هناك حالة أشبه بقرع طبول المشكلات خارج اليمن تتصدر عناوين صحف الشرق الأوسط على مدار الشهر القليلة الأخيرة. وبالنظر إلى العديد من الحسابات فإن اليمن: أفقر دول العالم العربي، صراعاته لا تستحوذ على كثير من الانتباه مقارنة بسوريا والعراق وليبيا وغيرها. وفي الوقت الذي تُمثل فيه تلك الصراعات طبقًا شهيًا يجتمع الكثير حوله، فإن اليمن لا يبدوا كذلك بالنسبة لكثيرين؛ فالغموض يكتنف صراعاته، وهناك حالة من الكسل في إتعاب العقل لفهم ما يحدث على أرضه.
من الاستحالة بمكان تجاهل مشكلات اليمن على الأقل لسببين: أهمهما: مشكلات اليمن على الأرجح لا تبقى حبيسة حدود اليمن. مع قربها الشديد من المملكة العربية السعودية ومضيق باب المندب والقرن الإفريقي، فإن انهيار اليمن يعني تأثيرات سلبية عميقة على جيرانها. ومما يدعوا للذعر فإن مشكلات اليمن جاءت نتيجة لسنوات تخللها كل أشكال الوساطة والدعم ومدعومة بهجمات موجّهة لصراعات عربية أخرى. ما الذي يعنيه قيام دولة غربية رائدة وحلفائها بمحاولة تعميق مستنقع الفوضى؟
بلا شكٍ يعاني اليمن مشكلات عدّة تتمثلُ في ندرة العمالة، ونفاذ كميات المياه الصالحة للشرب نسبيًا في آراضي الشمال المزدحمة بالسكان. معدلات المياه في شمال اليمن تتراجع، وربما ينضب حوض صنعاء مع مطلع عام 2017م. هناك حوالي ثلثي اليمنيين يعيشون في المناطق النائية، ويستعد الفلاحون للنزوح بعائلاتهم إلى المدن متسببين في زيادة الازدحام فضلاً عن بور الأراضي التي عاشوا يزرعونها لسنوات. نسبة الشباب عالية؛ فهناك 40% دون سن الخامسة عشر؛ ما يعني أن سنوات قدرتهم الإنتاجية ما تزال بعيدة.
لم يعد اليمن السلّة للعالم العربي كما كان من قبل. ظل معروفًا في السابق باسم “اليمن السعيد”؛ لانتشار التلال الخضراء، ومجتمعات التجارة المنتعشة جعلت منه نقطة مضيئة في عالم عربيٍ بدا جافًا وقاحلاً. جهود الإمبراطورية البريطانية في الجنوب جلبت معها بدايات الحداثة لعدن وما يحيط بها، لكن معظم البلاد بقي معزولاً، ويعيش حالته التقليدية طيلة معظم فترات القرن العشرين. وفي الوقت الذي نجد فيه الحرب الأهلية تصوغ اليمن في منتصف القرن الماضي، نلمح القبائل تصمم على مواصلة تشكيل الحياة السياسية اليمنية دون تدخل من أحد، واعتمد الاقتصاد على التحويلات المالية للعاملين في دول الخليج الغنيّة اكثر من كونه إنتاجًا محليًا، كما اعتمد رؤوساء القبائل على الأموال التي تصلهم من السعودية وغيرها.
في التسعينيات من القرن الماضي غازلت ”التعددية“ اليمن، لكنها سقطت فريسة لنفس المشكلات التي عانت منها البلاد لأكثر من قرن: البنية التحتية ووسائل الاتصال الفقيرة، ونظام تعليمي هشّ، ونمو سكاني متزايد بشدة، وأموال لا تسد الحاجة، ووظائف تكاد تكون معدومة.
احتياطات النفط والغاز المتوسطة في اليمن غذّت المحسوبيات أكثر من النهضة، والمتمردون في الشمال والجنوب يزدادون غيظًا.
السلفية الجهادية جاءت لليمن في التسعينيات وأصرت على البقاء، وحركات انفصالية كدّرت معيشة الشمال لأكثر من عشر سنوات متحدّيةً الجهود اليمينة السعودية لاستئصالها. وعندما اجتاح العالم العربي ثورات عام 2011م، لم يكن اليمن بمعزل عنها، وأجبر المتظاهرون الرئيس «علي عبدالله صالح» على التنحي عن منصبه بعد 33 عامًا.
