أسدل الستار علي ما سمي «محاكمة القرن» في مصر بتبرئه للرئيس المصري المخلوع «حسني مبارك»، ليكشف عن كواليس المسرح، والدور الخليجي في تبرئة مبارك والانقلاب علي ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 التي حاكمته، والدعم غير المحدود لدول الخليج للثورة المضادة، حتى أنتهي الأمر بانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 ضد الرئيس (الإخواني) المنتخب «محمد مرسي»، وما تبعه من إغداق علني للدعم المالي للمشير «السيسي».
فقد رفضت الإمارات والسعودية والكويت محاكمة «مبارك» حتى لا يتكرر الأمر بثورات شعبية ضد حكامها في الخليج وتصبح مصر وثورات الربيع العربي قدوة للمعارضين في دول الخليج.
وعندما شعر «مبارك» بأن الحبل يضيق علي رقبته، قبل نجاح الثورة، لجأ إلي أصدقائه من ملوك ورؤساء الدول العربية لكي يكونوا جدارا عازلا يمنع محاكمته، وسعت أبوظبي والرياض لممارسة ضغوطا كبيرة علي مصر ليبقي «مبارك» حرا دون محاسبة، ومنحته السعودية فرصة أخري للإنقاذ وسمحت بإذاعة تسجيل صوتي له عبر قناة «العربية» يدافع فيه «مبارك» عن نفسه متوعدا كل من يتحدث عن فساده.
وبعد تنحيته زاد الضغط لمنع محاكمته عبر منع الدعم المالي عن مصر كي تسقط الثورة، وتشويه ثورة 25 يناير، وتحولت دبي إلي قبلة ومقر لأنصار مبارك الهاربين.
وعندما قدم «مبارك» للمحاكمة كان سلاح المساعدات والاستثمارات في مصر هو قوة الضغط لمنع محاكمة «مبارك»، وعرضت مبادرات لاستضافته في الإمارات بحكم وجود علاقات بيزنس بين أسرته والأسرة الحاكمة في الإمارات، وحاولت دول خليجية لعب أدوار غريبة في المشهد الأخير وظهرت كما لو أنها تدعم الثورة المضادة في مصر، مستخدمين أسلحة ضخمة في أيديهم من نوعية التلويح بورقة طرد العمالة المصرية من تلك الدول وعدم السماح لأي مصري بالعمل علي أرضها لو تمت محاكمة «مبارك».
وقبل إذاعة التسجيل الصوتي الأخير لـ«مبارك» كانت الضغوط العربية تشتعل ووصلت إلى مداها عبر رسائل واتصالات متبادلة بين تلك الدول والمجلس العسكري بجانب لقاءات لمبعوثين ووزراء خارجية مع المشير «حسين طنطاوي» وكانت الحجة التي تسوقها تلك الدول عبر «ضاحي خلفان» وغيره هو أن محاكمة «مبارك أمر معيب وأن الرجل قدم أدوارا كبري للعالم العربي خاصة في حرب الخليج كما انه ساعد علي استقرار المنطقة دون حروب كبري مع «إسرائيل».
وأبلغ العاهل السعودي المجلس العسكري حينئذ استعداد المملكة التام لاستضافة «مبارك» وأسرته بشكل رسمي ومنحهم الجنسية السعودية هربا من الضغوط الشعبية التي تريد محاكمته للحفاظ علي صورة وهيبة «مبارك»، كما عرضت الإمارات نفس العرض عندما قام «عبدالله بن زايد» وزير خارجية الإمارات بزيارته المكوكية أثناء الثورة .
وعندما فشلت الضغوط ولم يستطع المجلس العسكري السابق الاستجابة لمطالبة بسبب ثورة الشارع المصري والخشية من انفلات الأوضاع كليا، أوعزت حكومات الخليج لمستثمريها ورجال أعمال بلعب دور أخر بالضغط علي الاقتصاد المصري، فـ«الوليد بن طلال» عرض علي الحكومة المصرية أثناء مناقشة عقد بيع 100 فدان في توشكي له بالمخالفة للقانون، دفع مبلغ 4 مليارات دولار مقابل عدم محاكمة «مبارك» وأي من أفراد أسرته ولكن الطلب قوبل بالرفض.
