” الملك عقيم” .. عبارة بليغة قالها الخليفة العباسي هارون الرشيد لولده المأمون: «يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك» أي لقطعت رأسك وهي عبارة تؤكد أن الملك عزيز والحكم منيع ومن امتطى صهوة السلطة بالسيف وذاق عسيلتها فإنه لا يتنازل عنها أو يتركها إلا بالسيف، وصفحات التاريخ مليئة بسطور كتبت بالدماء لا بالمداد، وما سل سيف على شيء مثلما سل على الملك أو الحكم أو الخلافة، ولا يحفظ رداء الملك ويصان عن كل جاذب إلا بالقوة والصولة والحزم والحسم .
الملك عقيم لأنه في سبيله تهتك الأرحام وتقطع الصلات ، ولا تبقى حرمة ولا صداقة ولا إخوة أو قرابة .
هذا المثل السائر من كلام العرب يكاد ينطبق على الحالة الفلسطينية القائمة اليوم ، ومع البون الشاسع بين الخليفة العباسي بفتوحاته وانجازاته الحضارية والعسكرية الكبيرة والمنتزي العباسي بجرائمه ومخازيه ومفاسده وعمالته إلا إن فواعل المشهد الفتحاوي الملتبس تقود إلى هذه الحقيقة ومنذ سنوات عديدة .
يبدو أن مسلسل الصراع بين عباس ــ دحلان لن يشهد نهاية قريبة. الخلاف المحتدم بين الرجلين منذ ثلاث سنوات، وصل حداً لا تشفع عنده وساطة أو مبادرة، وامتد صداه إلى عواصم عربية كبرى.
إزاء ذلك، يستحضر البعض سيناريو ما بعد «كامب ديفيد 2»، حينما بدأ البحث عن قيادة فلسطينية بديلة لياسر عرفات، انبرى لها تحالف عباس ودحلان الشهير، اليوم، يخشى الأول من مصير مماثل .
حركة فتح التي حملت راية المقاومة ضد المحتل الصهيوني لسنوات طويلة ، وتحمل أبناؤها كد منازلة الصهاينة ، فهم بين قتيل وأسير وشريد ومطارد ، هذه الجماعة التاريخية التي كانت من قبل مشرقة ووطنية تحولت مع بداية مسار أوسلو العقيم في أوائل التسعينيات إلى جماعة وظيفية محضة تنحصر وظيفتها في تكريس الوضع الفلسطيني القائم وخفض طموحات الشعب الفلسطيني في استرداد أرضه وانتصار قضيته، وتثبت المكاسب الصهيونية وجعلها أقل تكلفة ومشقة، وتنفيذ الأجندة الأمريكية في المنطقة ، والأهم من ذلك كله التصدي للمد الإسلامي المقاوم والرافض لكل مسارات التفاوض مع الصهاينة ممثلا في حماس والجهاد ومن دار في فلكهم وسار على دربهم في الجهاد والمقاومة .
ومن ذلك الحين ــ 1993 ــ وجماعة فتح يعتريها ما يعتري سائر الجماعات الوظيفية من منافسة وصراع على الكراسي والمناصب والمكاسب، والمنافسة على نيل رضا السيد صاحب العمل الذي يحتكر القوة والنفوذ والمال الذي سيملأ أرصدة البنوك في رام الله ودبي ولندن وسويسرا .
وخلال العشرينية الماضية استمر الصراع والتنافس بين رجال فتح حتى وصل لذروته مع الوفاة المريبة لياسر عرفات القائد التاريخي لحركة فتح سنة 2005 حتى أخذت أدلة الاتهام تتجمع يوما بعد يوم لتشير بقوة إلى خيانة فتحاوية داخلية من كبار قادة فتح ، بدأت بتصريحات قرينة ياسر عرفات سها الطويل قبيل وفاته والتي وجهت فيها أصابع الاتهام لأشخاص بعينهم داخل فتح ذكرت منهم محمود عباس وياسر عبد ربه ومحمد دحلان .
ومع مرور الوقت توال كشف الأدلة على تورط الأسماء المذكورة في مقتل عرفات ، حتى صرح فاروق القدومي رئيس اللجنة السياسية في فتح عباس ودحلان بقتلة عرفات والرنتيسي.
