دعا مجلس “حكماء المسلمين” في ختام اجتماعه المنعقد بالقاهرة اليوم، حكام الدول الإسلامية إلى تجاوز المقاربات الأمنية والعسكرية كحل وحيد، إلى تبني حلول فكرية مجتمعية شاملة، وتحقيق العدل والازدهار لجميع المواطنين؛ بما يسهم في إطفاء نار الفتنة.
كما دعا جميع الأطراف في الأمة أن تتعلم من سيدنا الحسن رضي الله عنه الانهزام لوجه الله تعالى، لتسترجع الأمة عافيتها وتتحد كلمتها، في إشارة إلى تخلي حفيد النبي صلى الله عليه وسلم عن السلطة لصالح معاوية بن أبي سفيان حقنًا للدماء.
و”مجلس حكماء المسلمين” هو هيئة إسلامية عالمية، تضم مجموعة من كبار علماء الأمة العربية والإسلامية ومفكريها، والذي تم إنشاؤه تنفيذًا لتوصيات منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، الذي عُقِدَ بدولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة، في يومي 9و10 مارس 2014م.
ويتكوَّن من عددٍ من عُلَماء الأمَّة وخُبَرائها؛ للمساهمة في كسرِ حدَّة الاضطراب والاحتراب التي سادت مجتمعاتٍ كثيرةً من الأمَّة الإسلاميَّة، والحد من اتِّساع نِطاق استباحة حُرمة الأنفس والأعراض والأموال، وما يُحدِثُه كلُّ ذلك من آثارٍ نفسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة تَفُتُّ في عَضُدِ الأمَّة بما يُنذِر بتفتُّتها والإمعان في تقسيمها.
وانعقدت الهيئة التأسيسية للمجلس اليوم بحضور كل من الدكتور أحمد الطيب شيخ اﻷزهر، الشيخ عبدالله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، الدكتور محمد قريش شهاب وزير الشئون الدينية سابقا بإندونيسيا، الشيخ إبراهيم الحسيني رئيس هيئة اﻹفتاء بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بنيجيريا، الدكتور أبولبابة الطاهر حسين رئيس جامعة الزيتونة سابقا، الدكتور أحمد الحداد كبير مفتين دائرة اﻹفتاء في دائرة الشؤون اﻹسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي، الدكتور حسن الشافعي عضو هيئة كبار العلماء باﻷزهر ورئيس مجمع اللغة العربية.
وأعلن أعضاء الهيئة التأسيسية لـ “مجلس حكماء المسلمين” بالإجماع اختيار الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيسًا للمجلس خلال اجتماعه في القاهرة اليوم.
وفي نهاية الاجتماع أصدر المجتمعون بيانًا
جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلِّ على سيدِنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا شهدت مدينةُ القاهرة المحروسة، عاصمةُ جمهورية مصر العربية، يوم 5 محرم 1436، الموافق 29 أكتوبر 2014، الاجتماعَ الثاني للهيئة التأسيسيَّة لمجلس حُكَماء المسلمين، بحضور كوكبةٍ من العلماء والحكماء من مختلف الأقطار الإسلاميَّة، وقد تَدارَسَ المشاركون التطوُّرات الخطيرة التي شهدتها المنطقةُ في الآوِنة الأخيرة، وعلى وَجْهِ الخصوصِ حالة الاحتراب الأهليِّ وفتنة الإرهاب المتَّقدة التي اصطَلَت بشَرِّها المُستَطِير كافَّةُ المجتمعات، فدَمَّرت البلدان وأساءت للأديان.
وقد أجمَعَ الحضورُ على ضرورةِ تشكيل تيَّارٍ فاعل يتَصدّى لتيَّار العُنف والإرهاب، من خِلال فعلٍ جماعي قَويٍّ ومُنظَّمٍ يلمُّ شملَ الأمَّة ويُوحِّد جهودَ أهلِ العلم والحِكمة، ويُواكِب تطوُّرات الواقع بكلِّ تفاصيله، ليُقدِّمَ للعالمين رُؤًى مُستنيرةً مُقتبَسةً من الهديِ الإلهي، ومُستفادةً من تجارب البشريَّة، تُزاوِج بين التأصيل النَّظَري والتوصيل العَمَليِّ، وأكَّدوا أنَّ داء التطرُّف والغُلوِّ لا عِلاجَ له إلا من صَمِيم الشريعة الإسلاميَّة نفسِها، وباستخدام نفسِ اللغة والمفاهيم الإسلاميَّة التي يَستَنجِدُ بها المتطرِّفون في مَساعيهم التَّخريبيَّة، مُحرِّفين لها عن مَقاصِدها النبيلة.
