكيل حكومة جديدة وتنفيذ سريع اتفاقات مؤتمر الحوار الوطني. وترددت أصداء مطالبهم في أنحاء لا تنتمي لقاعدة دعمهم الأساسية.
من المرتفعات الزيدية إلى العاصمة صنعاء
لقد اكتسب الحوثيون المزيد من القوة حتى من قبل اندلاع الاحتجاجات في صنعاء. ونجحوا في إضعاف قوة المنافسين السياسيين في أقصى الشمال من خلال سلسلة من المعارك التي انحازوا فيها إلى جانب رجال القبائل الساخطين بسبب الأوضاع والتهميش بالإضافة إلى الموالين لصالح ضد العدو المشترك الذي يشمل السلفيين، والتجمع اليمني للإصلاح وبني الأحمر واللواء علي محسن الأحمر؛ القائد القوي تحت حكم صالح والذي انشق خلال انتفاضة عام 2011م.
وحدثت ديناميكية مماثلة في العاصمة. وفي الوقت الذي تحولت فيه الاحتجاجات السلمية إلى معارك بين الحوثيين والمقاتلين الموالين لمنافسه اللدود «علي محسن الأحمر»، فإن قطاعات واسعة من قوات الأمن – العديد منها على اتصال بصالح – وقفت مع الحوثيين أو على الأقل رفضوا محاربتهم. وعندما رفض الرئيس «عبده ربه منصور هادي» إصدار أوامر عامة للجيش بالتصدي للتقدم الحوثي، اختار الآلاف من المسلحين السنة التابعين لحزب الإصلاح عدم دخول المعركة. وكانت النتيجة انتصار سريع للحوثيين واستسلام حقيقي من المدينة، ولا زالت الآثار تتكشف.
وفي ظل سيطرة الحوثيين فإن جميع الأطراف وقعت على اتفاق السلام وتقاسم السلطة في 2 ديسمبر،كانون الأول بوساطة الأمم المتحدة. وعلى الورق، فإن الاتفاق يبدو إيجابيًا ومتأخرًا جدًا. وتمخض الاتفاق بالفعل عن حكومة تكنوقراط جديدة وشاملة. كما أنه يحدد الخطوات اللازمة لمعالجة بعيدة المدى لإصلاحات قطاع الاقتصاد والأمن العسكري تشمل تدابير مكافحة الفساد ونزع السلاح. ومن الناحية النظرية؛ فإنه يعيد فتح قضية هيكل الدولة التي لم تحل، وخاصة عدد من المناطق الفيدرالية.
لكن الاتفاق قد يكون قليلاً جدًا ومتأخرًاللغاية. الثقة والالتزام بالعملية السياسية القائمة في أدنى مستوى من الانخفاض الذي يتزايد كل يوم. ويدّعى الحوثيون الالتزام باتفاق السلام وتقاسم السلطة الوطنية المبرم في 21 سبتمبر/أيلول، ولكن خطوات مثل نزع سلاحهم لا يرغبون بها بشكل كبير لأنهم يعتبرونها ستضر بقوتهم المتنامية. وكسروا بالفعل روح الاتفاق من خلال تشديد قبضتهم في صنعاء وتوسيع السيطرة الإقليمية متذرّعين بمحاربة تنظيم القاعدة وتوفير الأمن ووقف الفساد حتى يتسنى للحكومة القيام بمسئولياتها.
وحتى الآن بسط الحوثيون سيطرتهم على تسع محافظات من أصل 21 محافظةعلى الأقل، بالإضافة إلى وجود ممثلين لهم في الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى التي تشرف على عملية صنع القرار. وأظهروا في الآونة الأخيرة تحديًا مباشرًا للرئيس «هادي» وسلطة الحكومة الجديدة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر رفضوا تعيين الرئيس لرئيس أركان جديد، واقتحموا البنك المركزي، وأطاحوا بمدير ثاني أكبر ميناء في البلاد (الحديدة).
وفي الوقت ذاته؛ فإن الحزبان السياسيان الرئيسيان في الدولة أقل التزامًا. بعد عقوبات مجلس الأمن في 7 نوفمبر ضد «صالح» لدوره المزعوم في استيلاء الحوثيين فإن حزبه المؤتمر الشعبي العام يعادي الرئيس والمبعوث الخاص للأمم المتحدة «جمال بن عمر» والحكومة الانتقالية المعين حديثًا بكل صراحة. وقد صوت أنصار «صالح» للإطاحة بالرئيس «هادي» من قيادة الحزب، ويبدو أنهم يراهنون على فشل الحكومة، وربما في انتظار فرصة لاقتحام الفراغ السياسي.
ويفقد الحزب السياسي الرئيسي الآخر؛ التجمع اليمني للإصلاح الثقة تمامًا في الحوثيين بشأن تنفيذ بنود اتفاق السلام وتقاسم السلطة، وينظرون إلى «هادي» باعتباره خائنًا لعدم استخدام الجيش في وقف التقدم الحوثي. ولا يزال الحزب في حالة صدمة من مكاسب الحوثيين، ولكن عناصره أبعد عن الهزيمة. وفي الوقت الذي يقومون فيها بإعادة ضبط بوصلتهم، فإن أعضاء التجمع اليمني يخشون أن يتحول أنصارهم والشعب اليمني إلى التطرف منضووين تحت رايات كتنظيم القاعدة لمواجهة التقدم الحوثي.
