في ذات مساء من يوم الـ 14 يناير 2011، رحل الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، بعد أن خمدت أنفاس نظامه تحت وطأة انتفاضة شعبية “عفوية”.. كان يوما حافلا وحاسما، فتح خيارات الشعب التونسي على مصراعيها، بيد أنّ لا أحد منهم كان ليتخيّل أنّ الباجي قايد السبسي، وزير داخلية، وخارجية ودفاع الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة (1957- 1987)، ورئيس برلمان بن علي، وهو نفسه ذلك الرجل الذي يخطو حثيثا نحو الـ 90 من عمره، سيكون رئيس تونس.. وبـ 56 % من الأصوات.
الأكيد أنّ لا أحد من أولئك التونسيين الذين شاركوا بكثافة في الاحتجاجات المناهضة لبن علي، ولا أحد من جميع أولئك الذين اخترقتهم الأحداث ففقدوا عزيزا أوخسروا صديقا، كان ليخطر بباله، ولو لبرهة من الزمن، أنّ إحدى رموز النظام السابق، والذي ترعرع في عرين الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة على البلاد لمدة 35 عاما، سيتمكّن من الوصول إلى أعلى منصب في دولة تعدّ مسرحا لثورة شبابية قامت بالأساس احتجاجا على تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كنتيجة للسياسات المتّبعة منذ عقود من الزمن.
كان من الطبيعي، في خضمّ التسلسل المنطقي للأحداث وللتتابع البديهي للأشياء، أن تشغل منصب رئيس الجمهورية التونسية إحدى الشخصيات ذات الرصيد النضالي المشهود به، ورموز المعارضة التاريخية أمثال أحمد نجيب الشابي رئيس الحزب الجمهوري، أو مصطفى بن جعفر (رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات) أو ناشط حقوقي على غرار المنصف المرزوقي.. لكن أن تتقلّده شخصية تعدّ من رموز النظام القديم وأحد أبرز الفاعلين فيه، فهذا أمر لا تجيزه حتى الطبيعة المنطقية التي تقوم عليها الأشياء.
وبحسب نظرية “الحيوان السياسي” وفقا لتعريف أرسطو، فإنّ الباجي قايد السبسي أدرك جيّدا بحتكته وخبرته العريضة سبل استثمار مواهب “المحارب العجوز” لمعاودة الظهور من جديد.. تكتيك تبلور من خلال “تأمين” المرحلة الانتقالية الأولى، في مرحلة متقدّمة، وهو ما حسب له “نجاحا” من قبل المراقبين، خصوصا وأنّ الفترة نفسها أفسحت المجال لصعود حركة النهضة الإسلامية، المنبثقة عن انتخابات أكتوبر 2011.. بعد ذلك، قام بتأسيس حزب “نداء تونس” كثقل مضاد للحزب المهيمن آنذاك (النهضة)، لينطلق في سباق محموم، ملازما منطقة اليمين، مطعّما حزبه بجميع الغاضبين والحانقين والمناضلين من جميع التيارات والعائلات السياسية، نحو قصر قرطاج.
السبسي شخصية كانت مجهولة بالنسبة للسواد الأعظم من الشباب التونسي الذين ثاروا بوجه نظام بن علي، والأمر سيان حتى بالنسبة للكثيرين من الشعب التونسي.. ومع أنّ رؤية الوجوه المحسوبة على النظام السابق لم تكن فكرة محبّذة للشعب التونسي، ثلاثة أيام عقب رحيل بن علي، إلاّ أنّ السبسي أجرى مقابلة تلفزيونية مطوّلة مع إحدى القنوات التونسية الخاصة، اشار خلالها إلى أنّه لم يعد لديه “أيّ طموح سياسي بعد أن تجاوز عتبة الثمانين”، وهو الذي خدم بلاده منذ استقلالها عن فرنسا في 1956.
