ربما لم يأتِ “شاهد من أهلها” على مر التاريخ أحرص من المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند ليشهد بعدم أحقية اليهود الإسرائيليين في أرض فلسطين، وذلك كونهم شعب آت من الكتاب المقدس، أي أنهم شيء خيالي تم اختراعه بأثر رجعي كما يقول ساند.
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب اعتقد بداية كغيره من الإسرائيليين أن اليهود كانوا شعبا يعيشون في يهودا، وأن الرومان نفوهم عام 70، ولكن عندما بدأ يبحث ليستدل اكتشف أن النفي هو أسطورة، حيث لم يجد أي كتاب تاريخي يصف أحداث النفي كمل يقول ساند الذي أضاف: “معظم اليهود في فلسطين كانوا فلاحين، وكل الأدلة تشير إلى أنهم مكثوا على أراضيهم”، بل يشبه ساند الكيان الصهيوني في مقابلة صحافية مع مجلة “تيليراما” الفرنسية (29/1/2009) بـ “طفل لقيط” ويقول أن اليهود اغتصبوا فلسطين في العام 1948 فولدت الدولة العبرية من رحم الاغتصاب. ويرى ساند أن الطفل “اللقيط” يستحق الحياة ولكن شرط أن يتلقى تربية تحول دون أن يكرر سيرة والده المغتصب وأن الدولة اليهودية تستحق هي أيضًا الحياة على أن تقلع عن سيرة الاغتصاب التي كانت في أصل ولادتها.
مؤخرًا وبعد إصداره مجموعة من الكتب الهامة التي ترجمت لعدة لغات، قال ساند أن العنصرية موجودة بدرجة ما في كل مكان، ولكنها في “إسرائيل” توجد دفينة في روح القوانين، بل تُدرَّس في المدارس والكليات وتُنشر في الإعلام، والأدهى من ذلك أن العنصريين في “إسرائيل” لا يعرفون ما يفعلون، ولهذا السبب لا يشعرون بأنهم ملزمين بالاعتذار حسب قوله.
من هو شلومو؟
ولد شلومو في مدينة لينتز بالنمسا لأبوين يهودين، نجت أسرته ذات الأصل البولندي من الهولوكوست، وهي أسرة لديها آراء ومواقف شيوعية مناهضة للإمبريالية، حيث رفض والديه استلام التعويضات من ألمانيا عن معاناتهم خلال الحرب العالمية الثانية.
قضى ساند سنواته الأولى في مخيم للمشردين، وانتقل مع الأسرة إلى يافا المحتلة في 1948، ثم تم طرده من الثانوية العامة ولم يكمل اختبار القبول في الجامعة إلا عقب إكمال خدمته العسكرية.
تخرج عام 1975 في جامعة تل أبيب، وفي الفترة مابين 1975 و1985، قام شلومو بالدراسة والتدريس في باريس وحصل على الماجستير في التاريخ الفرنسي ومن ثم الدكتوراه. تتمحور أبحاثه التاريخية حول القومية، الأفلام والتاريخ الثقافي لفرنسا، وذكر ساند في إحدى مقابلاته الصحفية إن والده “ترك المدرسة التلمودية في النصف الأول من القرن العشرين، وتوقف نهائيًا عن التردد على الكنيس، وكان يبدي نفوره من الحاخامات بانتظام”.
كيف اختُلق الشعب اليهودي
منذ صدور هذا الكتاب للمؤرخ ساند والتساؤلات كثيرة تثار حوله في دولة الاحتلال إسرائيلي وفي أوروبا وخارجهما، حيث يؤكد ساند في كتابه هذا أن القومية اليهودية هي ميثولوجيا ولقد جرت فبركتها قبل مئة عام من أجل تبرير إقامة الدولة الإسرائيلية.