وربما يري البعض هذه الاتهامات لا دليل عليها وتأتي في سياق صراع الجماعة الوظيفية مع بعضهم البعض، ولكن أن يصل الأمر لاتهام عباس لدحلان بقتل عرفات والعكس فهذا ما لا يمكن تجاهله أبدا، ويأتي في سياق نشر الغسيل القذر من الطرفين ، وحرب تكسير العظام التي بدأت منذ بداية الربيع العربي واستمرت في التصاعد لتصل مرحلة اللا عودة بين رفقاء الدم وشركاء الجريمة .
نستطيع أن نقول بكل حيادية أن عباس هو أكبر المسئولين عن ظهور ما يسمى بالظاهرة الدحلانية ، فعباس نفسه أَبرز صُنّاع هذه الظاهرة مع الراحل عرفات، فبعد خدمات دحلان الجليلة في تعذيب رافضي مسار أوسلو في أقبية الأمن الوقائي الذي تولى رئاستة سنة 1994، ونجم دحلان يسطع في سماء الخيانة والعمالة للغرب والصهاينة ، وعباس هو من ألح باستماتة على عرفات من أَجل تعيين دحلان وزيراً للشؤون الأمنية في حكومته التي فُرضت، أَميركياً وعربياً وصهيونيا على عرفات في 2003، ثم فوَّضه صلاحياتٍ مطلقة في شؤون وزارة الداخلية التي أَسندها عباس، إِلى نفسه، في تلك الغضون.
ومن عجبٍ مضاعفٍ أَنَّ هذا جرى بعد استشهاد شحادة ومَن معه في قصفٍ بقنبلة إِسرائيليةٍ، زنتها أَلف كيلوغرام (وكان دحلان يعرف مسبقاً). محمود عباس هو نفسه من دفع بقوة باتجاه نجاحٍ مؤزَّرٍ حازه دحلان عند انتخابه عضواً في اللجنة المركزية لـ”فتح”، في مؤتمر الحركة السادس في بيت لحم، وقد أَخفق فيها قياديون بارزون. كان التحالف على أَشده بين الصديقين العضوضَين، دحلان وعباس، إِبّان حسابات للاثنين بينها، ما يعني أَن الظاهرة التي تحدّث عنها الأخير، أمام المجلس الثوري لحركة فتح، ما كانت لتصير إلى ما صارت إليه لولا إسنادها من ظهير قوي ونافذ فيرئيس فلسطين المنتهية لولايته للتذكير فقط .
ولا يزيح التسليم بهذا الأمر قناعة بأَنَّ ثمّة مهارات خاصة لدى دحلان في بناء تربيطات مع أجهزة إسرائيلية وأميركية وإماراتية ومصرية، صنعت منه ظاهرة متورّمة في المشهد الفتحاوي المهترئ، ليس بالمعنى الذي أَراده عباس، بل بالمعنى التقليدي المعهود في مسار مؤسسات منظمة التحرير والثورة الفلسطينية.
فثمّة نتوءات سابقة من طراز محمد دحلان، كانت تصل إِلى مراتب عليا في صناعة القرار الفلسطيني، مستندةً إلى هذا الظهير العربي أو ذاك الأجنبي،وما فعله ويفعله ياسر عبد ربه وسلام فياض ونبيل قسيس ليس ببعيد.
لذلك لنا أن نتعجب من سر الانقلاب الكبير في العلاقة بين الرجلين الذين تشاركا في السيرة والمسيرة حتى وصلت لما نراه اليوم؟
السر وراء هذا التوتر المتصاعد لحدة الانفجار يرجع لرغبة أمريكا والصهاينة والدول العربية المرتبطة بالمشروع الصهيوني في المنطقة من إنهاء القضية الفلسطينية وتصفية المقاومة الإسلامية تماما بحل سياسي شيطاني بعد فشل الحلول العسكرية ، وهو حل الدولتين على حدود 67 التي تعطي الفلسطينيين 22% فقط من مساحة فلسطين الكلية وتقسم القدس لشرقية وغربية ، وتمنع ملايين اللاجئين من العودة لوطنهم الأم ، وهو الحل الذي نرى حمى أوروبية غير مسبوقة للاعتراف به وتسويقه ليصبح واقعا لا فكاك منه.
