تداول نشطاء سعوديون على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، رسالة قيل إنها من الداعية الإسلامي محمد العريفي، إلى ابن عمه “أبو عمر” المعتقل في سجن الحاير السياسي بالرياض، كتبت في تاريخ 17 نيسان 2011.
الرسالة أعاد نشرها الشاب “صقر العريفي”، الذي يضع صورته مع الشيخ محمد العريفي، كصورة شخصية له في “تويتر”، مما يرجح أن يكون أحد المقربين منه، معلقاً عليها: “رسالة الشيخ محمد العريفي لابن عمه أبي عمر يوم أن كان معتقل وها هو التاريخ يعيد نفسه”.
وبالرغم من عدم ورود اسمه العريفي أدنى الرسالة التي قيل إنها موجهة لابن عمه، وتذييلها باسم “أبو الحاكم”، بدلاً من “أبو عبدالله” (كنية العريفي)، إلا أن نشطاء قالوا أن عدم ذكر اسمه كان لدواع أمنية، وأن الرسالة صحيحة بالفعل.
وتالياً نص الرسالة كاملاً:
“الحمد لله الذي جمع قلوب أهل حبه على طاعته..
وأورثهم من الخيرات ما نالوا به كرامته..
أحمده سبحانه فهو الذي يكرم من أحب من عباده بالابتلاء..
ويرفع قدرهم على الكبار والدهماء..
يفرحهم بلقائه.. ويقربهم إليه ببلائه..
يراهم في خلوات سجونهم.. يمرغون بين يديه وجوههم..
ويتمتمون : سبحانك ربنا.. لك الحمد كله..
إن تكُ ابتليت فطالما عافيت.. وإن تكُ أحزنت فطالما أفرحت..
وإن تكُ أخذت فطالما أعطيت.. وإن تكُ ضيّقت فطالما وسّعت..
فلك الحمد كله.. نعم لك الحمد كله.. يسمعها منهم ربهم..تلهج بها ألسنتهم.. وهو أعلم بصدقهم..
يراهم يتقلبون على فرشهم.. بلا زوجة تلامس.. ولا طفل يؤانس..
ينظر إلى وجههم المشرقة بعين رحمته.. يراهم أزِلِـين قَـنِـطِـين.. وهو يعلم أن فرَجَهم قريب..
أما بعد..
إلى شقيق القلب.. ونسخة الروح.. إلى أبي عمر العريفي..
وصلتني رسالتك قبل يومين.. فيها أخبارك وأنت حبيس عند القوم في سجن الحائر.. وبقدر ما سرني ما ذكرت فيها من حسن حال ومقال.. إلا أنها حركت أشجاني وذكرتني بأيامٍ خوالٍ.. وفرحت لما رأيت خط يدك..
أبو عمر.. أرجو أنك بخير وعافية..
أما أنت.. فروحك وقلبك وراحتك النفسية أنا واثق أنها على أحسن حال..
وكيف لا يكون حالك في رضا واطمئنان وأنت تتقلب في نعيم الأنس والقُرب من رب العالمين..
أما أنا.. فأحبك والله.. ومشتاق إليك..
ولو كان الأمر بيدي لأتيتك ولو حبواً..
ولكن حيل بيني وبين ما أشتهي.. بما لعله بلغك خبره..فازددت لذلك حيرة وحرجاً مع أحبة قدرهم عندي كقدر روحي التي بين جنبيّ.. وأنت أولهم..
هكذا الدنيا.. تسُرّ وتغُرّ.. وتعطي وتمنع.. وتضحك وتُبكي.. وتحزن وتُفرح..
والسعيد من شكر عند سرّائها.. وصبر عند ضرّائها.. وأظنك من أسعد الناس في ذلك..
أبو عمر..
كلما رأى محبُّك نعمة تجددت عليه.. أو دنيا أقبلت إليه.. أو باب دعوة فتح بين يديه.. تذكر ذلك الشاب الذي سألالشافعي : هل يُـمَـكّن الرجلُ أم يُبتلى ؟
فعجِب الشافعي من هذا السؤال وقال : لا يُـمَـكّن الرجلُحتى يُبتلى..
نعم.. ” أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون “..!!
سبحانك ربنا ما أعظمك..
لعلك تذكر يا عديل الروح.. قبل ستّ عشرة سنة بالتمام.. لما اقتيد مُحِبك إلى السجن في ليلة شديد ظلامها.. كثيرنوامها..
