السودان التي لها حدود مع مصر وليبيا تعيش ثورة في طور الانتظار، ثورة في حاجة لزعيم. فالاقتصاد في أدنى مستوياته منذ عقود في أعقاب انفصال الجنوب الغني بالنفط وضغط العقوبات الأمريكية الذي خلف ملايين الجياع والعاطلين عن العمل.
وينتشر العداء على نطاق واسع تجاه عمر البشير، الرئيس الذي يقوم باعتقال الناشطين بانتظام ويفرض الرقابة على الصحفيين وهو رئيس متهم بالإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية
وأعلن الشهر الماضي عن قضاء البشير أكثر من 25 عاما في السلطة، وأنه سيخوض الانتخابات العامة في أبريل المقبل ومن المؤكد أن يفوز. عندما قام رئيس بوركينا فاسو بليز كومباوري مؤخرا بمحاولة مماثلة لمحاولة البشير لتمديد حكمه الحديدي، والذي امتد لأكثر من 27 عاما، تحطم حلمه بسب ثورة شعبية عارمة وتبعثرت أماله..
فعلى الرغم من أن حكم البشير يترنح في مكانه، فإن الثورة في ثالث أكبر بلد في أفريقيا لا زالت أمرا بعيدا. وقد دبت الحياة في الشرايين الاقتصادية لحكم البشير من قبل الصين وإيران وقطر، ويقال إنه يعتمد بشكل متزايد على جهاز المخابرات والأمن وميليشيا الجنجويد للحماية الشخصية، وكان اسمها مصدرا للرعب في المنطقة الغربية من دارفور.
وكان البشير قد استغل سياسة فرق تسد لاستغلال التوترات العرقية، في حين أن العديد من السودانيين من ذوي التعليم العالي، والذين كانوا بالإمكان أن يصبحوا قادة السودان قد ذهبوا إلى المنفى.
أطاح السودان الأنظمة العسكرية مرتين من قبل في عام 1964 و1985، وبدا في سبتمبر من العام الماضي أن لحظة حساب البشير قد حانت. فقد خرج الآلاف إلى الشوارع ظاهريا احتجاجا ضد ارتفاع أسعار الوقود، ولكن كانت هناك كل مؤهلات الانتفاضة والثورة.
وكان رد الدولة هو ذبح ما يقرب أكثر من 200 مدني بدم بارد، أصيب أغلبهم في جبهته إلى جانب ما لا يقل عن 800 حالة من الاعتقالات وسط تعتيم إعلامي شديد. وبعد ذلك بعام ألقي القبض على العديد من الزعماء المشتبه بهم لمنعهم من الاحتفال بالذكرى الأولى للمناسبة.
غازي صلاح الدين العتباني كان يعمل مستشارا للبشير حتى اختلف معه بشأن التعامل مع الاحتجاج، يؤكد أن هناك حالة من الذعر في قلب الحكومة والخوف من أن الربيع العربي قد وصل إلى السودان، وأضاف: “هذا صحيح جدا”، وقال في مقابلة مع صحيفة الغارديان في مسكنه الواسع المطل على نهر النيل. لهذا السبب كان الرد قاس جدا وأخذوا يرددون إذا حدثت انتفاضة أخرى فسوف تسحق تماما.
ويبدو أن هذا الأسلوب أتى أُكله على الأقل في الوقت الراهن. وأضاف العتباني: “أعتقد أن الشعب السوداني لا يزال في حالة صدمة بسب عدد القتلى. إنهم خائفون. لا تزال الحادثة عالقة في ذاكرتهم. لا نتوقع انتفاضة كبيرة خلال العامين المقبلين”.
الانقسامات القائمة منذ فترة طويلة على أسس عرقية وطائفية وسياسية قللت مسالة حدوث ثورة، وقال إنه يعتقد أنها لا تزال في طور التكوين. لم نتوصل إلى حالة قومية، ونحن بحاجة لنتوحد على أشياء كثيرة. شهدنا انفصال الجنوب ونظريا من الممكن أن تنفصل أجزاء أخرى . إنها لحظة حاسمة في تاريخنا: الحنكة السياسية هي ما ينقصنا.