تصريح سرعان ما فنّدته حيثيات الواقع.. فبعد أقل من شهرين، عيّنه الرئيس الانتقالي آنذاك فؤاد لمبزّع رئيسا للوزراء خلفا لمحمد الغنوشي الذي لم يتمكّن من الحصول على دعم شعبي لإدارة المرحلة، وأجبرته اعتصامات “القصبة” على إسقاط حكومة بملامح تجمّعية.
وخلال تلك السنة المخضّبة بالاضطرابات والتقلّبات، استطاع السبسي أن ينفّذ الجزء المتعلّق به من العقد بـ “إتقان” بالغ، بشهادة المراقبين للشأن التونسي، حيث أشرف على تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في أكتوبر 2011. وباستحضار الحراك النقابي الذي اتّسمت به تلك المرحلة من التاريخ المعاصر لتونس، إلى جانب اندلاع “الثورة” على الحدود الشرقية للبلاد (ليبيا)، اكتسبت إدارة السبسي لتلك المرحلة “نجاحا” مزدوجا، وحصد إعجاب الكثير من المراقبين في الداخل والخارج، والاهم بدأ يحصد شعبية حقيقية بين التونسيين.
وبتمرير المشعل، في 26 ديسمبر 2011، إلى رئيس الوزراء الجديد حمادي الجبالي، ليقود حكومة إئتلافية بقيادة حركة النهضة الإسلامية، لم ينتظر السياسي المخضرم والمحنّك والمشبع بالفكر البورقيبي الباجي قايد السبسي طويلا لإطلاق فصيل سياسي جديد، ضمّ وجوه المعارضة من “الحداثيين والتقدّميين”، يرمي إلى إحداث ثقل مضاد للنهضة الحاصلة على قرابة الـ 40 % من أصوات الناخبين.
وخلال 6 أشهر فحسب، غادر السبسي الوزارة الأولى، وشكّل حزبا قائما على فسيفساء إيديولوجية مختلفة.. ومنذ البداية، بدا من الواضح أن التشكّل السياسي الجديد له وزن، وأنّ تلك الخلاصة كانت ثابتة وبارزة حتى أنّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وصف حركة نداء تونس بأنها “أسوأ من الجهاديين السلفيين” الذين تنسب إليهم أعمال العنف التي تهز البلاد بين الحين والآخر.
ميزة السبسي هو أنّه رجل صاحب دراية سياسية واسعة، وهذه الخصال لم تكن لتكفي لوحدها، وانما امتزجت بقدرة رهيبة على اقتناص الفرص والتوقيت المناسب للتحرك.. ميزات شبيهة بتلك التي كان يتحلى بها بورقيبة، والأكيد أنّ المسار المشترك للرجلين كان له تأثيره.. فالسبسي عرف متى يهبّ لنجدة الغاضبين والمحتجين، كما أدرك جيدا التوقيت المناسب لإطلاق حركته.. ماكينة أو آلة سياسية سحقت كلّ ما اعترض طريقها للوصول إلى أهدافها.
وما بين 2011 و2014، تتسلسل أحداث صاخبة حينا وهادئة أحيانا، غير أنّ حركة نداء تونس كانت تتوسّع يوما بعد آخر، مقدّمة نفسها بديلا عن حالة الضياع السياسي والفراغ الأمني الذي تعيشه البلاد.. غادر السبسي الوزارة الأولى في 2011 مخلّفا وراءه ما يشبه الوعد بعدم مزاولة النشاط السياسي، ليعود، أواخر 2014، حاملا في جرابه برنامجا سياسيا بأكمله وقوة استطاعت سحب البساط من تحت أقدام جميع الأطياف في البلاد، فحصدت 86 مقعدا في برلمان يتألف من 217 نائبا، قبل أن يحصل رئيسها السبسي على 56.6 % من أصوات التونسيين، مفسحين له بذلك الطريق نحو قصر قرطاج.. هناك حيث كان سلفه وملهمه بورقيبة ومن بعده بن علي محكمين القبضة على دواليب الدولة..
مرة أخرى..من كان ليعتقد ولو مازحا أنّ أمرا مماثلا سيحدث وأنّ العود على البدء سيكون سيّد الحكاية؟.
*وكالة الأناضول