كشفت نتائج انتخابات برلمان تونس بجلاء دور المال السياسى الخارجى (الخليجي تحديدا) فى تقدم حزبى: “نداء تونس” بزعامة “قائد السبسى”، و”الاتحاد الوطنى الحر”، بزعامة رجل الأعمال “سليم الرياحى”، المقربين من الإمارات، واللذين زارا دبى، وثارت حولهما شبهات تلقى أموال خليجية تقدم كرشاوى للناخبين.
بحيث يمكن إرجاع أسباب تقدم “نداء تونس” العلمانى فى الانتخابات بعدة مقاعد، وتراجع “النهضة” الإسلامى، بالدرجة الأولى، لهذا المال أو الدعم الخليجى، الذى تؤكده مؤشرات وأدلة واضحة يحقق فى بعضها حركة “مراقبون” المستقلة، وأجهزة محاسبية حكومية منذ ما قبل الانتخابات وفضيحة تلقى “السبسى” هدية سيارتين فارهتين من الإمارات؛ لحمايته.
صحيح أن حركة “النهضة” – وفق النتائج الإعلامية التى قالت الهيئة العليا للانتخابات، إنها غير ملزمة بها واعتبرتها خرقًا للقانون الانتخابى – خسرت وضعها السابق الذى فازت به فى انتخابات 2011 (89 مقعد من 217)، وتشير النتائج لحصولها فى انتخابات 2014 الحالية على قرابة 70 مقعدًا.
كما أن حزب “نداء تونس”، الذى تأسس عام 2012 ولم يشارك فى الانتخابات السابقة، والذى يضم منتسبين لحزب “بن على” السابق مع أطياف يسارية وعلمانية، اقترب من 80 مقعدًا، ولكن هذا لا يعنى فوز حقيقى لأى منهما؛ إذ أصبحا يضمنان سويا “الثلث المعطل” أو “الضامن” فى البرلمان، ومن ثم يصعب تشكيل حكومة بغير أعضائهما سويا.
ولكن الملفت هنا أيضا أن “الآلة الإعلامية” لنظام بن على – التى سبق الكشف عن تقديمها رشاوى لصحفيين تونسيين وعرب (فى الكتاب الأسود الذى أصدرته رئاسة تونس عام 2013 تحت عنوان “منظومة الدعاية تحت حكم بن على” – لعبت دورا فى دعم علمانىِّ تونس على حساب النهضة والتخويف من الإسلاميين، وساعدهم سلفيو تونس ببعض العمليات “الإرهابية” التى تم تضخيمها إعلاميا للتحير من فوز النهضة وتحول تونس لملاذ لـ “داعش”.
المال الخليجى بدل المقاعد:
لكى ندرك الدور الذى لعبه المال الخليجى فى انتخابات تونس، من الضرورى تتبع رحلات “السبسى” و”سليم الرياحى” إلى الإمارات، وما أثير علنا فى تونس عن تلقيهم دعم مالى من الإمارات، وبين النتائج التى حصلا عليها سويا.
فحزب “قائد السبسى”، وهو (نداء تونس)، جاء فى المركز الأول، وحصد أكثر من ثلث مقاعد البرلمان، رغم أنها المرة الأولى له فى الانتخابات، بينما حزب رجل الأعمال الشاب سليم الرياحى (الاتحاد الوطنى الحر) جاء فى المرتبة الثالثة بحوالى 17 مقعدًا، بعدما كان له مقعد واحد فقط فى انتخابات 2011، وكان فى المرتبة رقم 12 فى ترتيب الأحزاب الفائزة.
وبالمقابل خسرت أحزاب شاركت النهضة فى الحكومة السابقة تقدمها مثل “الجبهة الشعبية المعارضة”، التى قالت تقارير، إنها فازت بـ 12 مقعدا فى برلمان 2014، بينما كان لها 26 مقعدًا فى انتخابات 2011، وحزب “المؤتمر من أجل الجمهورية (الذى أسسه الرئيس المؤقت منصف المرزوقى)، وكان له 29 مقعدًا، ولكنه تراجع، ليحصد 4 مقاعد فقط، ليتراجع حزبان من أحزاب الترويكا الحاكمة سابقا إلى فئة الأحزاب ضئيلة التمثيلية، مقابل صعود أحزاب جديدة أخرى قد تشارك فى الائتلاف الحاكم المقبل – لو فشل تحالف النهضة ونداء تونس – مثل: “الجبهة الشعبية اليسارية”، و”الاتحاد الوطنى الحر”، و”آفاق” الليبراليين.
