في بداية الأسبوع، ظهر وزير الدفاع موشيه يعلون في مركز رابين في الذكرى السنوية العشرين للتوقيع على اتفاق السلام مع الأردن. وقد تحدث عن “التحالف الإستراتيجي” بين الدولتين وأشار إلى أيلول 1970 كنقطة تحول لهذا التحالف.
في ذلك الشهر (أيلول 1970) أعلن الملك حسين الحرب على المنظمات الفلسطينية التابعة لـ م.ت.ف برئاسة ياسر عرفات، الذين أقاموا دولة داخل دولة منذ حرب الأيام الستة، وعلى مدى ثلاث سنوات فعلوا ما شاءوا في المملكة الهاشمية. كتيبة مدرعات للجيش السوري، وبأمر من الرئيس حافظ الأسد، دخلت إلى شمال الأردن لمساعدة الفلسطينيين وهددت بإسقاط نظام الملك.
بناءً على شهادة مستشار الأمن القومي للولايات المتحدة، هنري كيسنجر، فقد استجابت إسرائيل لمساعدة جارتها في الشرق، وقامت في وضح النهار بتركيز قوات جيش الدفاع في غور بيسان، وقامت الطائرات بالتحليق فوق المناطق الحدودية لتحذير سوريا، وفي نهاية المطاف هاجم سلاح الجو الأردني السوريين وكبح جماحهم لأنه عرف أن له تغطية جوية وبرية. هذه لم تكن المرة الأولى التي تنقذ فيها إسرائيل حياة الملك ونظامه، فقد حدث هذا قبل ذلك في عدة مناسبات.
على المستوى الشخصي أتذكر بداية التحالف الإستراتيجي في صيف 1970، قال يعلون: “في حينه كنت مظليا شابا. وانتظرنا في غور بيسان لأجل التوجه شرقا لمنع دخول القوات السورية إلى الأردن بأمر من الأسد ليساعد منظمة التحرير على إسقاط نظام الملك حسين. هذا الاستعداد لجيش الدفاع منع الهجوم السوري ووضع الأساس للتحالف الإستراتيجي بين الأردن وإسرائيل”، بالمناسبة كاتب هذه السطور كان جنديا في ذلك الحين وتم إرساله أيضا إلى غور بيسان.
وفي سياق الحديث أشار وزير الدفاع إلى أنه “على مدى سنوات كانت هذه علاقة سرية بين الملك الأردني الحكيم والشجاع، الذي استطاع قراءة الحقائق، وبين زعماء إسرائيل الذين فهموا أهمية الأردن ومكانتها المركزية في الشرق الأوسط والخصوصية في العلاقة معه، هذه العلاقة التي عادت بالفائدة الإستراتيجية على الدولتين، وأنقذت حياة الكثير من أبنائنا وبناتنا في الطرفين”.
لكن يعلون لم يفصل جوهر هذا التحالف السري الذي كان تعاونا أمنيا ومعلوماتيا متواصلا، حسب مصادر أجنبية. وفي عدة مناسبات تم تبادل المعلومات والنشاطات ضد من هم أعداءً مشتركين، سيما المنظمات الإرهابية الفلسطينية وحزب الله.
لقد تم الكشف عن الكثير من العلاقات السرية التي سادت قبل توقيع اتفاق السلام بين الدولتين، وكان بعضه من مصادر إسرائيلية. كل رؤساء الحكومات في إسرائيل باستثناء مناحيم بيغن، بدءًا من غولدا مئير إلى بنيامين نتنياهو، التقوا سرا مع الملك حسين.
اسحق شمير، أيضا، الذي كان رئيس الحكومة في 1987 والذي قام بإفشال الاتفاق الذي عقده نائبه شمعون بيرس مع الملك (في لقاء لندن)، التقى مع الملك سرا، وكان ذلك في يناير 1991 بعد غزو الكويت من قبل العراق، والاستعدادات الأمريكية لدخول منطقة الخليج.