تقلصت قوة البشير على الحكم بشدة منذ أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه قبل خمس سنوات. حيث وجهت المحكمة له اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بعد حملة من أعمال القتل والتعذيب والاغتصاب ضد المدنيين في دارفور حيث قتل مئات الآلاف و تشرد الملايين خلال عشر سنوات من القتال بين الحكومة والمتمردين، وأضاف القضاة في وقت لاحق ثلاث تهم أخرى للإبادة الجماعية.
ولكن كل هذا جاء بأمر غير متوقع، كما يقول المحللون، وهو أن البشير البالغ من العمر 70 عاما عازم على التمسك بالسلطة بأي ثمن، لأنه يخشى أن أي خليفة له قد يسلمه إلى محكمة لاهاي.
ولهذا يسود مناخ من الخوف واستعراض للقوة حيث يمكن رؤية الجنود النظاميين في المركبات العسكرية بدوريات في الشوارع المغبرة في الخرطوم أو عبور الجسور على النيل. حتى الجنجويد، الذين هم مجموعة من قطاع الطرق والمرتزقة، يقومون بالاستعراض في العاصمة. وفي الوقت نفسه تقوم طائرات البشير بقصف أبناء شعبه في جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولا أحد يبالي لأن العالم مشغول بأمور أخرى.
يشبه العتباني قبضة الرئيس على الجهاز العسكري والأمني وسطوته على حزب المؤتمر الوطني بسطوة فلاديمير بوتين على روسيا. ولكن كشخص، أكد العتباني أن البشير أقل رهبة من بوتين. وأضاف: “إنه ودي، محبوب وسخي. وقال بأنه قد لا يبدو كديكتاتور. ولكنك إذا مكنت شخصا ما أكثر من اللازم، فإنه سوف يتحول إلى الديكتاتورية. إذا قمت بإنشاء نظام رئاسي دون برلمان قوي، فإنك تنشى حاكما مستبدا”.
البعض هنا يقول إن العتباني نفسه هو البديل الذي تجمع عليه الأمة. وأعلن الطبيب السوداني، الذي لديه دكتوراه في الكيمياء الحيوية السريرية من جامعة سري في غيلدفورد، عن تأسيس حزب منشق يدعو إلى إجراء إصلاحات ديمقراطية، ومن المرجح أن ينال ثقة الغرب.
ولكن بعض التوقعات تشير إلى أن شخصا في الثالثة والستين من العمر قد لا يكون مصدر إلهام للجيل الجديد، ويتساءل البعض لماذا كان مع البشير لعقدين من الزمن. وأضاف: “إنه نوع من الوعي بعد وقوع الاحتجاج، أود أني فعلت ذلك قبل 10 أعوام. أنا الآن انتقد بصوت أعلى بكثير من السابق”.
جميع الأحزاب السياسية المعارضة، وهي جميعا ضعيفة ومنقسمة، يستوجب عليها بطريقة أو بأخرى إقناع الناس المتعبين، والذين نفذ صبرهم بأنها توفر بديلا ذا مصداقية للوضع الراهن. وقال الدكتور أمين مكي مدني،٧٢ عام،و هو محامي في مجال حقوق الإنسان ورئيس اتحاد منظمات المجتمع المدني السوداني: نحن حقا بحاجة إلى توافق في الآراء بشأن الشخص الذي سيحل محل هذه الحكومة، وأنه لا بد لي أن أعترف، انه ليس على الطاولة أي بديل الآن”.
وقال الناس إنهم لا يريدون الخروج إلى الشارع ليقتلوا كالخراف، بل يريدون الخروج والموت من أجل مستقبل أولادهم وأحفادهم، إنهم يحتاجون نوعا من الأمان، وإلا فإنها ستكون مجرد مذابح بشعة.
وقد أظهر الشباب استعدادهم للذهاب إلى خطوط الجبهة الأمامية. وقالت طالبة علم النفس البالغة من العمر 22 عاما، سعدية الشيخ كودك وهي تشير تحت حجابها البرتقالي إلى ندبة على شكل هرم فوق جبينها ناجمة عن هراوة، كما تقول، من قبل جهاز المخابرات والأمن الوطني خلال مظاهرة يوليو خارج البرلمان ضد الحرب في دارفور.