ومعلوم أنه فى أغسطس الماضى 2014، تم الكشف عن إرسال الإمارات هدية رشوة مقننة إلى “قائد السبس” رئيس حزب “نداء تونس” عبارة عن سيارتين مصفحتين من أغلى طراز، ما أثار تساؤلات حول “ثمن” الهدية، ولماذا تخصيص هذا الرجل بمثل هذه الهدايا، وهل هى لدوره فى الثورة المضادة فى تونس لإجهاض ثورتها كما فعلت الإمارات فى مصر أم ماذا؟.
والسيارتان الفارهتان المصفحتان، هما: (مرسيدس إس 550 موديل 2012)، و(تويوتا لاند كروزر – استيسن موديل 2013) ، وقد أثار ضجة في تونس واعتبرهما حقوقيون ونشطاء وحزبيون تونسيون “رشوة” لا “هدية” من الإمارات يعاقب عليها قانون الأحزاب، وطالبوا بحل الحزب الذي يتلقى مثل هذه الهدايا، بموجب الفصل 19 من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية، والذي يتضمن “الحجر” على الأحزاب السياسية قبول: “تمويل مباشر أو غير مباشر نقدي أو عيني صادر عن أية جهة أجنبية وتمويل مباشر أو غير مباشر مجهول المصدر” .
ولم تكن هذه الواقعة هي الدليل الوحيد علي التدخل المال الخليجي والإماراتي تحديدا في محاولة التأثير علي انتخابات تونس البرلمانية وما سيليها (الرئاسية)، فقد حامت الشبهات أيضا حول عدد من رجال الأعمال، بعضهم تحوم حوله شبهات باستخدام المال بطرق خفية يصعب تعقبها، لشراء ذمم الناخبين، أبرزهم رجل الأعمال سليم الرياحي الذي له علاقات مالية مع الإمارات وسبق له أن زار دبي وله علاقات عمل مع رجال أعمال وأصحاب مؤسسات إمارتيه على غرار مجموعة “بوخاطر ” و “سما دبي ” و” موانئ دبي العالمیّة”.
ويري نشطاء تونسيون أن الدعم الإماراتي لـ “الرياحي” يأتي من أبواب مختلفة بعضها رياضي (هو رئيس النادي الأفريقي التونسي)، وبعضها في صورة صفقات اقتصادية، يعصب تتبع الأموال فيها، وأن دعمه ليس بهدف وصول حزبه فقط للبرلمان، وإنما لأنه أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 23 نوفمبر القادم، وقد تقدم بقائمة تضم 123 ألف تزكية من الناخبين وهي أعلى قائمة تزكيات يقدمها أي مرشح، وشكك بعض المراقبين في نزاهتها واتهموه بتزوير جزء من التزكيات وشراءها بالمال.
ويواجه الرياحي سيلا كبيرا من الاتهامات في تونس تتعلق بعلاقته الوطيدة مع النظام الليبي السابق وتبييض الأموال، ومع الإمارات، وأخرى تتهمه بتكوين ثروة مالية طائلة من مصادر غير مشروعة، وسعيه إلى السيطرة على القرار السياسي والتأثير على الانتقال السياسي.
وأصدر “الرياحي” عدة بيانات تنفي هذه التهم ويقول أن مصادر ثروته تعود لنشاطه في مجالات النفط والعقارات والاستثمار في بورصة لندن، مؤكدا أن جميع أمواله تخضع للمراقبة المالية وأنه لم توجه له أي تهمة فساد أو إثراء غير مشروع.
ولكن قادة سياسيين لا يزالون يوجهون له الاتهامات مثل محمد القوماني زعيم “حزب الإصلاح والتنمية”، وعبد الرؤوف العيادي زعيم “حركة وفاء”، ويقولون أن: “إغراء الناخبين بالمال كان حاضرا بقوة في الانتخابات”، و “أن لديهم مخاوف من أن يلعب المال الفاسد دورا مؤثرا في توجيه أصوات الناخبين”، وأن أحزابهم اكتشفت أن بعض رجال الأعمال والأحزاب وزعوا أموالا لشراء الأصوات.
وأكد هذه الاتهامات حركة “مراقبون” التي تكونت من أجل مراقبة شراء الأصوات عبر رجال أعمال لهم علاقات خليجية، وقال المنسق العام لجمعية مراقبون التي تراقب عملية الانتخابات، رفيق الحلواني، “أن شبهة استخدام المال السياسي موجودة في الانتخابات، وأن المال السياسي قادر على توجيه أصوات الناخبين وتغيير نتائج الانتخابات”.