في الجنوب؛ تتعالى الدعوات المطالبة بالانفصال أكثر من أي وقت مضى، وتبدد حاليا التأييد الذي كان موجودا لمؤتمر الحوار الوطني إلى حد كبير. وهناك أقلية من نشطاء الحراك الجنوبي – مجموعة تسعى إلى الاستقلال أو مزيد من الحكم الذاتي للجنوب – لا تزال تتحدث صراحة عن إمكانية وجود فيدرالية مكونة من جزئين (الشمال والجنوب)؛ وهو الموقف الذي ظهر دعم الحوثيين له خلال الحوار. ولكن الغالبية ترى الأحداث الأخيرة كفرصة لحشد الزخم المحلي ودعم الخليج من أجل الاستقلال.
وفي هذا السياق، فإن إحياء عملية سياسية واقعية بدعم محلي يكون أمرا صعب المنال وربما يكون مستحيلا. ويعتمد الكثير على الحوثيين وكيف يترجمون نقاط قوتهم وضعفهم. هم المنتصرون في الوقت الراهن، وقاموا بسرعة في سدّ فراغٍ عجزت الحكومة غير الكفؤ عن سدّه.
ولكن سيطرتهم لا تزال هشة، وتعتمد على الأعداء المشتركون والإحباط من العملية الانتقالية أكثر من دعمهم برنامجا سياسيا محددا. وإذا كانوا يدركون مدى حجمهم ويتبنون عملية تسوية شاملة – خصوصًا مع التجمع اليمني للإصلاح ونشطاء الحراك الجنوبي– فإنهم بذلك يعززون بشكل كبير آفاق الإصلاح السلمي. وإذا لم يفعلوا ذلك؛ فإنهم يخاطرون بإطلاق جولات جديدة من الصراع بألوان مناطقية وطائفية.
صنعاء في ميزان التنافس بين الرياض وطهران
ويرتبط المسار السياسي في اليمن أيضًا بالقرارات في منطقة الخليج. دول مجلس التعاون الخليجي – وخاصة المملكة العربية السعودية – في وضع فريد بالنسبة لإشعال أو تهدئة التوترات المتزايدة. ومن سوء حظ اليمن أن الرياض تنظر بشكل متزايد للأحداث في صنعاء من خلال منظور الصراع الإقليمي مع إيران، والذي بمقتضاه يعتبر الحوثيون وكلاء لطهران. وتميل السعودية – بناء على هذا الفهم– إلى وقف تمويلها للحكومة الجديدة، وترك الحوثيين والإيرانيين الداعمين لهم يتحملون المسؤولية. كما يمكنهم أن ينتهجوا تكتيكات فرق تسد من خلال دعم وكلاء مكافحة الحوثي.
وعلى حد سواء؛ فإن كلتا السياستين من المرجح أن تأتي بنتائج عكسية تؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في اليمن، والتي قد تمتد تباعًا إلى السعودية. وإذا أرادت المملكة دعم العملية السياسية في اليمن فإنها ينبغي أن تمدّ الحكومة الجديدة – التي لا تخضع لسيطرة الحوثيين – بالدعم المطلوب لإعادة بناء الثقة في الدولة والعملية السياسية. وربما هذا لا يُجدي نفعًا ولكن البديل أسوأ. وإذا تعثرت الحكومة الجديدة في ظل الانهيار الاقتصادي، فمن المؤكد إلى حد ما أن ذلك سيجدد الصراع على السلطة في الشمال، وربما تفكك فوضوي في مناطق متعددة، وليس فقط الشمال والجنوب.
ويمكن للمملكة العربية السعودية – بدلاً من ذلك – أن تساعد في تهدئة التوترات المتزايدة، وتحويل المنافسة بين الطوائف مرة أخرى إلى العملية السياسية. وتمتلك الرياض النفوذ المالي لمطالبة الحكومة والحوثيين بالتعاون لتنفيذ الإصلاحات الرئيسية للقطاع الاقتصادي والأمني، لا سيما نزع السلاح ودمج المقاتلين الحوثيين في الأجهزة الأمنية على مراحل في مقابل المساعدة الاقتصادية والاستثمارية. كما أن للمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي علاقات طويلة الأمد مع أصحاب المصلحة الرئيسيين في كل من الشمال والجنوب، ما يساعد في التوصل إلى توافق سياسي رسمي مطلوب بشدة لتنفيذ الاتفاقات، أوفي حالة من الجنوب من الممكن أن يأتي بحل أكثر استدامة. وللأسف؛ فإن تاريخ العلاقات السعودية اليمنية وكذلك الديناميكيات الأخيرة هي نذير سوء لهذا الخيار.
وعلى عكس بلدان أخرى جرّبت التعبئة الشعبية في عام 2011، فإن اليمن لا تمتلك ثورة مضادة كبيرة ولم تنجر إلى حرب أهلية، لكنها مُعلقَة في مكان ما بينهما. وتفتح سيطرة الحوثيين بالإضافة إلى اتفاق تقاسم السلطة فرصة جديدة لتنفيذ الإصلاحات ومعالجة القضايا العالقة؛ بما في ذلك قضية هيكلة الدولة. ولكنها في الوقت ذاته أنتجت مجموعة جديدة من العقبات الداخلية والإقليمية التي لا تترك سوى مجال محدود للتفاؤل.
أبريل ل. آللي، ميدل ايست انستيتيوت (معهد الشرق الأوسط)