“أنا أنتمي”، كلمة تبدو سهلة لكن وزنها ثقيل لدى ملايين من الناس المحرومين من أبسط حقوقهم المدنية ومن حق الانتماء إلى بلد ما. أشخاص ليس بوسعهم التعلم أو العلاج بل حتى الحصول على شهادة ولادة أو وثيقة وفاة رسمية لكونهم من فئة “البدون”.
اللفظ قاس، إلا أن قسوته لا تساوي شيئا أمام ما تعانيه هذه الفئة في بلدان عديدة لاسيما في منطقة الخليج العربي حيث يعيش الآلاف من “البدون” على هذه الأرض منذ أجيال من دون التمتع بحق المواطنة.
البدون.. “إعدام مدني”
تعتبر الجنسية الرابط القانوني بين الدولة والفرد، ومن هذا المنطلق فإن امتلاك الجنسية أمر ضروري للمشاركة الكاملة في المجتمع وللتمتع بكامل الحقوق المدنية والسياسية.
وفي حالة البدون، فإن عدم حملهم لجنسية البلد الذي يعيشون فيه بل عدم امتلاكهم لأية جنسية يجعل منهم مقيمين بصفة غير شرعية و”لا مواطنين” إذا صح القول.
معاناة تبدأ فصولها منذ الولادة إذ يحرم الوليد من شهادة الميلاد، سواء كان أبواه من فئة البدون، وحتى في حال كانت الأم تحمل جنسية ما، فإن جنسيتها لا تمرر لطفلها، نتيجة للتمييز الذي تعاني منه المرأة في قوانين الجنسية في معظم الدول العربية، حسبما نشر موقع “منظمة بدون”.
وتستمر مأساة طفل البدون مع بلوغه سن التعليم ليجد نفسه محروما من حق الالتحاق بالمدرسة. وإن توفرت له هذه الفرصة فإن تحصيله العلمي يتوقف عند الشهادة الثانوية إذ يكون مضطرا للالتحاق بإحدى الجامعات الخاصة وتحمل تكاليفها الباهظة.
إضافة إلى ذلك، لا يسمح له بالاستفادة من الخدمات الطبية أو العمل أو السفر، وإذا قرر الزواج فإن زواجه لا يوثق في المحكمة بشكل رسمي.
ووصف النائب في البرلمان الكويتي حسن جوهر الوضع الذي يعيشه “البدون” بأنه أشبه بـ”الإعدام المدني”. وحمل الحكومة الكويتية سبب معاناة أكثر من 100 ألف شخص “يعيشون على أرض الكويت في ظروف نفسية ومعيشية قاسية، وكذلك حرمان قرابة 50 ألف طفل من التعليم”.
وخلافا لكل المآسي، فإن معاناة البدون سواء في الكويت أو غيرها من البقاع لا تنتهي مع الوفاة، حيث أن المتوفى من هذه الفئة يحرم من حقه بالحصول على شهادة وفاة كما حرم قبلها من العيش حياة كريمة.
من هم البدون؟
يصعب تحديد أعداد فئة منعدمي الجنسية على وجه الدقة، وذلك لعدة أسباب منها التعتيم الذي تمارسه بعض الأنظمة حول الموضوع، غير أنه حسب إحصائيات نشرتها المفوضية العليا للاجئين فإن الظاهرة تمس ما يفوق 10 ملايين شخص عبر العالم ومنهم مئات الآلاف في الدول الخليجية.
وحسب منظمة “بدون”، فقد نشأت الظاهرة مع تكون الدولة الحديثة والهوية الوطنية، حيث توجب على الدول الناشئة أن تعرف نفسها عن طريق ترسيم الحدود وتحديد من هم سكان الدولة ضمن هذه الحدود.
وخلافا للتعريف السائد عن البدون، فإن حالات انعدام الجنسية لا تقتصر على البدو فقط بل تشمل أعدادا من المهاجرين تركوا بلدانهم لأسباب اقتصادية أو دينية أو بسبب الحروب ليستقروا في منطقة الخليج العربي.