حاول شمير الحصول على موافقة الملك السماح لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي بالمرور من فوق الأردن إذا اضطرت إسرائيل لضرب العراق. لكن الملك رفض ذلك، وتعهد في نفس الوقت بعدم السماح لطائرات صدام حسين بالمرور من فوق الأردن لضرب إسرائيل. الاستثناء الوحيد كان مناحيم بيغن، الذي وقع اتفاق سلام مع الرئيس المصري أنور السادات في العام 1979، ولكنه رفض اقتراحات اللقاء مع ملك الأردن.
لقاءات مشابهة بين زعماء وسياسيين إسرائيليين تمت وتتم مع ابن الحسين، الملك عبد الله الثاني، وهي بشكل علني في معظمها.
منذ 1967 يعتبر الموساد هو المسؤول الوحيد عن العلاقات بين الدولتين، وقد تم اعتبار العلاقات مع الملك على مدى السنين أمرا هاما وضروريا. ويعتبر افرايم هليفي، رئيس الموساد، الشخصية الأكثر تميزا في العلاقة بين الموساد والملك.
ويمكن القول إنه كانت للملك حسين 200 ساعة من المكالمات أو المحادثات مع الزعماء الإسرائيليين. رؤساء الموساد أحبوا الالتقاء مع الملك منذ حرب الأيام الستة، وكانت اللقاءات تتم في مقر الموساد على مفترق غليلوت وفي قصر الملك في عمان، وعلى القارب الملكي في ميناء العقبة وفي منازل خاصة في لندن وباريس.
اللقاء الأول تم في 1963 بين الملك حسين ويعقوب هرتسوغ، الذي كان آنذاك نائب مدير مكتب رئيس الحكومة، وقد تم اللقاء في منزل الدكتور هربرت عمانوئيل في الحي الفخم لسانت جونس وورد في لندن. الدكتور عمانوئيل هو يهودي الأصل، وكان طبيبا بريطانيا وصاحب عيادة (ليس بعيدا عن هارلي ستريت – شارع الأطباء)، ومن زبائنه الأغنياء السيد ماركوس زيف الذي كان صهيونيا متحمسا، ومن أصحاب شركة “ماركس آند سبنسر”، وهو مقرب من المؤسسة الحكومية في إسرائيل، وخصوصا إلى وزير الخارجية آبا ايبان.
زبون آخر مهم هو الملك حسين. وكطبيب عرف كيف يكون محافظا على الأسرار. د. بيتر كوليير –شريكه في العيادة– حدثني في 1987 عن الصداقة التي جمعت د. عمانوئيل وزبونه الأردني وعن وساطته في العلاقات بين هذا الزبون وبين إسرائيل.
كان هدف اللقاء بين حسين وهرتسوغ هو تنسيق المواقف وفحص إمكانية وجود تعاون سري، على خلفية التأييد الكبير في العالم العربي للزعيم المصري جمال عبد الناصر، وكان إسقاط النظام الملكي الأردني من ضمن أولويات مصر.
في لقائه بلندن جدد الملك حسين العلاقة التي كانت بين جده الملك عبدالله الأول مع الصهيونية، أقام عبدالله الأول هذه العلاقات في الثلاثينيات من القرن العشرين.
كانت غولدا مئير في حينه من زعماء القسم السياسي للوكالة اليهودية، وأرادت الاستفسار ما إذا كان الملك يريد الدخول إلى أرض إسرائيل حال الموافقة على قرار التقسيم، ويعلن اليهود عن دولة خاصة بهم. “أنا أوافق على قرار التقسيم بشرط أن لا يحرجوني”، قال الملك واقترح حكم ذاتي يهودي في مملكته.
وأراد الملك أن يعرف رد اليهود حال سيطرته على الجانب العربي في إسرائيل. لم تتوصل الأطراف إلى تفاهمات مكتوبة، ولكن هذا لم يمنع وجود تفاهمات شفوية، تعمقت أكثر في اللقاء الثاني بتاريخ 11-5-1948 وقبل إعلان الاستقلال من قبل بن غوريون بأربعة أيام.