وأضافت “كودك”، وهي تنحدر من دارفور من أسرة من اللاجئين في شرق تشاد: “لقد حققوا معي وكنت لا أزال أنزف. لم يكن هناك أي مساعدة. سألوني عن قبيلتي ولماذا كنت التقط الصور. شعرت وكأني لا أنتمي إلى هذا المكان. كانوا يضربونني في وجهي بأيديهم. قالوا لي: شعبك مرفوض وادعت “كودك” أنه تم إخراجها مع بقية الطالبات اللواتي كن معها من مكان إقامتهن في الجامعة في مدينة الخرطوم بالقوة الشهر الماضي، وقد تعرض العديد منهن للاعتقال و التعذيب و التحرش الجنسي والإهانة العنصرية من قوات الشرطة والأمن.
وقالت “كودك”، وهي جالسة في حديقة احد المطاعم وترتدي ملابس عصرية وتحمل جهاز تلفون من نوع سامسونج، إنها ولدت حين كان البشير في السلطة ولم تر رئيسا غيره.
وقتل اثنان من أعمامها و أربعة من أبناء عمومتها في دارفور، بينما أصيب شقيقها البالغ من العمر 18 عاما وعليه استخدام العصا الآن حتى يستطيع المشي. وقالت: “أشعر بالغضب الشديد وأريد الانتقام لأعمامي وأبناء عمومتي وان اعمل شيئا لأفراد الأسرة الآخرين الذين لا يزالون على قيد الحياة. إذا تغير النظام، يمكننا أن نجعل من السودان بلد مسالم ودون عنصرية وتمييز”.
وتنتمي “كودك” إلى حركة شعبية تدعى “قرفنا”، تشكلت قبل الانتخابات الماضية واختارت البرتقالي لونا لها وعلامة النصر كرمز لها ونشرت تعلقها بالمقاومة السلمية من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، فضلا عن الكتيبات العادية والكتابة على الجدران وأساور المعصم.
وقال أحمد محمود، 27 عاما، وهو سينمائي ومغني راب سابق: “في قرفنا نعتقد أن السخرية هي المفتاح لكسر الخوف ونحن نسخر من النظام. ولكننا تعرضنا للكثير، حيث إن الحكومة منذ عام 2012 استهدفت قرفنا وتقريبا دمرتها تماما. وألقي القبض على العديد من أعضائنا وتعرضوا للتعذيب وأجبروا على مغادرة البلاد”.
واعتقل محمود نفسه لمدة 12 يوما في عام 2011 وتم حلق رأسه وصعقه بالصدمات الكهربائية والضرب بالعصي البلاستيكية وأجبر على تناول الطعام بالقوة والنوم على الأرض مع 40 آخرين في أحد أركان الغرفة. “وكانت معظم الأسئلة: هل أنت شيوعي؟”، وأضاف: كان أحد المعتقلين من دارفور وتعرض للضرب المبرح حتى كاد أن يفارق الحياة.
ويعتقد محمود أن الانتفاضة ضرورية وحتمية في السودان، ولا بد أن تحدث، لأنه ليس هناك طريقة أخرى للتغيير، فكل شي يتدهور بدا من الحياة اليومية، والتعليم، والحياة الثقافية. لقد بدأت أولى خطواتي في الهندسة والآن إما أن أذهب إلى السعودية أو أتعرف على شخص يساعدني في الحصول على وظيفة لائقة. يتخرج الطلاب هنا وهم يحملون فكرة السفر إلى الخارج للعمل، حيث لا توجد وظائف هنا.
خلال الأشهر الأربعة الماضية، فقط، غادر السودان أكثر من 4آلاف شخص من أصحاب الكفاءات من المدرسين والأطباء وفقا لحزب الأمة المعارض. فالاقتصاد في حالة احتضار ويصارع النقص الحاد في العملة الصعبة اللازمة لدفع ثمن واردات الغذاء والدواء في أعقاب خسارة ثلاثة أرباع إنتاج النفط بسبب استقلال جنوب السودان في عام 2011. وُيتهم البشير بالفشل في تنويع الاقتصاد للتعويض على خسائر النفط.