اتجهت أنظار العالم صوب اليمن. لقد انزعجت دول مجلس التعاون الخليجي من الفشل في اليمن، واضطرت لتوقيع اتفاقٍ سياسي يقضي بانتقال سياسي سلمي بعيدًا عن الرئيس «صالح». وقامت الدول الغربية بإنشاء ما أسمته ”أصدقاء اليمن“ حتى من قبل الربيع العربي للمساهمة في مساعدة اليمن بالمليارات، ووعدوا بأن هناك المزيد بعد رحيل «صالح». الرئيس اليمني الجديد «عبدالرب منصور هادي» يحاول منذ مارس 2003م التوصل لإجماع وطني.
من ناحية أخرى؛ قامت الولايات المتحدة أيضًا بمهاجمة تنظيم القاعدة في اليمن؛ لضمان عدم زعزعتها استقرار اليمن. كما تجدر الإشارة إلى أن واشنطن شنت أكثر من مائة ضربة جوية في اليمن منذ عام 2010م لتودي بحياة حوالي 500 مسلح.
وخلال الشهر الجاري قام قبليون شماليون ناقمون على سياسات الحكومة بالسيطرة على العاصمة صنعاء وأسقطوا حكومتها. وفي الوقت ذاته؛ فإن القوات الانفصالية الجنوبية تطالب شركات النفط الغربية بوقف التصدير من حقول الجنوب فورًا وتطالب الحكومة بسحب هذه الشركات تمامًا بحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
من السهل اختزال الصراع في اليمن على أنه صراع طائفي آخر داخل حدود منطقة الشرق الوسط. معظم القبائل الشمالية شيعية بينما بقية اليمن سنّة. وبحسب سياسيين فإن إيران كان لها يدٌ في دعم القبائل الشمالية لأكثر من عشر سنوات. وجود القاعدة في قلب اليمن يسكب الزيت على نيران الطائفية أيضًا.
ومع إمعان النظر فإنه يمكن القول بأن الأمر ليس طائفيًا؛ وإن كانت هناك نسبة. فمعظم شيعة اليمن ينتمون للطائفة الزيدية المعروفة بقربها عقائديًا من السنة أكثر من أي طائفة أخرى. القاعدة يرفضها نسبة كبيرة من الشعب السنّي كما يرفضها الشعب الشيعي. ما يُغذّي التظاهرات – سواءً في الشمال أو الجنوب – ليس أمرً دينيًا على الإطلاق بل دائمًا يكون العنوان: فساد الحكومة وعجزها وأعمالها العدائية.
ولا تختلف اليمن عن كثير من جيرانها؛ فهي تعاني من آداء حكومي هزيل لعقود، والفساد ينتشر في كل أركان الدولة، والمحسوبيات عملت على إيجاد حوافز اقتصادية مبنيةٌ على الولاء أكثر من الإبداع والعمل المُضني. المدارس خرّجت شبابًا يحمل شهادة دراسية لكنه فقير في كل المواهب والمهارات التي تؤهله للعمل، وصار المال هو السيّد في البيئة اليمنية.
لا يبدوا الوضع مختلفًا بشكل كبير عن الصراعات المشتعلة الآن في العراق وليبيا وحتى سوريا. ويوجد في كل واحدة منها على الأقل إجراء تمّ في اليمن – انتقال القيادة، ودعم دولي، ومصالحة سياسية تسير جنبًا إلى جنبٍ مع دعم جوي لدحر المسلحين – ما قد يعطينا انطباعًا عن حالة كل دولة بالفعل إذا طُبق فيها ما طُبق في اليمن. وعلى أية حال؛ فإن هذه الوصفة لم تنجح في اليمن، وباءت بفشل ذريع.
هذا ليس إلقاءًا للوم على الولايات المتحدة وحلفائها بسبب مآسي اليمن، أو حتى للقول لو لم نفعل كذا وكذا لكان كذا، لكن لنقول إنه في الوقت الذي تنفق فيه الولايات المتحدة جهوداً تتكلف مليارات الدولارات في العراق وسوريا وليبيا لفعل نفس الأشياء التي جُربت في اليمن، فإنه يتعين التمهل لفهم الخطأ الذي وقع.
المصدر | جون ألترمان، مركز الدراسات الاستراتيجة والدولية (CSIS)
ترجمة وتحرير: الخليج الجديد