أن تصلك رسالة من قاريء يبدأها بـ “يا إخونجية يا قطريين” ثم تتبعها رسالة اخرى خلال ثوان من قاريء آخر يبدأها بـ “لا لوم على الليبراليين والعلمانيين، فلادين لكم أيها الزنادقة”.. ستجد نفسك تغني: “لا مع سيدي بخير ولا مع ستي بخير”.
وقبل كل هذه الشتائم اليومية – وهي وسيلة معظم العرب للتعبير عن رأيهم – ترك صديق للصحيفة لا تنقصه الثقافة والإطلاع رسالة تقول: “ما الذي قلبكم؟ هل ترون ما لا نراه وتدركون ما لا ندركه؟؟”.
كان ذلك مباشرة بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي والذي أطلق عليه “ثورة” لتنقلب “وطن” مع انقلابه.!
وبالمنطق الدارج في وطننا العربي المنكوب، من المفترض أن تفرح “وطن” وتقيم الأعراس لسقوط “الإخوان” الذين كانت تنتقدهم قبل الإنقلاب، لكنها ما فعلت وبدلا عن ذلك شنت أقلامها لتعرية الانقلاب.
فما الذي قلبكم؟ يتساءل الصديق الذي ظل ينتظر اجابة منذاك إلى يومنا هذا. ولا ندري ان ادرك بنفسه ما كنا ندركه أو وجد اجابة لسؤاله.
قلبنا الإنقلاب نفسه. استنفرت لدينا قرون الاستشعار من لحن خبيث عزفه الإعلام كأوكسترا خبيثة بالنغمة الخبيثة ذاتها:
(شيطن خصمك ثم اذبحه ثم احرق كل الذين ساعدوك بذبحه!)
وهذه نغمة قديمة عزفت “وطن” نشازها منذ صدورها. وبالتحديد منذ حرب العراق وحصاره. وقد لاقت الصحيفة ما لاقت -حين كشفت عورات المتآمرين على العراق والمشيطنين لنظامه والمحاصرين لأطفاله- من اتهمامات وملاحقات قانونية من أمراء وسفراء في واشنطن.
وهاجمها الكثيرون ونعتوها بالبعثية الصدامية!
لقد كان وما زال ديدن معظم الإعلام العربي بأمرين لا ثالث لهما:
إما أن تنضم صاغرا ذليلا إلى سمفونية السلطات وتنعم بالعطايا والهدايا وإما تصبح زنديقا وبعثيا وصداميا وإخوانيا وعلمانيا وليبراليا وحاقدا ومثيرا للفتن.. وملعون والدين.!
خلطة عجيبة من النادر أن تتعرض لها تجربة إعلامية. وإذا تأملها أحدهم إما أن يقول لنا خجلا: شكرا على صراحتكم وجرأتكم. وإما أن يشتم “وطن” ويصفها بالعاهرة التي هي مرة بعثية ومرة إخوانية ومرة ليبرالية.. الخ الخ بعد أن يسقط من يديه توجيه تهمة واحدة لها.
وهذا الأخير ينسى أن يسأل نفسه: لكن لماذا هذه الصحيفة “الغبية” تختار دائما المعسكر الخاسر و “الطفران” ولا تختار معسكر الحكام الكريمين جدا بعطاياهم لمن يلعقون أحذيتهم؟
فالعاهرة بالنهاية تبحث دوما عن “الزبون الثقيل”!
لا يستوي عند كثير من العقول بأن هناك من يكتب بـ”بلاش” كي يكتب ما يراه ويعتقده وكي يقول لإعلام السلطات: خلقنا الله بعقول ولسنا أغبياء.
فهذا تمول صحيفته السعودية، وذاك تموله الإمارات، وذاك تموله قطر.
استعباد للعقول والأقلام في الجاهلية الثانية التي عاشها العرب.!
***
نعرف أن الإنقلاب منذ لحظته الأولى لم ينقلب عليهم لأنهم إخوان وفكرهم إخوان ولا يؤمنون بالدولة الوطنية وولاءهم لمرشدهم.
لو كانوا غير ذلك.. ناصريون مثلا يدعون لدولة عربية واحدة، هل كانت ستصمت قيادة الجيش المصري الفاسدة، وهذا وصف معهد واشنطن لها وليس وصفنا.
وهل سينام محمد بن زايد هانئا مطمئنا لأن من فاز بانتخابات مصر ناصريون وليسوا إخوان ويصل به الحال إلى حد تسليم مفاتيح آبار النفط في أبو ظبي لهذا الرئيس الناصري؟!