وسبق لرئيس هيئة الانتخابات شفيق صرصار، أن كشف – في جلسة حوارية أمام رباعي الحوار الوطني مؤخرا- أن الهيئة سجلت عددا من التجاوزات في الحملة الانتخابية، بعضها ذو طابع مالي، دون أن يوضّح وجود استخدام المال لشراء الأصوات.
وقد ألمحت صحيفة “إيكونوميست” في تقرير بعنوان: A LIGHT UNTO THE ARAB NATIONS يوم 25 أكتوبر الجاري لهذا التدخل المالي الإماراتي بقولها: “ينبغي على دول الخليج أن تساعد على استقرار تونس بدلا من التعامل معها على أنها ساحة معركة جديدة في مسابقة بالوكالة لمواجهة الإخوان المسلمين، كما تفعل في ليبيا ومصر”.
دور إعلام “بن علي”
علي غرار ما حدث في مصر من تمهيد وسائل الإعلام الموالية للنظام السابق لـ “الثورة المضادة” وهجومها علي الإسلاميين لصالح العلمانيين واليساريين ودعمها الانقلاب العسكري علي التجربة الديمقراطية طالما فاز فيها إسلاميون، لعبت العديد من وسائل الإعلام التونسية دورا في الهجوم علي “النهضة” ودعم الأحزاب العلمانية واليسارية، واتهمها بعضها سياسيون من “النهضة” وحركة “مراقبون” بتلقي أموال لتوجيه الصحف والفضائيات وجهة معينة.
وسبق أن قاله وزير الإسكان السابق سليم بن حميدان أن: “ثورة تونس تواجه تحديات هائلة، أبرزها سيطرة إعلام النظام السابق علي الخطاب الإعلامي، وفشل إعلام الثورة في أن يفرض نفسه”.
وقد أتهم حزب النهضة وسائل إعلام باستباق النتائج الرسمية ونشر نتائج غير حقيقة، منددا بما وصفه بعملية “انقلاب إعلامي” في إشارة إلى قنوات تلفزيونية تولت الإعلان عن نتائج، في الوقت الذي مازال فيه زمن الصمت الانتخابي جاريا.
وقال مراقبون أن وسائل الإعلام التونسية الحكومية والخاصة تحركت علي نفس منوال “المصرية”، لأن الإعلام الحكومي ظل خاضعا لتابعين لحزب الرئيس السابق “بن علي” الذي ضم حزب “نداء تونس” أغلبيتهم، باعتباره ائتلاف غير معلن بين محسوبين على حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، حزب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ونقابيين ويساريين من مختلف مشارب اليسار وبعض المستقلين.
أما الإعلام والفضائيات الخاصة التي أمتلكها رجال أعمال فلعب نفس الدور في تشويه “النهضة” واللعب علي عواطف التونسيين بـ “فزاعة الإخوان”، وتضخيم أعمال إرهابية قام بها سلفيون – سبق أن حاول النهضة التحاور معهم – بغية تكامل الحملة الإعلامية في التأثير علي توجهات المواطن العادي، فضلا عن التركيز علي بقاء الأوضاع الاقتصادية علي ما هي عليه وإهمال الحكومة السابقة لمشاكل العاطلين والاقتصاد، والفشل في إدارة الملفات الاقتصادية والمطالب الاجتماعية الملحة.
كما سعت صحف وفضائيات لطرح “نداء تونس” بديلا في الحكم عن حركة النهضة وحلفائها في “حكومة الترويكا” التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والاهتمام بالحملة الدعائية للانتخابات التشريعية للحزب وتكتيك “التفزيع” من خصمه وما قد يفعله من “تقييد للحريات” الشخصية للتونسيين في حال وصل للحكم، وهو ما أتى بثماره لدى قطاع من التونسيين رغم تطمينات النهضة المتكررة، بحسب مراسل وكالة الأناضول التركية في تونس.
ومثلما فشل إخوان مصر في إدارة “الحوار” مع جهاز إعلامي نافذ قوي وقادر على التأثير الكبير في ظل غياب سياسة إعلامية واضحة لديهم، لم يتمكن حزب النهضة بدوره في توجيه رسائل مقنعة لقطاع كبير من التونسيين في وجه هذه “الفزاعة”، وكان للمال السياسي أيضا دور في التأثير علي وسائل الإعلام التونسية.
وسبق أن أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية في نوفمبر الماضي 2013، كتابا يكشف أسماء الإعلاميين الذي تورًطوا في منظومة فساد النظام السابق، يعرض جملة من الوثائق من الأرشيف الرئاسي، تثبت تلقي صحفيين ومؤسسات إعلامية «رشاوى» من نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، مقابل رفع تقارير خاصّة لرئاسة الجمهورية ضدّ المعارضين من سياسيين ونقابيين ونشطاء وصحفيين.