وفي هذا الصَّدد شَرَعَ المجلسُ في وضع خُطَّةٍ استراتيجيَّة مُتكامِلة لتفعيل السِّلم في العالم، والإسهام في نزع فَتِيل الإرهاب بكافَّة أشكاله؛ الفكري والمسلَّح، وسوف تَعملُ لجانُ المجلس على إطلاق مُبادرات عمَليَّة مَلموسة، يُشرِفُ على إنجازها الشبابُ بتَأطيرٍ من العلماء، وتَتَغيَّى الخروجَ بالأمَّة من نفَق الفتنة المظلِم، وسيَتمُّ الإعلانُ عن هذه المبادَرات في مَطلَع السَّنة الميلاديَّة الجديدة، وهي مُبادراتٌ بعضُها مُتوجِّه إلى النَّظَر في مناهج الأمَّة وتُراثها، بهدَفِ إجراء مُراجَعات جادَّة لكثيرٍ من الأفكار الدَّخيلة الملتبِسة بلُبُوس المفاهيم الأصيلة، والتي أَوْقَعت الأمَّةَ في أتون الاحتِراب والتناحُر، وبعضها الآخَر عملي وميداني يُعزِّزُ قُدرات الأمَّة على الإسهام الفَعَّال في صِناعة السلام العالمي والدَّفع بأبنائها في مَيادِين الإبداع الفكري والاختراع العلمي بما يَنفعُها ويَنفَعُ الناسَ أجمعين.
وقد أرسَلَ المجتمِعون أربعَ رسائل مُقتَضبة إلى الشباب والأُمَّة والحُكَّام والعالم: فإلى شباب الأُمَّة نصيحةَ مُشفِقٍ أن لا يُحاولوا ما يَفوقُ طاقةَ الأمَّةِ، وعافيةَ المجتمع المسلم؛ فيُرهِقوا أنفسهم ويُرهقوا أمَّتَهم ويَستَعدُوا عليها الأممَ في غيرِ طائلٍ، ويُهدِروا القيمَ الإصلاحيَّة والشرعيَّة، وأن يُصغُوا إلى صوت الحكمة، وأن يَعلَموا أنَّ فُرَصَ العدالة مع السِّلم أفضل من فُرَصِها مع الحرب حُكَّامًا ومحكومين.
وإلى الأمَّة جميعِها بكلِّ شَرائحها وفئاتها بيانٌ وموعظةٌ – حكَّامًا ومحكومين – بوُجوب إطفاء نارِ الفتنة وحَقن الدماء، وترك النِّزاع والشِّقاق، وتحجيم الخِلاف، وأن يَجنَحوا دائمًا للحوار والتوافُق؛ فما أضرَّ بالأُمَّة شيءٌ كما أضرَّت بها الانشِطاراتُ الفكريَّة والاصطِفافاتُ الطائفيَّة، والإقصاءُ والاستِقطاب، فعلى جميع الأطرافِ في الأُمَّةِ أن تجتَهِدَ بإخلاصٍ وتجرُّدٍ، فعلى جميع الأطراف في الأمة أن تتعلَّم من سيدنا الحسن رضي الله عنه الانهزام لوجه الله تعالى، لتسترجع الأمة عافيتها وتتحد كلمتها.
وإلى ولاة الأمر دعوةٌ إلى بَذلِ كلِّ ما هو مُتاحٌ لتحقيق مستوًى من العدل والازدهار لجميع المواطنين؛ ممَّا يُسهم – لا محالةَ – في إطفاء نائرة الفتنة، وأن يُفعِّلوا الوعيَ الذي بدأ يتَشكَّل لدى كبار صُنَّاع القرار في العالم بضرورةِ الاستمداد من حكمة العلماء، وتجاوز المقارَبات الأمنيَّة والعسكريَّة كحلٍّ وحيدٍ، والعُدول عن ذلك إلى تَبنِّي حلولٍ فكريَّة مجتمعيَّة شاملة. وإلى العالم أجمع إعلانٌ ببَراءةِ الإسلام ممَّا أُلصِق به من تُهمة الإرهاب، فالإسلام صانُع السلام على مدى أربعة عشر قرنًا، ولا يُمكن أن يُحكَمَ عليه انطلاقًا من حالةٍ ظَرفيَّة لها أسبابٌ تاريخيَّة مُتشعِّبة، وهو إعلانٌ باستِعداد حُكَماء الأمَّة في الإسهام في صِناعة السَّلام العالميِّ، على بَصيرةٍ بمُنطلقاتهم الفكريَّة ومسؤوليَّاتهم الحضاريَّة؛ وإنَّ المجلس ليُؤكِّدُ احترامَه لجميع الآراء مهمَا اختلفت ما دامت مُلتزمةً بالسِّلم والسلام المجتمعيِّ، واحترامه لتلك الآراء لا يعني قبولها.
ومن جهةٍ أخرى فقد صادَقَ أعضاءُ اللجنة التأسيسيَّة على النِّظام الداخليِّ للمجلس، واختاروا بالتوافق الإمام الأكبر شيخ الأزهر رئيسًا لمجلس الحكماء؛ كما اتَّفَقُوا على اقتراحٍ بضمِّ ثُلَّةٍ من الحكماء والعلماء وفقًا للنظام الأساسي للمجلس.
وفي الختام يَتَقدَّم مجلسُ حكماء المسلمين بأَحَرِّ التعازي وأصدقِها إلى عائلات الجنود الشُّهداء الذين قُتِلوا ظُلمًا وهم يَسهَرُون على حِفظ السِّلم والأمن في مصر وسائر بُلدان العُروبة والإسلام، سائلين المولى – عزَّ وجلَّ – أن يتَقبَّلَهُم شُهَداء، وأن يُلهِم أهلَهم الصبرَ والمثوبة، وأن يَحفَظَ الأمَّةَ من شرِّ الفتن ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ، وأن يُعِيدَ لها نعمةَ الأمن والتراحُم”.