وهذا الحل يتطلب وجود قيادة فتحاوية جديدة تستطيع أن تتعامل مع المتغيرات الجديدة والاستحقاقات الناشئة عنه وأبرزها منع حركة حماس من الوصول لقيادة هذه الدويلة الجديدة ، وهو ما أثبتت الأيام عجز عباس عن فعله ، ولا يوجد أفضل من دحلان لمثل هذه الوظيفة الحساسة لما يمتلكه من رصيد تجربة وخبرة كبيرة ومهارات خاصة وخصال شيطانية تمكنه من ذلك ، وكانت خطوة التقارب والتصالح مع حماس في أبريل سنة 2014 القشة التي قصمت ظهر البعير وأرخت الستار على آخر فصول عباس في السلطة وأصبح مهووسا بالشك والارتياب من كل أحد ، ويجاهر بعداوته العديد من المتربصين الفتحاويين أمثال ياسر عبد ربه وسلام فياض وأبو شباك والهباش، وهو الآن يخشى أن يلقى نفس مصير عرفات الذي شارك هو نفسه في صنعه لو صحت الأدلة الكثيرة على ذلك .
دحلان اليوم يحظى بدعم خارجي سياسي ومالي واسع, ومليارات بلا حساب من الامارات التي يقيم فيها منذ طرده من فتح سنة 2011 ويعمل مستشارا أمنيا لمحمد بن زايد ، هذه المليارات مكنته من تدعيم مكانته في غزة حتى صارت أضعاف مكانة عباس بين أنصار فتح والغزاويين عموما ، فهي يوزع أموالا على اللاجئين في المخيمات ويبني محطات تحلية مياه في القطاع ، ويشترى الولاءات داخل فتح حتى أصبح التيار المؤيد له والمسمى بالتوجه يفوق تيار عباس الذي فقد كثيرا من فاعليته وأثره في الحركة .
وعلى الرغم من أن دحلان شخصية محروقة في فلسطين، ودفتر أحواله مليئ بالجرائم والخيانات إلا أنه أكثر ذكاء من عباس، والخليجيون والمصريون ومعهم الأمريكيون والإسرائيليون يعرفون أن عباس شخصية ضعيفة، وهو لم يستطع ملء الفراغ الذي خلفه الرئيس الراحل ياسر عرفات .
وفي المقابل كانت حماس أكثر برجماتية وانفتاحا في التعامل مع المتغيرات الجديدة فساهمت بشكل ملحوظ في تعميق الخلافات بين عباس ودحلان بالتنسيق والتقارب مع دحلان بصورة غير مباشرة ، وكان الملف الذي أفاض كأس العلاقات المريرة بين عباس ودحلان، متمثلا في تشكيل اللجنة الوطنية الفلسطينية لمساعدة ضحايا المنخفض الجوي الذي تعرضت له غزة العام الماضي، والذي خلف مئات الضحايا.
وهي اللجنة المشكلة من قيادات من “حماس” و”فتح” جناح محمد دحلان بأموال إماراتية قد بدأت نتائجها في الوصول إلى المتضررين من ذلك المنخفض في غزة، وهو ما من شأنه أن يلقي بظلال سوداوية بين عباس ودحلان وحماس ومصر والجميع على اعتبار أن عباس كان قد اتهم سابقا “حماس” بالتفاهم مع دحلان ضده، ثم جاءت المظاهرات المناهضة لعباس في قطاع غزة الأسبوع الماضي تحت رعاية حمساوية واضحة وتأكيد خليل الحية القائد البارز في حركة حماس على ألا مشكلة مع دحلان وأن عباس هو سبب الأزمة المانعة للمصالحة لتؤكد على أن أيام عباس قد انتهت فعليا وأنه في مرحلة الموت السريري.
دحلان يخطط اليوم لكامب دايفيد 3 للاطاحة بمحمود عباس وربما على غرار بكامب دايفيد 2 التي أطاحت بعرفات قتلا ، من أجل قيادة السلطة الفلسطينية في المرحلة القادمة التي سيكون فيها حل الدولتين لا مناص منه ، والوظيفة الأساسية منع حركة حماس من العودة لسلاحها ومسارها الجهادي ضد الصهاينة ، وهو الدور الذي فشل فيه عرفات وعباس من بعده وسيفشل فيه حتما دحلان الشيطان.
شريف عبد العزيز
مفكرة الإسلام