لما أفزعه القوم إذ تسوّروا الدار.. فلم يعِ إلا وهم في الصالة الداخلية ينادونه صارخين مفزعين..!!
لا أزال أستشعر تلك الكلبشات تقيد يدي.. لما وضعوها في معصمي.. كانت صغيرة ضيقة.. ومع ذلك أحكموا إغلاقها..
كانوا فرقة من المباحث.. لم يوَفّقوا تلك الساعة لأسلوب حسن..
لعلي حدّثتك بعدها أني صعدت بهم.. أو صعدوا بي إلى الطابق الثاني لتفتيش المكتبة.. قلّبوا كل شيء.. كتبي.. حقائبي.. أدراجي.. لم يجدوا شيئاً..
وحدّثتك كيف أنهم لما أرادوا دخول غرفة النوم.. ليفتشوها..!! حملتُ أطفالي الصغار بيدي المكلبشتين.. أنقلهم إلى غرفة أخرى.. والصغار يفتحون أعينهم ينظرون إليّ..يترقبون ما تعوّدوه من لمسة أبوية على رؤوسهم.. ولا يدرون عن ما رُبِطت به يداي..
لا تزال في قلبي لذة تلك السكينة التي أنزلها الله تعالى عليّ في تلك الساعات.. ووالله إنني اليوم كلما تذكرتها تعجبت منها..
كانت لحظات مؤلمة.. وساعات حزينة..
نعم حزينة.. أن يشعر الرجل أن قوماً هجموا عليه في داره.. وهو لا يذكر جرماً ارتكبه.. أو سبباً يدعو لهتك ستر بيته.. وترويع أمنه !!
لحظات حزينة.. أن يحبس الرجل العفيف زوجته وأطفاله في غرفة.. وهو مربوط اليدين.. لا يملك من أمره ولا أمرهم شيئاً..
والأعظم ألماً.. لما تناديك زوجتك.. ما الخطب ؟ إيش الحاصل ؟
وأنت ترد عليها بعبارات عامة.. اطمئني.. لا شيء.. شيء بسيط وينتهي.. وتعيد كلمات كهذه تشق هدوء المكان وأنت تعلم أنها لا تصدقها..
لكن المسكينة تكتفي بها.. وتسكت.. وهي تطل عليك من النافذة وأنت تُقاد بقيدك إلى سيارة جيب المباحث.. تنظر المسكينة إليك وهي تتحسس جنيناً في بطنها في أيامه الأخيرة.. يدفع بطنها وكأنه يقول.. أرجوكم نظرة واحدة إلى أبي قبل أن يُـغَـيِّبه الـجُـبُّ..
لعلي حدثتك.. كيف اقتادوني إلى الحبس..
ولبثت ما لبثت دون تحقيق.. لأزداد حيرة إلى حيرتي..
لعلي حدثتك أيضاً.. كيف لبثت في السجن بضع شهور.. وكيف كنت بين جدران أربعة.. في زنزانة ضيقة.. أستجدي السجان بين فينة وأخرى أن يخبرني : كم الساعة ؟
كانت تبلغي أخبار أمي.. وحزنها.. وسؤالها الدائم عني في كل لحظة.. فأزداد حزناً وشوقاً..
لا أزال أذكر صورة أبي.. وهو شيخ كبير.. جاءني زائراً.. فطال انتظاره في غرفةٍ كئيبة.. وقد اتكأ بخده على يده.. لا يملك من أمري ولا أمره شيئاً.. حتى إذا رآني أمشي مقبلاً إليه من زنزانتي.. قام يستقبلني مُحاولاً التجَـلُّد.. لكنه لم يتمالك عبراته.. ثم لم يزرني بعدها.. حتى خرجت..
كان ولا يزال عاطفياً سريع الدمعة..
وأذكر أنك يا أبا عمر استُدعيت وحُقّق معك.. وسُئلت عني..
آآآآه.. أيام مضت.. بِـمُـرّها.. ومُـرّها.. فلا أذكر أن فيها حُـلواً !! وإن ادّعيناه !!
نعم.. أيام مضت.. وصدق قول الشافعي.. لا يُـمَـكّن الرجل حتى يُبتلَى..
فالحمد لله أن مضت تلك المحنة.. وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن.. بعدما لم يثبت مقدار شعرة مما أوقفتُ لأجله..وثبت أنها دعوى كيديه.. سيلقى كائدها وزرها..
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)..
