لقد أعاد المؤتمر الدولي الثالث للحضارة والثقافة الإسلامية والدور العُماني في دول البحيرات العظمى الأفريقية، الذي عُقد في بوروندي من 9 إلى 13 ديسمبر 2014، قضية العمانيين المنسيين هناك إلى الواجهة، والذين نستطيع أن نلقبهم ب”البدون”، بعد أن نظّم البعض منهم وقفة للمطالبة باسترداد الجنسية العُمانية أمام فندق رويال الذي أقيمت فيه فعاليات المؤتمر.
ورفع المشاركون لافتات تُطالب بإعادة الجنسية العمانية إليهم بعد أن تقطعت بهم السبل، بين رفض السلطنة الاعترافَ بهم وكذلك الحكومة البوروندية، باعتبارهم لا يحملون الوثائق الرسمية، وطالبوا من وسائل الإعلام إيصال صوتهم إلى الحكومة العمانية “بعدما تقدموا بطلبات سابقة وتم رفضها” كما ذكروا ذلك لصحيفة “الحياة” اللندنية.
الموضوعُ في الأساس قديم، حيث توجد في بورندي جالية عمانية لا يُعرف عدد أفرادها بالضبط؛ مثلما هم منتشرون في دول شرق ووسط أفريقيا ( تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبوروندي والكونجو وجزر القمر)، ففي حين أنهم في بقية الدول حصلوا على الأوراق الثبوتية؛ إلا أنّ المسألة في بوروندي اختلفت، إذ ترى الحكومة أنهم أجانب، لذا لم تمنحهم الجنسية أو الوثائق الثبوتية، فيما تشكلت جمعية للدفاع عن حقوقهم باسم “جمعية عديمي الجنسية العمانيين في بوروندي”.
وقد رفعت الجمعية أمرهم إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة منذ عام 2012، ولم يتم اتخاذ أيّ شيء حتى الآن، لأنّ “كاترين هوك” مندوبة المفوضية العليا للاجئين في بوروندي ذكرت أنّ السكان عمانيي الأصل لم يتم تصنيفهم كمشردين بعدُ من الناحية التقنية، وأنّ المفوضية تسعى إلى إيجاد حل لهذه المشكلة التي طالت، وأنها ستقدم تقريراً إلى بوروندي وإلى عُمان لمساعدتهم “على تسوية المشكلة ودياً”، وأشارت أنه “اذا لم يقدّم لهم أيّ بلد أوراقاً ثبوتية، سيُعتبرون عندئذ مشردين”، ورغم تصريحها ذلك الذي نقلته وكالة الأنباء الفرنسية في الأول من يناير 2012، فلم يحصل جديد في هذه المسألة الإنسانية، وهي مسألة مبهمة عند الكثيرين من العمانيين أنفسهم.
إنّ الوجود العماني في بوروندي قديم، حيث تشير المصادر إلى أنّ أول بيت عماني بُني هناك يعود إلى عام 1850، وقد وصل العمانيون إلى تلك المناطق قادمين من زنجبار، وهم أول من أدخلوا التجارة الحديثة إلى هناك، ونشروا الإسلام في تلك الربوع، وهم الذين أشاد بهم الرئيس البوروندي “بيير نكرونزيزا” خلال كلمته الافتتاحية في ذلك المؤتمر، عندما قال إنّ الأحياء العربية والإسلامية هي التي وفّرت ملاذات آمنة في أوقات الصراعات، وهي صراعاتٌ كثيرة خاصة في رواندا وبوروندي، إذ قامت حروبٌ طاحنة بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، وذهب ضحيتها العديد من العمانيين مثلما ذهبت أموالهم وممتلكاتهم، في مأساة هي أقرب إلى مأساة زنجبار مع وجود فارق في عدد العمانيين في المكانين.
إذا كنا دائماً نشيد بالسياسة العمانية الخارجية وبأنه لا غبار عليها؛ فإنّ قضية العمانيين العالقين في الشرق الأفريقي تحتاج إلى وضع حل نهائي لها، بدلاً من تعليقها لفترة طويلة تقترب من نصف قرن الآن، ففي زنجبار وحدها مع الجزيرة الخضراء هناك ما يقرب من 26 ألف عماني، وكذلك في البر الأفريقي هناك عمانيون ليسوا أحفاداً لمن ذهب إلى زنجبار مع السيد سعيد بن سلطان؛ بل هم من الذين وُلدوا في عمان وهاجروا إلى هناك، وهم في سبيلهم إلى الإنقراض الآن بدواعي العمر، وهناك أبناؤهم وممّن لهم أهل في عمان، بمعنى أنهم قريبو عهد بتلك الديار، (والحلقات التي قدمها الزميل محمد المرجبي عبر شاشة التلفزيون العماني خير توثيق على ذلك)، فالمسألةُ تحتاج إلى دراسة عاجلة وإلى اتخاذ قرار لإنهاء تلك الأزمة، بحيث تكون الحكومة العمانية صريحة في قبول من تقبله وفي رفض من ترفضه، وإبلاغ تلك الدول بالقرار، حتى يتم اتخاذ اللازم في ذلك من قبل تلك الدول؛ سواء بتجنيسهم أو بنقل تبعيتهم إلى المفوضية العليا للاجئين لتتولى أمرهم، فالكثيرون قد تقطعت بهم السبل وفقدوا أشياء كثيرة لغياب هويتهم.
