قبل عقد من الزمن، قامت القوة التي احتلت العراق بحلّ جيش بغداد، وسرّحت مئات الآلاف من رجاله المقاتلين. وعاد الآلاف من هؤلاء الذين تم تسريحهم قبل سنوات في وقت سابق من العام الجاري ومزقوا شمال العراق تحت راية «الدولة الإسلامية» أو ما عُرف باسم (داعش). لقد حان وقت وضع النقاط على الحروف. تحظى الغارات الجوية الأمريكية على أهداف «الدولة الإسلامية» بترحيب قوي، ولكن في خطابه سبتمبر/آيلول الماضي فشل الرئيس «أوباما» في الاعتراف بالأخطاء الماضية التي تفسر جزئيًا صعود الجماعة – ليس فقط الأخطاء تخص سوريا في السنوات الأخيرة، لكنها تعود إلى الوراء حوالي عشر سنوات لتشمل الذهاب إلى الحرب في العراق وما ترتب عليها.
بعد حرب العراق، شرعت قوات الاحتلال في تطبيق سياسة ”اجتثاث البعثيين“، المُتمثلة في إزاحة أعضاء حزب الديكتاتور الوحشي «صدام حسين» من مواقع السلطة. ظهرت جملة من العواقب غير المقصودة والمدروس تبعاتها تمثلت في إزاحة الملايين من الجنود والإداريين وموظفي القطاع العام تمامًا كما حدث لمعظم أفراد الأقلية السنية الذين همشتهم الحكومة، مع عدم وجود فرص عمل أو مكان لهم في العراق الجديد. لا يفهم معظم الأفراد أنحاء العالم العربي الديمقراطية على أنها المساواة بين الجميع تحت سيادة القانون بغض النظر عن الدين أو العرق أو الطائفة، والجنس، لكنهم – ببساطة – يفهمونها على أنها أغلبية تحكم الجميع – لعبة المجموع الصفري– لذا فإنه في غياب أي جهد منسق لبناء ديمقراطية حقيقية، ونهاية الديكتاتورية لم يكن هناك سوى مزيد من الانقسام الطائفي.
لقد أصبحت النظرةُ الضيقة لاجتثاث حزب البعث واضحة بمجرد سحب القوات الأمريكية. انضمت أعداد كبيرة من هؤلاء الجنود السابقين في شمال العراق إلى التمرد ضد الحكومة. هذه هي الصورة الأكبر التي يجب علينا إدراكها لإعطاء عقولنا فرصة استيعاب النجاح الذي تحقق مؤخرًا لما يُسمى بـ«الدولة الإسلامية». وقدّر وزير الداخلية العراقي السابق فلاح النقيب أن «الدولة الإسلامية» لا تمثل أكثر من 15% من القوات المناهضة للحكومة في العراق. إنها مجرد هو رأس في رمح ضمن أجندة مختلفة جدًا.
لقد أصاب الذهول عددًا من المراقبين عندما سيطرت «الدولة الإسلامية» على مدينة الموصل الشمالية، لأنهم فشلوا في إدراك أن هناك تمرد قائم بالفعل بقيادة «عزت إبراهيم الدوري» – أحد كبار القادة العسكريين ونائب الرئيس السابق صدام – والذي يُعدُّ المحرك الفعلي والمتحكم في تنظيم «الدولة الإسلامية». ورغم أن أعلام «الدولة الإسلامية» السوداء تطير الآن فوق الموصل، إلا إن البعثيين هم من يديرون شئون المدينة – عبارة عن ضباط جيش سابقين يحظون بدعم العديد من المدنيين وحتى الشرطة. وفي الوقت نفسه، فإن القوات العراقية المتعاطفة استسلمت ببساطة وانضمت إلى المتمردين. وهذا أيضا يفسر كيف حصلت «الدولة الإسلامية» على مخزونات الأسلحة الكيميائية كما ذُكر مؤخرا – تم تخزينها من قبل البعثيين السابقين – وكذلك الطيارين أصحاب الخبرة سيقومون بتدريبهم على الطيران ليستخدموا الطائرات المقاتلة التي استولوا عليها في سوريا بعد اجتياح قاعدة (طبقة) الجوية العسكرية وأعدموا مئات الجنود بصورة وحشي.