سافرت غولدا مئير مرة أخرى للقاء الملك، في عمان، على أمل منع دخول الأردنيين، ولكنها لم تنجح بالمهمة ودخل الجيش الأردني لأرض إسرائيل، ولكن في اللقاءين اتفق الطرفان على وجود مصلحة مشتركة واحدة: منع إقامة دولة عربية أخرى (فلسطينية) بين الدولتين.
وكانت النتيجة أن الجيش الأردني المنظم والذي كان بقيادة بريطانية، استطاع كبح نفسه وعدم التسبب بالمشاكل، باستثناء بعض المواجهات في غوش عتصيون والبلدة القديمة في القدس واللطرون، وامتنع الطرفين عن توسيع المواجهات العسكرية فيما بينهم.
عام 1936، قال الملك عبدالله الأول في حوار مع موشيه شرتوك (من حزب شريت): “دائما وضعي صعب وعليكم أيها اليهود تذكر ذلك”. وبذلك استطاع أن يلخص العلاقات المميزة والخاصة بين الدولتين، فهذا التعريف يصلح أيضا اليوم. والمشكلة أنه في إسرائيل لا يتذكرون ذلك دائما.
بعد اتفاقية السلام توقع الملك حسين وحاشيته أن يروا نتائج وثمار السلام وان يتحسن الاقتصاد الأردني. وهناك صفقات اقتصادية قليلة وبالذات في مجال النسيج (بشاكير عراد قامت بنقل مصنعها للأردن) ولكن في نهاية المطاف لم يحقق اتفاق السلام رفاه اقتصادي للأردن.
والأدهى من ذلك، أنه بعد مرور ثلاثة أعوام على اتفاقية السلام قرر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس الموساد داني ياتوم، القيام بعملية اغتيال فوق الأراضي الأردنية.
من الناحية التنفيذية، كان الأمر سهلا، أما من الناحية السياسية فإنه خطر جدا. وقامت إسرائيل بإرسال افرايم هليفي الذي كان قد أنهى عمله في الموساد قبل سنوات، إلى الأردن وبشكل سريع من أجل تقليل الخسائر والأضرار السياسية. وقال هليفي إن الملك هدد بإرسال قوة عسكرية لاقتحام السفارة الإسرائيلية في عمان لإخراج الفاعلين رجال الموساد وبقطع العلاقات الدبلوماسية مع القدس.
دفعت إسرائيل ثمنا كبيرا كي تحافظ على العلاقات مع الأردن، حيث أرسلت المصل الذي أنقد حياة خالد مشعل وأطلقت سراح الشيخ أحمد ياسين من السجن.
جرت منذ ذلك الحين بعض الأحداث التي أثرت في العلاقات ولكن ليس بنفس القدر. وغياب عملية السلام مع الفلسطينيين والأحداث في القدس، كل ذلك يصعب الأمر على الملك عبدالله الذي يواجه ضغوطا داخلية كبيرة من قبل الإخوان المسلمين والمتطرفين الإسلاميين الذين يطالبون بقطع العلاقات مع إسرائيل. على هذه الخلفية جاءت تصريحاته في الأسبوع الماضي، حيث شبه داعش والتطرف الإسلامي بالتطرف اليهودي في إسرائيل.
بعد تحطم الحلم عن سلام حقيقي ومثمر، تبقى العلاقات السرية لأجهزة الأمن والاستخبارات لكلا الدولتين قائمة، وكانت موجودة أصلا. رغم كل ذلك، فإن الدولتين وبالذات الأردن هما نتاج الجغرافيا الإستراتيجية الخاصة بهم.
القيادة الأردنية تعرف أنه لكي تحافظ على بقائها واستقرارها فهي في حاجة لإسرائيل، هذا الأمر يتعزز أكثر على خلفية وجود داعش والخطر الذي تمثله هذه المنظمة. كانت إسرائيل دائما السند الإستراتيجي للمملكة الهاشمية. ولكن إلى متى؟ هذا الأمر متعلق بإسرائيل.
بقلم: يوسي ملمان / صحيفة “معاريف” العبرية