فليس المهم أن نهتم فقط بالأثر ونترك الاهتمام بالبشر، فالحضارة العمانية لم تقم في أيّ مكان أساساً إلا بجهود هؤلاء البشر، وقد وُفّق الكاتب الصحفي “حمود بن علي الطوقي” أيّما توفيق، عندما كتب في جريدة الرؤية مقالاً تحت عنوان “لا بد من بوروندي وإن طال السفر” تحدث فيه عن مأساة تلك الفئة، حيث قال “نحن هنا في هذا المؤتمر نتحدث عن الإنجازات والتاريخ والأثر العماني في دول البحيرات، فهناك أكثر من خمسين بحثًا تناقش هذا الإرث العظيم للآباء والأجداد ومكانتهم في البحيرات العظمى؛ وكنت أتمنى أن أجد بحثاً واحدًا يتحدث عن أحقيّة حصول من بقي من العمانيين على الاعتراف الرسمي وحق الحصول على الجواز العماني، مع تشجيع الحكومة على تعزيز استثماراتهم في هذا البلد الذي فتح ذراعيه للعمانيين قبل خمسة قرون، إنّ النظرة الإيجابية تقتضي مساعدة من بقي من الأسر العمانية وتصحيح أوضاعهم كحق مشروع.. فلا يعقل أن يحمل الأب الجنسيّة العمانية والأبناء بدون، ولا يعقل أن يحمل إخوة أشقاء الجنسية ولا يُعترف بالأب أو الأم، أو تحمل الزوجة الجنسيّة العمانية ولا يحملها الزوج رغم أنّهما من نفس البيت ومن نفس العائلة”.
” 3 ”
لقد تناول “حمود الطوقي” نقطة هامة؛ هي تشجيع إستثمارات العمانيين في الشرق الأفريقي، وهي في الحقيقة غابت عن المخططين للإقتصاد العماني، حيث اهتموا بمشاريع وهمية كخط نقل الغاز إلى الهند عبر البحر، ومشروع نقل الغاز إلى كازاخستان وغيرها من المشاريع التي لا تدخل حتى في عقل طفل صغير، فإذا كلّ تلك المشاريع وهماً في وهم، في حين لو أنّ الحكومة العمانية استثمرت في الشرق الأفريقي باستغلال أبنائها هناك، كان يمكن أن يكون شأن الإقتصاد العماني قوياً وغير مهزوز يعيش على رحمة سعر النفط فقط، لأنّ الحكومة قدمت مساعدات كثيرة للحكومة التنزانية ولكنها لم تذهب في المكان الصحيح، ولم يستفد منها العمانيون، وها هي الدول الخليجية – والتي هي أغني من عمان -، تتجه الآن إلى استثمار المزارع والمناجم والسياحة والأخشاب وكل شيء، في وقت يغيب عن ذلك العمانيون، وذلك لسوء التخطيط أولاً، ثم لوجود حقيقة واقعة تتلخص في أنّ لدى بعض المسؤولين نزعة تجعلهم شديدي الشك والارتياب في عمانيي شرق إفريقيا، فإذا كانت هناك بعض التجاوزات، فإنّ في أفريقيا من هم من أصول وجذور عمان، دون أن يفرطوا في هويتهم أو ينخلعوا من جذورهم، أما إذا ثبت أنّ هناك من لا ينتمون إلى الجذور العمانية، فللحكومةِ الحق في اتخاذ إجراءات قانونية حيالهم.
إنّ من يقرأ بعض التعليقات في المواقع الحوارية عن موضوع العمانيين في الشرق الأفريقي يصاب بإحباط وصدمة؛ لأنّ درجة التفكير عند البعض بهذا المستوى من السطحية، وكأنّ القضية تتعلق فقط بلقمة العيش، وأنّ العمانيين في حالة عودتهم إلى وطنهم سيختطفون اللقمة من أفواههم..! وهي مأساة أن يتناول من لا يفقه قضايا أكبر من مستواه.
لا شك أنّ على الوطن واجب ومسؤولية نحو المهاجرين من أبنائه وضرورة الوقوف معهم ومساندتهم ومساعدتهم أين ما كانوا، وقضيةُ العمانيين في الشرق الأفريقي، أخذت وقتاً أكثر ممّا ينبغي، رغم كثرة زيارات المسؤولين، ورغم كثرة الملفات المطروحة للنقاش، ورغم الكثير من الوعود، وعلى ذلك فإنه من الحكمة أن تتبنى الحكومة العمانية مدخلاً جديداً لزيادة النفوذ العماني في تلك المنطقة عن طريق الجهد المستنير والعزيمة، عن طريق أناس مخلصين لهم الدراية بتلك المناطق، والمسألةُ لا تحتاج إلى العديد من الدراسات والمفاوضات؛ بل تحتاج إلى شخصين أو ثلاثة ممّن يتحلون بروح الإخلاص والعمل فقط، لأنّ القضية أصبحت الآن قضية استراتيجية بالنسبة لعمان خاصة مع نضوب النفط والغاز، وكان يمكن لعمان أن تجني الخير الكثير، لو عرفت كيف تستخدم قوتها “الناعمة” في أفريقيا وهي القوة التي لا يملكها غيرنا، ولكنهم نجحوا الآن في الاستثمار هناك، وعندما نقرر التحرك، فإنّ القطار يكون قد فات، وهكذا نحن دائما.. ولا يمكن للقطار أن ينتظر النائمين..!
زاهر المحروقي
مجلة الفلق