عند نقاط تقاطع الطرق مع خطوط السكة الحديد في فرنسا توجد يافطة موجهة لأولئك الذين يعتبرون أنفسهم يقظين مكتوب عليها: ”يمكن لقطار أن يخفي وراءه قطاراً آخر“.
ينبغي لمثل هذا التنبيه الجيد أن ترفع به يافطات أمام المكتب البيضاوي (في البيت الأبيض) وفي داونينغ ستريت (حيث مكتب رئيس الوزراء البريطاني)، مع تعديل طفيف في العبارة بحيث تصبح: ”يمكن لتدخل أن يخفي وراءه تدخلاً آخر“. بينما جميع الأنظار موجهة إلى سوريا والعراق، ثمة تدخل آخر يجري في اليمن. الائتلاف في هذه الحالة يأخذ صورة تفاهم أكثر مما هو حلف عسكري، ومع ذلك فقد أثبت أنه ليس أقل فاعلية.
ليس مستغرباً أن تدعم إيران قبيلة شيعية صغيرة في شمال اليمن اسمها الحوثيون. لم يتوان السياسيون الإيرانيون عن الثناء على الاستيلاء الخاطف للحوثيين على العاصمة صنعاء.
ممثل مدينة طهران في البرلمان الإيراني «علي رضا زاكاني»، وهو من المقربين من المرشد«علي خامنئي»، تفاخر بأن إيران باتت الآن تتحكم بأربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وبيروت وصنعاء، قائلاً: «ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الإسلامية»، مشيرا إلى أن صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية.
وقال زاكاني إن إيران تعتبر الثورة اليمنية امتداداً طبيعياً للثورة الإيرانية، وأن 14 محافظة يمنية سوف تصبح تحت سيطرة الحوثيين قريبا من أصل 20 محافظة، وأنهم لن يتوققوا هناك، وأضاف: «بالتأكيد فإن الثورة اليمنية لن تقتصر على اليمن وحدها، وسوف تمتد بعد نجاحها إلى داخل الأراضي السعودية، وإن الحدود اليمنية السعودية الواسعة سوف تساعد في تسريع وصولها إلى العمق السعودي».
حتى الآن، لا غرابة فيما يجري في اليمن، وإنما المدهش هو أن تسمع عن الصلة الوثيقة للمملكة العربية السعودية ولحليفتها دولة الإمارات العربية المتحدة في اجتياح الحوثيين وكيف أنها توصلت إلى تفاهم بحكم الواقع مع أكبر خطم إقليمي لها، إيران.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي نقلت لأول مرة خبر الاتصال بين السعوديين وأعدائهم القدامى الحوثيين، وكتبت حينها ما يلي: «حرب بندر على الإسلام السياسي لها تجلياتها أيضاً على الحدود السعودية المضطربة مع اليمن. الحاجة إلى مواجهة المد الذي أحرزه التجمع اليمني للإصلاح في اليمن قاد السعوديين إلى دعم ميليشيات الحوثي التي سبق أن حاربتها المملكة من قبل. فلقد جيء بشخصية حوثية بارزة، هو صالح حبري، بالطائرة عبر لندن ليقابل رئيس المخابرات السعودي».
تكثفت الاجتماعات خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، وبلغني أن وفداً من الحوثيين توجه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة لحضور اجتماع رفيع المستوى، وأن نفس الوفد طار من بعد ذلك إلى الرياض. كما جرى اجتماع ناجح بين وزير الخارجية الإيراني ونظيره السعودي في نيويورك الأسبوع الماضي. وكان الرجل المحوري في كل هذه اللقاءات (بين الحوثيين والسعوديين والإماراتيين ) هو سفير اليمن في الإمارات العربية المتحدة «أحمد علي عبد الله صالح»، نجل الرئيس اليمني السابق الذي أجبر على التنحي في عام 2012.
بعد اجتماعه بوزير الخارجية السعودي الأمير «سعود الفيصل» علق نظيره الإيراني «محمد جواد ظريف» قائلاً بأن هذه المحادثات يمكن أن تقود إلى تحسن في العلاقات.
وكانت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) قد نقلت عن ظريف قوله: «نظيري السعودي وأنا نعتقد كلانا بأن هذا الاجتماع سيكون الصفحة الأولى في فصل جديد من العلاقة بين بلدينا». معلوم أن الحوثيين وإيران هم ألد أعداء القاعدة في جزيرة العرب، وهي الفرع الأنشط للقاعدة خارج سوريا والعراق.
إلا أن المستهدف من هذا الاجتياح المفاجئ هو الإصلاح، الحزب الإسلامي الإصلاحي. ويبدو أن الحوثيين حصلوا في مهمتهم هذه على مساعدة الرئيس السابق «علي عبد الله صالح»، والذي ما يزال صاحب نفوذ ولاعباً سياسياً مهماً.
وكان «صالح» قد صرح، من مقر تقاعده، بكلام يفهم منه دعمه للحوثيين. وفي اليوم الذي وصلوا فيه إلى صنعاء استبدل صورته على صفحته في الفيسبوك بصورة يبدو فيها مبتسماً. تاريخ اليمن مرصع بالتحالفات العسكرية المحمومة التي سريعاً ما تنهار لأبسط الأسباب. لم يسلم أحد من قتال كل أحد آخر تقريباً في وقت من الأوقات. إلا أن العنصر الطائفي في اليمن لم يكن صارخاً كما كان عليه الحال في أماكن أخرى من الخليج وذلك لأن الانقسام بين القبائل السنية والزيدية أقل حدة من الانقسام بين الجماعات السنية والجماعات الشيعية.