وَعُدتُ إلى ما كنت عليه من إمامة وخطابة وتدريس في الجامعة ودعوة في الداخل والخارج..
لكن الحال اختلف.. فقد مُكِّن للعبد بعد السجن.. ما لم يُـمَـكّن له قبله.. ونسيت ذلك المر.. كأن لم يكن..
وصار ما كان من حزن ومن ألم **** كما حكى عن خيال الطيف وسنان
وأذكر أني كنت أتمتم في سجدات أتملق فيها إلى ربي في ظلمة السجن وأقول :
اللهم اجعل حالي بعد السجن خيراً من حالي قبله دِيناً ودُنيا..
وإخالُ أن هذا حصل.. فقد فُتح لي من خيري الدنيا والآخرة.. ما لو سجدت لربي على الشوك.. وحججت مشياً على الإبر.. وظللت أتلو وأتعبد.. ما قمت بشكر عُشر معشاره.. وصدق ربي لما قال :” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها “..
أبو عمر.. يا بن عمّ..
لا أدري.. لماذا عدتُ بذاكرتي سنين لأحدثك عن سجن أصابني.. وما دخـلُـكَ أنت في هذا !!
لكني تذكرت تلك المحنة لما وجدت أناملي تخط رسالة إلى سجين.. والمشاعر إذا ثارت شقّ على صاحبها حبسُها..
ووالله إن حدْسي وفراستي تقول : إنك ستجد من الخير بعد السجن أعظم مما وجد أخوك.. فقد زِيْـدَ عليك في البلاء.. لأنك أعظم إيماناً وصدقاً.. والرجل يبتلى على حسب دينه.. أحسبك كذلك.. ولا أزكي على الله أحداً.. فهو أعلم بالسرائر والضمائر.. لكننا شهود الله في أرضه..
أبو عمر..
تفكرت في حالك.. فإذا بي لا أذكر أن أحداً ذمّك في مجلس.. في حضورك أو في غيبتك..
وأظن القلوب لو كُشفت سرائرها لوجدتها لك محبة.. وإليك مشتاقة.. ولِـفَـرَجك مترقبة..
وكم رُئيت لك من رؤى مبشرة.. والرؤيا تسُرّ المؤمن ولا تغُرّه..
يا قرة عيني.. وحبة فؤادي..
من فضل الله تعالى عليك أن القوم ما سجنوك لتهريبك مخدرات.. أو تعاطيك مسكرات.. أو أنك تلطخت بإثم دماء بريئة.. أو أنفس معصومة..
ليس في صحيفة تحقيقك.. سؤال عن سرقة مال.. أو خصومة وشجاج.. أو علاقة بعصابات وتخريب..
بل.. أمر اجتهدت فيه راجياً أجراً وثواباً.. بصرف النظر هل أصبت في اجتهادك أم أخطأت..
أبو عمر.. ستذكر أيام السجن بعد خروجك منه.. فتقول : يا ليت تلك الأيام تعود بخشوعها وتلاوتها..
وربما كان سبب دخولك إلى الجنة هو هذه الأيام والأشهر التي تقضيها في السجن.. ” وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا..”..
وفضل الله تعالى واسع.. فالخير والأجر لك.. ولأهلك.. وزوجك وأبنائك..
فاصبر واحتسب.. وراجع حفظك.. وأتقِن.. وأحسن إلى إخوانك فإن الله يحب المحسنين.. عسى فَـرَجٌ يأتي به الله إنه.. له كل يوم في خليقته شأنُ..
وأخيراً.. أهمس في أذنك أني منذ أن سمعت بدخولك عند القوم.. وأنا لم آلُ جهداً سعياً لفكاكك وفكاك غيرك من إخواننا.. وآخرها اليوم كنت في وزارة الداخلية سعياً لذلك.. وقد بشروني بقرب الفَـرَج للكثيرين.. ولعلك منهم.. بل أنت منهم.. بإذن الله..
يا قرة عيني.. هذه كلمات كتبتها إليك على عجل.. وأنا على ظهر سفر.. أسأل الله أن يقر عيني برؤيتك قريباً..
اللهم أقر أعيننا بصلاح الحال.. ويكفينا ويكفي بلادنا شر الأشرار وكيد الفجار.. ويصلح الراعي والرعية.. ويحسن البطانة والعمل لمن ولاهم الله أمرنا.. آمين.. آمين..
محبك.. وابن عمك.. وشقيق روحك.. أبو الحاكم..
الرياض 16/5/1432هـ 17/4/2011م”