ويقوم ساند في كتابه برحلة نبش تمتد على مدار آلاف السنوات إلى الوراء، حصيلتها في النهاية طرح مسهب يثبت أن اليهود الذين يعيشون اليوم في “إسرائيل” وفي أماكن أخرى من العالم ليسوا على الإطلاق أحفاد “الشعب العتيق” الذي عاش في “مملكة يهودا” إبان فترة “الهيكل الثاني”. وبحسب ما يقوله فإن أصولهم تعود إلى شعوب متعددة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتى من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة.
ويؤكد ساند في الكتاب الذي ضرب رقمًا قياسيًا في مبيعاته أن اليهود لم يطردوا من الأراضي المقدسة و معظم يهود اليوم ليست لهم أي أصول عرقية في فلسطين التاريخية، وأن الحل الوحيد هو إلغاء الدولة اليهودية “إسرائيل”.
ويذكر ساند أن وصف اليهود كشعب مشرد ومعزول من المنفيين الذين “عاشوا في تنقل وترحال على امتداد الأيام والقارات ووصلوا إلى أقاصي الدنيا وفي نهاية المطاف استداروا مع ظهور الحركة الصهيونية كي يعودوا جماعيًا إلى وطنهم الذي شردوا منه” ما هو إلاّ “خرافة قومية” فاقعة.
ويضيف كتابه الذي أصدره المركز الفلسطيني للدراسات “الإسرائيلية” (مدار) ونشرت صحيفة الغارديان مقتطفات منه، أنه “في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر أخذ مثقفون من أصل يهودي في ألمانيا على عاتقهم مهمة اختراع شعب بأثر رجعي، وذلك من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. ومنذ المؤرخ هاينريخ غيرتس شرع كتاب ومثقفون يهود بإعادة كتابة تاريخ اليهود كتاريخ شعب تحول إلى شعب مشرد وانعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه.
“لم أعد يهوديا”
“لم أعد يهوديًا” أيضًا أحد أهم الكتب الهامة للمؤرخ شلومو ساند، في هذا الكتاب سعى ساند إلى تفكيك أسطورة جديدة ترتبط بوجود شعب يهودي يتّسم بوحدة عرقية الأولى، تم تعزيزها بوصفها الرديف الضروري لتلج الصهيونية بهذه الطريقة أبواب الحداثة مستولية على مال قيصر ومال الله معًا ومكرسة مفهومًا هجينًا يفنده ويضحده الكاتب، والأسطورة المقصودة هي مفهوم اليهودي العلماني.
تقول الكاتبة شيرين حيدر في تحليلها لكتاب “لم أعد يهوديًا” أن ساند أراد لكتابه الذي لا تعوزه الحجج الموضوعية أن يكون نصا ذاتيًا أشبه بالمانيفستو يستقيل فيه من انتمائه اليهودي لسبب بسيط يعرضه من البداية ألا وهو أنّه علماني وملحد. ولذلك حسب الكاتبة أخضع إيمانه الشخصي وأفكاره المرتبكة في البداية إزاء الانتماء التلقائي إلى «اليهودية العلمانية» للبحث والتمحيص. وسرعان ما تخلى عن الملاذ الآمن الذي كانت تلخصه في نظره في ما مضى جملةُ جان بول سارتر القائلة «إنّ معاداة السامية هي ما يخلق اليهودي العلماني» ليغوص في تناقضات فكرة علمانيةِ جزء من اليهود ومفارقاتها.
وتضيف حيدر في مقالها الذي نشر في ملحق “السفير الثقافي” أنه على الرغم من أن البداية في الكتاب قد يشوبها بعض الانفعال لكن سرعان ما يستعيد المؤرخ زمام الأمور ليعرض، تحت عناوين اثني عشر، الخطوات المتصاعدة للأسلوب الاستنتاجي الذي اعتمده مرفقًا إياه بالأدلة والحجج، تكثيفًا لافتًا للتاريخ تارة ومفاصل فكرية في مسيرة البشرية طورًا. وتتطابق الخلاصة مع الفرضية التي يستهل بها الكتاب لتفيد باستحالة الجمع بين الفكر العلماني والانتماء الديني إلى اليهودية (ونكاد نقول هنا إلى سائر الأديان).
ميرفت عوف