وما يزيد من تأزم هذا الوضع السياسات التي تنهجها بعض الأنظمة الخليجية التي تعتبر الجنسية امتيازا تمنحه الدولة ويمكنها أن تأمر بسحبه في حال الخروج عن “ولي الأمر” أو نشر تغريدات معادية للحكم مثلما حدث مؤخرا في البحرين في حق بعض النشطاء الحقوقيين.
حسب المفوضية العليا للاجئين، من الممكن الحد من ظاهرة البدون من خلال اعتماد تشريعات وإجراءات ملائمة في مجال الجنسية، فضلا عن مصادقة الدول وتنفيذها لاتفاقية 1961 لتخفيض حالات انعدام الجنسية. فما الذي أنجزته الدول العربية لإنهاء معاناة هذه الفئة المجتمعية؟
جوازات في المزاد العلني
لا يزال عرض السلطات الكويتية لجوازات سفر قمرية على عديمي الجنسية على أرضها يشغل المغردين على موقع التواصل الاجتماعي تويتر ويثير شجب الناشطين الحقوقيين الذين وصفوا الإجراء بأنه “أول عملية تصدير للبشر في الكويت” وأنه تجسيد للعنصرية ضد فئة البدون.
وتعقيبا على الأمر، قال مساعد وكيل وزارة الداخلية، مازن الجراح إن البدون سيحصلون على استمارات لطلب “المواطنة الاقتصادية” لجزر القمر وإن الموافقين على العرض سيمنحون إقامة مجانية في الكويت، إضافة إلى سلسلة من المحفزات مثل التعليم المجاني والرعاية الصحية والحق بالوظيفة.
وفي هذا السياق، وجه مغرد سؤالا للحكومة الكويتية لمعرفة إذا ما كانت جنسية المواطن حق يولد معه أم هبة تمنح ويمكن سحبها في أي وقت.
وقال أحمد العنزي من جانبه إن “الجذور التاريخية لشعوب الخليج أقدم من الأنظمة نفسها التي تمارس قوانينها الجائرة في سحب جنسية المواطن”.
أما مغردون آخرون فقد لجأوا إلى استعمال روح الدعابة للتنديد بالعرض القمري، وكتب أحدهم أن الكويت التي تصدر النفط أصبحت مصدرة للبشر كذلك.
والعرض القمري ليس بالجديد، إذ سبق للإمارات أن استفادت منه وخيرت البدون على أراضيها إما بقبول جنسية جزر القمر أو التعامل معهم كمقيمين غير قانونيين ليكون مصيرهم السجن أو الترحيل.
وخلال الأشهر الماضية، تداولت بعض وسائل الإعلام خبر بحث الحكومة المصرية مقترحا لمنح الجنسية إلى عرب وأجانب ومن بينهم فئة البدون في دول الخليج، مقابل ودائع، لكن مصادر مصرية مسؤولة نفت الأمر وقالت إن صندوق تمويل بناء مصر يتضمن برامج استثمارية لجذب الأثرياء والمستثمرين العرب.
جنسيتي.. حقي
من المفارقة أن يتزامن عرض منح الجنسية القمرية مع إطلاق المفوضية العليا لشؤون اللاجئين حملة دولية تحت شعار “أنا أنتمي” للقضاء على ظاهرة البدون.
وفي هذا الصدد، طالبت المفوضية الدولية بأن تعمل الدول على إيجاد حل لهذه الظاهرة “اللاإنسانية” لا سيما بتمكين المواليد الجدد من حقهم في الحصول على شهادات ميلاد.
ونبه المفوض السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس إلى أنه في “كل عشر دقائق يولد طفل بدون جنسية في مكان ما في العالم”، واصفا هذا الوضع بأنه “خلل خطير غير مقبول في القرن الـ21”.
ويشارك في الحملة عشرات المشاهير الذين وجهوا رسالة إلى العالم بأسره بأن “انعدام الجنسية يعني حياة بدون تعليم وبلا رعاية صحية أو عمل رسمي، حياة بدون حركة وبدون أمل ولا أفق للمستقبل”.
وللترويج للحملة، نشرت المفوضية على حسابها على تويتر مجموعة من الشعارات تدافع عن حق عديمي الجنسية في الزواج والتعليم والوثائق الثبوتية.
سوا