ويقود الدوري الآن جماعة مسلحة تُسمى «النقشبندية» تظهر في شكل صوفي، لكن في حقيقتها هي عشيرة بعثية تحاول جاهدة أن تقدم بديلاً معتدلاً ودودًا لا يجد المجتمع الدولي حرجًا من الاتصال به لرد الاعتبار للنظام البعثي.
هناك من البعثيين من لم ينضم إلى مجموعات مسلحة مثل «الدولة الإسلامية» لكنهم سيواصلون تمردهم وقد عرفوا طريقهم الذي سيسيرون فيه. ويشير معنى الإسم الذي اختاره التنظيم «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق» إلى مناطق سنية في العراق وسوريا يسيطرون عليها الآن. لقد استفاد البعثيون من الحرب الأهلية في سوريا والتمويل والدعاية والدعم السياسي المتاح من المملكة العربية السعودية وقطر ورجال الدين المتشددين، ليعلنوا تأسيس جماعة إرهابية بهدف وحيد يتمثل في خلق حالة من الخوف لدى المجتمع الدولي. لقد كان التغيير السري لاسم هذه المجموعة ببساطة إلى «الدولة الإسلامية» بمثابة تهديدلإجبار الغرب على طلب المساعدة من البعثيين السابقين بالتزامن مع رسائل الدعم من حركة طالبان الباكستانية، وتعاظم تهديد الجهاد العالمي أكثر من مجرد صراع إقليمي.
لقد عرف البعثيون متى يأتون استجابة لطلب المجتمع الدولي منهم المساعدة للتخلص من هذا ”الشبح“ المحارب، وهذا سيتحقق إذا لاقت شروطهم قبولاً، فضلاً عن ضمان حصة لهم في أي حكومة مُقبلة. وصرح الجنرال السابق مزهر القيسي لـ«بي بي سي» هذا الصيف أن البعثيين أقوى بكثير من البربريين الداعشيين؛ والذين لا يمنكهم السيطرة على الموصل بمفردهم، ولا حتى يستطيعون هزيمة أنفسهم إذا أرادوا. في حقيقة الأمر؛ البعثيون ينتظرون خيطًا يُرمى لهم ليلتقطوه ومن ثمّ يعودون.
الفيديو الذي بثه التنظيم عن قطع رأس مدنيين ما هو إلا جزء من استراتيجية البعثيين، لكن هدفهم الأسمى كما وصفه أحد المسئوليين البارزيين ليست الخلافة – الأهداف المعلنة لداعش – التخلص من الحكومة الطائفية، إنهاء ذلك الجيش الفاسد، والتفاوض مع المنطقة السنية. في الحقيقة؛ الحكومة العراقية ليست طائفية، لكن عزلها للبعثيين السابقين الذين تصادف أن يكون معظمهم سنة بالتأكيد يجعلها غير معبرة عن الكل ومُهددة بالسقوط في أي وقت.
وأصدرت جماعة الدوري في يوليو/تموز الماضي بيانًا يدين الطائفية واضطهاد المسيحيين واليزيديين. وبعد أن رأى العالم الوجه الأكثر رعبًا من المتشددين الإسلاميين في شكل «الدولة الإسلامية»، خرج البعثيون ليقدموا أنفسهم بثوب جديد معتدل من الممكن أن يكون البديل لما شاهده. وإذا كانوا على استعداد الآن لإعادة التعامل مع حلفائهم السابقين وأنذلك هو أفضل الحلول المتاحة فعندئذٍ يجب تبديد أي أوهام حول دورهم (البعثيين) في إنشائها في المقام الأول.
وفي الوقت ذاته؛ فإن الرد على إقصائهم ليس التقسيم، وهو ما يعني إعادة رسم خريطة المنطقة بأكملها. علينا أن لا نفقد الأمل في فوات الوقت لتجنب هذا السيناريو الرهيب؛ والذي بكل أسف تتجه إليه المنطقة. البديل هو دمج الجميع في الدولة العراقية على أساس سلمي غير طائفيٍ شامل يطبق الديمقراطية. وهناك أيضا درس هام بالنسبة لسوريا؛ حيث يتعين أن تكون أي تسوية سلمية ونهائية تتسم بالشمولية التامّة والديمقراطية.
ريبال الأسد، هافينغتون بوست