إنسى الفكر القومي والإخواني واصحابه الذين قد يصدرون ثوراتهم للخارج فيقلقون طويلي العمر؟
لنقل أن رئيسا وطنيا صعد إلى سدة الحكم ومن ضمن برنامجه الوطني تنظيف مصر من الفساد.. هل سيصمت قادة الجيش على كشف فسادهم وامتيازاتهم وقصورهم وتحكمهم بأكثر من نصف اقتصاد مصر وهل سيرتاح شيوخ الخليج من ثورات كالإنفلونزا تعد وباء يصيب شعبا فينتقل الفيروس إلى شعب آخر؟!
معظم مشايخ الخليج ضد أي تغيير ليس في بلادهم وحسب بل بالدول التي تحيطهم والبعيدة عنهم آلاف الأميال.
وقد وجدوا في قيادات الجيش والقضاء والإعلام والأجهزة الأمنية في مصر حلفاء لهم لإعادة تنصيب النظام القديم وبإرادة الشعب نفسه زورا وبهتانا.!
لا دولة إخوانية ولا قومية ولا وطنية خالية من الفساد والاستبداد يسترد فيها المواطن حقوقه وكرامته وتصون دماءه.
بذات النظام الفاسد المستبد أو الأكثر استبدادا حتى “يحرم الشعب” الثورات مع تنازل “تاريخي” – طال عمرك – تتغير فيه الوجوه والأسماء، يجود على الشعوب تحالف الخليج بقيادة ابن زايد مع السيسي وسحرة فرعون من الإعلاميين.
***
نحن باختصار لم تعجبنا هذه الإسطوانة المشروخة. فغنينا أغنيتنا الخاصة وكانت نشازا مزعجا.
وقد كان المطلوب منا أن نتحدث ونثرثر الآن عن فكر “الإخوان” التكفيري وتآمرهم مع أمريكا – باعتبار أن من نزع سلطتهم عدو أمريكا – ونكتب عن جرائم تسريب الأسرار العسكرية لدولة قطر العظمى، ونسلخ جلود الإخوان لتخابرهم مع تنظيم حماس.
وقبل الانتهاء من دفن الإخوان نبارك سجن ثوار 25 يناير الليبراليين واليساريين والوطنيين رغم ان لا مرشد لهم ولا يؤمنون بتصدير ثورتهم ولا بدولة قومية أو دينية. والتهم المعلبة جاهزة مثل أن يتحدث مذيع عن تسريب أسرار عسكرية وباليوم التالي يتحدث عن أن أجهزة الدولة من جيش وقضاء وإعلام ظلت رافضة أن تتعاون مع “الإخوان” أثناء حكمهم. فماذا سربوا إذن؟
ومطلوب منا أن نطبل ونزمر لشيوخ الإمارات البواسل الذين أوصاهم “أبوهم زايد” بمصر خيرا، قبل أن نكتشف أن أباهم أوصاهم أيضا بليبيا وتونس والحوثيين وببشار الأسد طيب القلب الخلوق كما وصفه سفيههم ضاحي خلفان.
والأحرى أن زايد قد وصاهم فعلا بأنظمة الفساد والحكام الطغاة واصبحت بلاده مأوى لهم ولعائلاتهم كي يتآمروا على عودتهم للحكم من جديد.!
لم تعجبنا هذه الأغنية! وبالتالي لم يعجب ابناء زايد تغريدنا النشاز.
وكان بإمكانهم حجب صوتنا كي يرتاحوا.. ففعلوا لكن لم يهدأ لهم بال.
واقام محمد بن زايد محكمة لـ (وطن) في بلده لم تبلغ عنها الصحيفة المتهمة. حضرها شاهد هو ضابط في أمن الدولة. وأدلى بشهادته التي تقول أن صحيفة “وطن” تتبع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وأن ناشرها نظام المهداوي عضو مخضرم قدم وصحيفته الدعم لـ “خلية إماراتية” تخطط للإنقلاب على الحكم.
وهذه التهمة سخر منها العالم والمنظمات الحقوقية فمعظم أعضاء هذه الخلية تجاوزوا الستين وليس بينهم عسكريا واحدا.. كما أن معظمهم كرمته الدولة وأرسلته ليمثل بلاده في مؤتمرات بالخارج.
ما علينا! فالتهم المعلبة جاهزة.
ورد محامي الخلية الإماراتية سائلا الضابط: هل تعرف المهداوي؟ أجاب: أعرفه. وسأله: هل تعرف أنه ملحد؟ فبهت الضابط وصمت.
وهذه كانت آخر التهم. تهمة نقيض أختها: إخواني مخضرم وبعثي وليبرالي واخيرا ملحد.
ولم يقصد المحامي الإماراتي عبد الحميد الكميتي – كما أوضح لوطن- سوى أن يبين بأن الشاهد ماشفش حاجة!