يشار عادة إلى الزيدية على أنهم الأكثر اعتدالاً بين الجماعات الشيعية وأنهم الأقرب إلى السنة من الناحية العقائدية. فالزيدية لا يعتبرون علي بن أبي طالب وذريته مقدسين كما تعتبرهم الطوائف الشيعية الأخرى. كل ما هنالك أنهم يعتبرون أنهم كانوا أحق بالحكم، فالأمر يتعلق بتفضيل سياسي لا بمبدأ عقائدي. في صراع اليوم، كثير من قادة الإصلاح هو أنفسهم من أتباع المذهب الزيدي، وينحدرون من قبيلة حاشد، وهي نفس القبيلة التي ينتمي إليها «علي عبد الله صالح».
بمعنى آخر، من التضليل وصم هذا الصراع على أنه صراع طائفي. بل هو صراع سياسي، والذي حدث أن قوات الحكومة، التي كانت تقاتل إلى جانب الإصلاح ضد الحوثيين، ذابت أو انحازت مؤقتاً إلى جانب القبيلة الشمالية الصغيرة القادمة من صعدة في شمال اليمن. لم يحصل من قبل أن دخل الإصلاح في اليمن في صراع مع السعوديين، إلا أن الرياض فيما يبدو أجرت حسبة استراتيجية وخلصت إلى أنه آن الأوان لإعلان الحرب على جميع فصائل الإسلام السياسي حيث وجدوا في العالم العربي – سواء في اليمن أو في مصر أو في ليبيا.
عندما سئل «تركي الفيصل» – وهو شقيق وزير الخارجية وسفير سابق في بريطانيا – في اجتماع في أوروبا مؤخراً لماذا يعادي السعوديون بقوة الإسلاميين السياسيين المعتدلين، قال إنهم أجروا حسبة استراتيجية، وأضاف: «لقد تم دراسة هذه السياسة بعمق وترو». لربما فعلاً تمت دراساتها بعمق وترو، ولكنها حسبة خطيرة وقصيرة النظر، وخاصة عندما تطبق على بلد مثل اليمن الملاصق لحدود المملكة العربية السعودية الجنوبية، وهي حدود شبه سائبة.
إنها استراتيجية محفوفة بالمخاطر على جبهتين. فأين سيكون مناط الولاء السني إذا ما انتهى الأمر إلى تدمير الإصلاح؟ لقد أفرز التظلم السني الكبير في سوريا والعراق تنظيم الدولة الإسلامية، وها هي نفس العملية تجري الآن في اليمن. لك أن تتذكر ما الذي فعله السعوديون من أجل إخماد الربيع العربي في البحرين، مدعين بأنه كان يشكل بوابة ستدخل منها إيران.
ها هم اليوم يستخدمون قوة مدعومة من قبل إيران ضد الإسلاميين السنة في اليمن. كل شيء مباح، في أي بلد عربي، طالما كان المستهدف هو الإسلام السياسي. ومن الخطورة بمكان أن يفترض السعوديون بأن النفوذ الإيراني عبارة عن طريق العبور منه في اتجاه واحد فقط. يرى الإيرانيون بأنه بعد أن يتمكن التحالف الغربي من سحق الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، فإن الدور من بعدها ربما سيكون على عميلهم بشار الأسد.
امتلاك صنعاء ورقة في أيديهم سيمكن الإيرانيين الآن من أن يلعبوا بها إذا ما هدد الأسد. ولا يستبعد إطلاقاً أن تتحقق نبوءة زاكاني (بالتمدد الإيراني نحو السعودية من اليمن). إذا كانت المملكة العربية السعودية جزءاً من ائتلاف قد يستهدف فيما بعد حليف إيران الأساسي في سوريا، فيمكن للإيرانيين أن يهددوا المملكة عبر حدودها الجنوبية. بعض المحللين يزعمون بأن بريطانيا وأمريكا متورطتان حتى النخاع في هذا المكر والتدبير.
كتب المحلل اليمني «ياسين التميمي» قائلاً: «ما حدث في صنعاء كان مرتبا له أمريكياً وبريطانياً وسعودياً، ومتفقا عليه بين هذه الأطراف، والدليل أن اجتماع أصدقاء اليمن الذي عُقد الأربعاء الماضي، في نيويورك، لم يُدِنْ اجتياح مليشيا الحوثي المسلحة للعاصمة، ما يؤشر إلى وجود تواطؤ دولي مع ما قامت به المليشيا الحوثية». ها هم الحوثيون، الذين كان مجلس الأمن الدولي في وقت سابق قد أدان حملتهم المسلحة – قبل حملتهم الحالية بوقت طويل، يقتحمون البيوت في صنعاء وينهبونها.
وكان من البيوت التي اقتحموها منزل «توكل كرمان» الصحفية اليمنية الفائزة بجائزة نوبل للسلام، والتي وصفوها بأنها تكفيرية.
لحسن الحظ كانت قد أفلتت دون أن يمسها سوء. ينبغي على الأمراء الأكثر براغماتية داخل العائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية أن يتساءلوا ما الذي سيحدث من بعد.
ما هي عواقب الفشل؟ وماذا لو استخدمت مثل هذه الخطط ”التي نجمت عن تفكير عميق ومترو“ ضدهم في عقر دارهم؟
المصدر | ديفيد هيرست، هافنغتون بوست – ترجمة: نون بوست