وظلت تلك الدول تحاول صنع مطبات لكي لا تسير محاكمة «مبارك» في الاتجاه الصحيح في موقف مضاد للثورة، واختصار مصر في شخص «مبارك»، ما قابله الثوار بالتمسك بتقديم «مبارك» للمحاكمة وهو ما تم بالفعل بعد قرار النائب العام حبسه 15 يوما علي ذمة التحقيق في الاتهامات الموجهة إليه.
فقد رفضت الإمارات استضافة رئيس الوزراء «عصام شرف» وألغت زيارته للإمارات، كما رفضت الإمارات تجديد تصاريح العمل للمصريين العاملين هناك، ووصلت تهديدات إماراتية بسحب استثماراتها من مصر وتشريد آلاف العمال، وقالوا لتبرير هذا أن السبب هو عودة أو بداية حدوث تقارب بين مصر وإيران، بما اعتبرته الإمارات يشكل خطرًا علي أمن الخليج، بينما الحقيقة أنه كان نوعا من الضغط لصالح مبارك لإجبار مصر علي عدم محاكمته.
ثوار يعترفون بضغوط الخليج
والغريب أن بعض ثوار 25 يناير – الذين تحولوا حاليا وتحالفوا مع الحكم العسكري – مثل الناشط السياسي بحركة كفاية «جورج اسحق» هددوا وقتها السعودية بفضح هذه المحاولات وقال: «علي السعودية والدول التي تضغط لمنع محاكمة مبارك أن تكف أيديها عن مصر فلن يستطيعوا تكرار سيناريو البحرين فالثورة التي اندلعت للقضاء علي الفساد لن تقبل أن يتدخل أحد ليعارضها ويقضي علي أهدافها وعلي رأسها محاكمة المفسدين».
بل وحذر «إسحق» الدول العربية من استمرار الضغوط التي تأتي بنتائج عكسية دائما، وقال «إن مبارك الذي يتلاعب لمنع محاكمته في جرائم السرقة ونهب المال العام ويستعين بأصدقائه سيحاكم سياسيا وساعتها لن تستطيع أي دولة مهما كانت أن تقف في وجه الثورة مرة أخري فمصر أعلم بما يحدث فيها وسوف يستمر الضغط الشعبي والمظاهرات المليونية مندلعة إلي أن يحاكم مبارك».
اعتراف رسمي بضغوط الخليج
وقد اعترف «فؤاد رياض» قاضي «المحكمة الدولية» وعضو لجنة استرداد الأموال من الخارج، «إن هناك ضغوطا أجنبية وليست عربية فقط لمنع محاكمة مبارك وأسرته، والتهديد بمنع المساعدات الاقتصادية لو تمت محاكمة مبارك ورجاله».
ولهذا لا يمكن الفصل بحال من الأحوال بين الموقف الخليجي (الإماراتي والسعودي تحديدا) الرفض لثورة 25 يناير ومحاكمة الرئيس المصري السابق «مبارك»، وبين ما جري خلال محاكمة «مبارك»، ما واكبها من دعم مالي وسياسي وإعلامي خليجي للثورة المضادة بدعاوي مكافحة خطر «الإخوان» أو التطرف، والنجاح في استقطاب بعض الثوار الشباب، وصولا إلي دعم انقلاب «السيسي» علي الثورة بشرط إطلاق سراح «مبارك وعدم تجريمه، ولعبت الثغرات القانونية وألاعيب القضاء دورا في الوصول إلي النتيجة النهائية بتبرئة «مبارك بل والبحث عن تعويضه عن سنوات سجنه.
أيضا تحدث السفير «د.عبد الله الأشعل» مساعد وزير الخارجية السابق عن العلاقات بين «آل مبارك» وشيوخ الخليج ككل باعتبارها «علاقات حميمة» يمكن وصفها بعلاقات آثمة قذرة ومشبوهة تتمثل في دعمه ومساعدته علي سرقة المال العام، إما من أجل تقديمه لشركاتهم في صورة تسهيلات وامتيازات وإما لتحويله إلي حسابات بنكية تدور داخل أسواقهم وتدعم اقتصادهم علي حساب تجويع الشعب المصري، أشبه بعمليات غسيل الأموال القذرة وإخفائها في بنوك «إسرائيل» وجنوب إفريقيا وأوروبا وصولاً للإمارات والسعودية.
وقال «الأشعل» حينئذ: «للأسف الإمارات ودول الخليج ما زالت تتعامل مع مصر باعتبارها مصر مبارك الخاضعة الخانعة لإرادتهم مقابل مكاسب ومصالح شخصية له ولأسرته ورجاله».