وهو محامي يستحق الاحترام لاخلاصه لمهنته معتقدا انه اذا بين الحقائق ستتحقق العدالة ضمن قضاء مسيس.
ولأن ابناء زايد مع قائد الإنقلاب المصري وبتحالف مع السعودية نجحوا بجدارة في تطبيق نظرية شيخهم الكبير جورج بوش: ان لم تكن معنا فأنت ضدنا، أصبح كل من هو ضد الإنقلاب والثورات المضادة إخوانيا تكفيريا يجب أن يقصى ويدفن حيا.
وسياسة الإقصاء هي داء أمتنا منذ عقود من الزمان وهي سياسة لا تحتاج فيها إسرائيل ان تحرك آلياتها العسكرية فهناك من هو مستعد لاطلاق حرب يأكل العرب فيها بعضهم الآخر.
واصبح العاقل في زمننا هذا ان نطق يقول: أنا لست مع السيسي.. لكن عاجبك الإخوان يدمروا مصر والدول العربية؟ ويفتي المفتي السابق: ذبح الإخوان في الشهر الحرام.. حلال حلال! ويصرخ مذيع: أنهم كفرة وأعداء الوطن!
فإذا بالذين عابوا عليهم تكفيرهم واقصائهم للآخرين يكفرون ويقصون كل من لا صدق فرعونهم الجديد السيسي.
ما علينا!
هل كان محمد بن زايد يحتاج لقرار محكمة يقضي بحجب صحيفة “وطن” لأنها إخوانية وقد حجبتها أجهزته الأمنية قبل عام من صدور قرار محكمته؟!
لعل مستشاره الأمني محمد دحلان أقنعه بذلك.
وبدأت أجهزته الأمنية تلاحق موقع الصحيفة في كل مكان.
تخاطب غوغل وتويتر وفيسبوك وتتصل بشركة الخوادم الحاضنة للموقع كي تحجب الخدمة حتى لاقت الإمارات توبيخا من المنظمات الحقوقية والصحافة الأمريكية.
فيما انبرى الإعلام الإماراتي بوصف “وطن” بأنها إخوانية.
وكأن الإخوان يعملون من تحت الأرض ولا يعلنون عن أنفسهم وينتظرون أمن الإمارات كي يكشف حقيقتهم.
وحين وجدوا أن تهمة الإخوان اصبحت محل تندر الناس ذلك لأن محتوى الصحيفة لا يتوافق مع التهمة وان كانت فقط تشارك الإخوان بأنها ضد الإنقلاب العسكري، اتفقوا على زعم انها تقبض من قطر.
ذلك كان على خلفية كشف “وطن” للعلاقات الإسرائيلية الإماراتية ودعم ابناء زايد لتل أبيب كي تسحق حماس، وهو التقرير الذي لم تعرضه قناة الجزيرة القطرية إلا بعد اسبوع من نشره بوطن ونسبته إلى موقع إخواني لا يخفي تمويله القطري وقام بنشره دون الإشارة إلينا ولم تأت الجزيرة بالتالي على ذكر صحيفة “وطن”.
لكن الأمن الإماراتي يعرف أن مصدر الخبر الأصلي هو “وطن”.
وردت الصحف القطرية على صحف الإمارات: هل كل مشاكلكم تلصقونها بقطر.. ليس لنا علاقة من قريب أو بعيد في صحيفة “وطن”!
لا قطرية ولا إخوانية.. هذه لا تركب رأس أبناء زايد، ولا يعتبرها محمد دحلان “وطنية” لأنها تستهدفه بدون داع كما قال لنا مدير مكتبه باتصال هاتفي.! “انتم لا مع عباس ولا مع حماس.. شو دينكم؟ وكم ثمنكم؟”
وهي أي “وطن” عميلة للإستخبارات الأمريكية السي آي إيه، كما كتبت احدى المواقع الدحلانية مؤخرا!
يعني طلعنا زملاء له!
أوليس غريبا أن صحيفة “وطن” التي يعرف ابن زايد ويعرف دحلان أنها أفقر من أفقر صحيفة تصدر في السودان تسبب لهم كل هذا الصداع لدرجة أرسل فيها دحلان رسالة لي تقول: أنت لست قد اللعب مع الكبار؟!!
طلعنا مش زملاء!!
وقد سمعنا ونحن صغار قبل أكثر من عشرين عاما من مستشار سابق للملك السعودي الراحل “فهد” قبل أن يجرجرنا بالمحاكم الأمريكية ذات الجملة بأننا صغار ولسنا قد اللعب.
لقد هرمنا – يا سادة – ولا يرانا الكبار سوى صغار مش قد اللعب! فما الذي يغيظهم اذن من صوت الصغار وسط ضجيج فضائياتهم وامبراطورياتهم الإعلامية؟!.
نظام المهداوي