العقوبات التجارية الأمريكية أصبحت واضحة في غياب شركات عالمية مثل أبل، وجوجل، ماكدونالدز، وبطاقات الائتمان بدأت بالتراجع أيضا، وأدت بشكل كبير إلى قطع السودان عن الأسواق المالية العالمية. وقد صل التضخم إلى نسبة 40 بالمائة، وأصبح كيلو من لحم البقر يكلف الآن حوالي ٩ دولار أمريكي على الأقل. وتقول منظمة اليونيسيف إن أكثر من 4 مليون طفل لديهم احتياجات إنسانية حادة، وأكثر من نصف مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، وهذه الحالة تعتبر واحدة من أكبر أزمات المجاعات التي حدثت في العالم، وفوق كل هذا هناك تدفق اللاجئين من جنوب السودان الذي مزقته الحرب مع أن معظم ميزانية الحكومة تذهب بالإنفاق على الأمن.
هل نضجت الثورة؟ ربما حيث يواجه المتعلمون من مستخدمي أجهزة الحاسوب مهمة شاقة للتواصل مع الفقراء والمهمشين في بلد شاسع، حيث واحد من كل خمسة أشخاص يستطيع استخدام الإنترنت. وأشار دبلوماسي غربي إلى أن الخرطوم تفتقر إلى ميدان عام كبير يمكن أن يصبح نقطة تجمع بالمقارنة مع ميدان تيانانمين أو ميدان التحرير في مصر. وسوف تكون مهمة شاقة لأي شخص لتوحيد العرب وغير العرب في المناطق الحضرية والريفية والفصائل السياسية والطبقات الاجتماعية المختلفة المتنافسة تحت راية واحدة.
وقال عوض محمد عوض، 51 عاما، ناشر ورئيس تحرير إحدى الصحف: “أعتقد أن الناس مستاءون من الحكومة ولكن من المعارضة أيضا. يقول الناس إننا نفتقر إلى زعيم. نحن بحاجة إلى قائد واحد جدير بالثقة وسوف يقوم الشباب بإكمال المهمة. ونحن ما زلنا في انتظار هذا القائد البطل ليظهر، ثم نقوم بدفعه إلى الأمام.
أسامة محمد، 32 عام، وهو ناشط لدية أتباع كثر عبر الانترنت ويعتقد أنه يمكن القيام بالثورة. وأوضح قائلا: “إن المجتمع السوداني يتمتع بطابع اجتماعي متميز. الناس ترتبط جدا مع بعضها البعض. السودان مثل برنامج فيسبوك على الأرض، إلا أننا لا ننتبه لبعضنا البعض في الشارع. الذهاب إلى أي حي في السودان والتحدث إلى الناس في غاية السهولة. أستطيع الذهاب إلى أي مكان في الخرطوم وأشعر بالأمان، بما في ذلك الأحياء الفقيرة جدا”. واعتقل محمد في عام 2012، ويقول إنه تعرض للضرب بالأنابيب البلاستيكية بعد نشر تغريدة.
وكان من بين المئات من السجناء السياسيين الذين أمروا بالنوم على الأرض وأكل طعام فاسد يحتوي على الديدان. احتجز المعتقلون في زنزانة لمدة شهرين ولم يسمح لهم بخطوة للخارج حتى لبضع لحظات، وسقط العديد منهم مرضى نتيجة الإعياء الشديد.
وتوقع محمد أن شيئا ما سيحدث. الاقتصاد هو الذي سيغير قواعد اللعبة. الحكومة غير قادرة على إيجاد إستراتيجية وحلول من شأنها تغيير الأمور نحو الأفضل. إذا ازداد الاقتصاد سوءا، فإن كل شي سيخرج عن عقاله، فالناس لن تكون قادرة على تحمل أي شيء، وسوف يصلون إلى مرحلة أنهم ليس لديهم أي شي ليخسروه.
بقلم: ديفيد سميث / الخرطوم