وكشف الكتاب – الذي أصدرته دائرة الإعلام والتواصل التابعة لرئاسة الجمهورية تحت اسم (منظومة الدعاية لحكم بن علي) – صحف وفضائيات متورطة في تلميع نظام بن علي، وتضمن “القائمة السوداء للصحفيين المتورطين في تلميع صورة النظام السابق ومهاجمة السياسيين والصحفيين الذين كانوا مناهضين للنظام السابق”.
وضم الكتاب أسماء صحف وإعلاميين تونسيين حاليين يهاجمون النهضة بخلاف صحفيون وإعلاميون مصريون وعرب.
فزاعة “داعش”
ولعل السبب الثالث الهام الذي أدي لتراجع “النهضة” هو “لعنة داعش”، بعدما وصلت إلى تونس، ونجح هذا التنظيم في تجنيد بعض الشباب لتنفيذ عمليات انتحارية في العراق، والمخاوف من سعيه للتوغل في الجزائر والمغرب وليبيا، وأعلن عن قيام تنظيم يسمى “دامس”، وهو النسخة المغاربية لـ”داعش”.
وقد سعت وسائل إعلام تونسية للتحذير من خطر “داعش” والربط بينه وبين سلفيي تونس و”النهضة” معا، واعتبار أن تونس غير محصنة ضد هذا الخطر، مشيرين إلى صلة تنظيم «أنصار الشريعة» التونسي بـ”داعش”، رغم أن هذا التنظيم كان ينشط في تونس ولم يتم تصنيفه منظمة إرهابية إلا في فترة متأخرة، وهو تنظيم متهم بالضلوع في أحداث الهجوم على السفارة الأمريكية في تونس وأيضا في اغتيال اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وأحداث جبل “الشعانبي”، وسبق للنهضة أن حاول التحاور معه ولكنه تبرأ منه.
وورد في تقرير للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، أن التونسيين يتقلدون مواقع قيادية في تنظيم «داعش» وأن 14 تونسيا نفذوا عمليات انتحارية في العراق خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من السنة الحالية، كما ذكرت تقرير لنقابة الأئمة في تونس أن ما يقارب 1200 تونسي موجودون في إمارة «الدولة الإسلامية»، وأن 99 في المائة من الشباب التونسي الذي سافر إلى سوريا انشق عن «جبهة النصرة» والتحق بـ«داعش».
“النهضة” كانت بالتالي ضحية عوامل تأثير مكثفة لإزاحتها عن السلطة، ولكن قبولها بتقديم تنازلات مؤخرا عن السلطة، وتركيزها علي مشاكل الشباب الاقتصادية، قد يكون هو مفتاح صمودها في وجه الأعاصير وعدم جرف شعبيتها بالكامل، كما حدث لعضوي التروكية الثلاثية الحاكمة الآخرين.
ولكن يبقي السؤال: هل تنجح “النهضة” في وجه الأعاصير التي عصفت بثورات الربيع العربي في مصر وسوريا واليمن، أم يستعد أنصار الثورة التونسية بعد هذه الانتخابات لفتح دفتر العزاء في ثورتهم علي غرار باقي ثورات الربيع العربي؟.
التهمة “المعلبة” دائما للأحزاب الإسلامية من جانب خصومهم هي أن:” الإسلاميون يستغلون الانتخابات للوصول للسلطة، وعندما يصلون للسلطة لا يتركوها أبدا، وأنهم يردون أخذ الديمقراطية سلم للحكم بحيث يصعدوا مرة ولا ينزلون عنها”.
الحقيقة التي لا يجب أن ننساها ابدا هي أن انتخابات تونس أثبتت قبول الاسلاميين عمليا تداول السلطة، وليس كما فعل الليبراليون واليساريون في مصر بالانقلاب علي التجربة لأنهم خسروا الانتخابات، فالحركة الإسلامية كانت تحكم تونس بالأغلبية التي فازت بها في انتخابات 2011 (86 مقعد) وتركت الحكم طواعية مع هذا من غير انقلاب ولا دبابات.
وعندما خسرت انتخابات 2014 وتقهقر حزب النهضة للمركز الثاني، هنأت الفائز بالانتخابات وتركت الحكم طواعية مرة أخري، ما يؤكد تهافت اتهامات كارهي الحركات الإسلامية ويجعل ما حققته “النهضة” انتصارها لا هزيمة خاصة أنها لم تخسر تماما ولكن جاءت في المركز الثاني.
محمد جمال عرفة
الشعب