علاقات أسرة «مبارك» بحكام الخليج
والسبب الأخر لدفاع أمراء الخليج عن «مبارك» ورفض محاكمته هو السعي لرفض محاكمتهم هم أيضا لو تم كشف العديد من العلاقات والصفقات المالية المشبوهة لـ«مبارك» ونجليه مع بعض أمراء الخليج، بحسب ما قاله العديد من الثوار وصحف مصرية حينئذ.
وقد نشرت تقارير لموقع «ديبكا» المقرب من المخابرات الإسرائيلية تؤكد أن «مبارك» وعائلته قاموا بتحويل أموالهم من بنوك سويسرا وبريطانيا وفرنسا إلي حسابات شخصية للعاهلين السعودي والإماراتي بل وتم نقل ملكية العقارات إلي أسماء إماراتية وسعودية بعقود بيع صورية.
وقيل أن زيارة وزير الخارجية الإماراتي للرئيس السابق في أيامه الأخيرة كرئيس لمصر لم تكن سوي محاولة لتظبيط الأمور المالية، وبالأسماء تحدثت تقارير نشرها الموقع الإسرائيلي عن علاقات شراكة وبزنسة بين نجلي «مبارك» ورجال نظامه وبين مستثمرين إماراتيين حصلوا علي امتيازات وتسهيلات وأراضي داخل مصر مقابل مشاركة رجال النظام في شركاتهم.
وأن تلك الشراكة التي جعل مستثمرين إماراتيون يدعمون شركات «أحمد المغربي» وزير الإسكان السابق المحبوس حاليا بمبالغ تجاوزت 15 مليار جنيه في صورة استثمارات عقارية لبناء مدينة الشيخ خليفة في القاهرة الجديدة التي ترددت أنباء قوية عن دخول «علاء مبارك» كشريك فيها.
أيضا تحدث التقرير عن «علاقات البزنسة» التي ربطت بين «أحمد نظيف» رئيس الوزراء السابق مع شركة «إعمار» الإماراتية وصاحبها «محمد العبار» التي تبلغ استثماراتها في مصر 5 مليارات جنيه معظمها في مناطق الساحل الشمالي والمقطم والقاهرة الجديدة في حين منحهم «نظيف» التسهيلات لإقامة مركز للمؤتمرات وفندق بالقرية الذكية .
أما «جمال مبارك» فأكدت المصادر للموقع الإسرائيلي، دخوله كشريك في مشروع صندوق الشيخ «خليفة بن زايد» لتوفير فرص العمل للشباب وهو المشروع الذي كانت ميزانيته الافتراضية تزيد علي مليار جنيه، في حين يتوقع أن يحقق عائدات استثمارية تصل إلي 100 مليون دولار، وهو ما اعتبره المراقبون حجر الزاوية في برنامج «جمال مبارك الانتخابي حال ترشحه لرئاسة الجمهورية، لو كان ترشح.
وقد ترددت تهديدات حينئذ مفادها: كيف سيكون حال الاقتصاد المصري المنهك أساسًا، لو انسحبت استثمارات تتجاوز الـ30 مليار جنيه، وأغلقت أكثر من 500 شركة إماراتية تعمل في مصر وتم تسريح عمالها إلي جانب طرد المصريين العاملين هناك، والذين تتجاوز أعدادهم المليون شاب؟.
أما بعد انقلاب 3 يوليو وتولي «السيسي»، فقط تبدل الموقف تماما واحتضنت الإمارات والسعودية الانقلاب ودعمته واعترفت به وواجهت الانتقادات الغربية، وتعهدت السعودية والإمارات معا بضخ 20 مليار دولار لدعم الاقتصادي المصري المتأزم.
ولهذا قالت مجلة «فورين بوليسي» في تقريرها الأخير عن هدايا نهاية العام الهجري إن: «عبدالفتاح السيسي»، الرجل الأحدث في قائمة الجنرالات الذين حكموا مصر سعيد بلا شك باستمرار تقديم واشنطن مساعدات عسكرية ودبلوماسية له، وغضها النظر عن قمعه الوحشي ضد «الإخوان المسلمين» والعناصر الأخرى بالمجتمع المدني، ولكن إذا كان لـ«السيسي» أن يشكر أحدا هذا العام، فإن السعودية والإمارات هما الأولى بذلك لدعمهما له، ومع وجود أصدقاء أمثال هؤلاء، فما الحاجة إذن للديمقراطية؟».
الخليج الجديد