خلال مأدبة غداء للسير جون سويرز رئيس جهاز المخابرات البريطاني “إم آي6” في مقر صحيفة فاينانشيال تايمز، قارن خلالها الربيع العربي بالثورة الإيرانية، قائلا إنه كانت هناك استحالة في إدارة التغييرات الثورية، بما أدى إلى انتهائها على نحو لا يصب في مصلحة وقيم الغرب.
وقال سويرز نصا: ” لقد رأينا ذلك في طهران عام 1979، كما رأيناه في مصر على مدى السنوات القليلة الماضية”.
سويرز يستخدم نفس اللغة التي استخدمها رئيس الوزراء الأسبق توني بلير قبل سقوط مبارك، حيث قال آنذاك: ” يرغب الناس في نظام حكم مختلف، لكن السؤال هو ماذا ستتفتق عنه تلك الرغبة..أعتقد أن التحدي الرئيسي بالنسبة لنا يتمثل في كيفية مساعدة حليف لنا في إدارة ذلك التغيير بطريقة تفرز حكومة منفتحة وعادلة وديمقراطية”.
كل من سويرز وبلير يعتقدان أن مهمتهما تتمثل في إدارة التغييرات في الشرق الأوسط، لكن بخلاف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، فإن سويرز لديه خبرة في العالم العربي، إذ كان سفيرا لدى القاهرة، ويفترض أنه يعرف الفرق بين آية الله، ورئيس منتخب، وبين السلطة الدينية، والإسلام السياسي.
سويرز أيضا، يدرك أن جهاز المخابرات “إم آي 6 “منح الإخوان المسلمين صك براءة، حيث خلصت مسودة نتائج المراجعة التي أجراها السير جون جنكينز إلى عدم وجود صلات بين الجماعة والأفعال الإرهابية في مصر..وهي النتائج التي عقدت مهمة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي يقع تحت وطأة ضغوط سعودية وإماراتية لطرد الإخوان في بريطانيا، لا سيما بعدما استسلمت قطر جزئيا لضغوط مماثلة.
الصراعات في الشرق الأوسط لا تدار جيدا، فقد فشلت ثلاث دول، وهي العراق وسوريا وليبيا، بينها اثنتين بدافع التدخلات الغربية، كما تترنح اليمن، وبسطت داعش سيطرتها على جزء ملحوظ من الأراضي السورية والعراقية، لكن التنظيم سوف يطرد بسهولة بفعل الضربات الأمريكية الفرنسية، إلا أن تلك الأعلام السوداء سهلة الانتقال من مكان إلى آخر.
أمريكا، التي احتلت دورا هامشيا في الحرب على ليبيا، اضطرت هذه المرة لتولي عجلة القيادة، في قيادة تحالف ضد داعش لكن ركاب الطائرة يصيبهم التوجس من قدرة واشنطن على الالتصاق بالمهمة، وكنتيجة لذلك فإن الاحتمال الأكبر هو تنفيذ تلك الدول لعمليات مستقلة بذاتها.
في الأسبوع الذي أعلنت فيه السعودية والإمارات إحجامها عن المشاركة في عمل عسكري ضد داعش في العراق وسوريا، حاولت أبو ظبي والقاهرة خلق ظروف لتدخل غربي ثان آخر في ليبيا، وبدا لفترة من الوقت وكأنهم وجدوا ضالتهم في فرنسا، حيث وصف وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان ليبيا بأنها”محور للجماعات الإرهابية على أبواب أوروبا”
السيسي، أشار إلى ليبيا في حديثه مع جون كيري وزير الخارجية الأمريكي، حيث قال إن أي تحالف دولي ضد الإرهاب ينبغي أن يكون شاملا، ولا يقتصر على مواجهة تنظيم معين، ولكن يجب أن يمتد ليشمل كافة البؤر الإرهابية في الشرق الأوسط وإفريقيا.
كل ذلك أفضى إلى لا شيء، عندما أوضحت ليبيا في مؤتمر صحفي في إسبانيا، إنها لن تتسامح مع أي هجوم على أراضيها، كما خبت موقف الجزائر، لكن لا يمكن استبعاد فكرة التدخل المصري، لا سيما في ظل بقاء الجنرال خليفة حفتر في الصورة.. حيث حدث هجوم ثالث على ليبيا بواسطة طائرات مجهولة المصدر على مسلحي “فجر ليبيا”، وسط ادعاءات أنها تمت أيضا بضلوع إماراتي باستخدام قواعد عسكرية مصرية.
هناك خلط متعمد بين مليشيا فجر الإسلام، المكونة من كتائب مصراتة، وبين مجموعة متنوعة من مليشيات إسلامية أخرى، حيث يسعى السيسي إلى الحصول على الشرعية الدولية عبر ممارسة دور الرجل القوي الذي يحارب الإسلاموية بشتى أشكالها.
“إم آي 6” يدرك أن مسلحي داعش أكثر تعقيدا في تكوينهم ودوافعهم مما يتم تصويرهم..ديفيد كاميرون يصفهم بالوحوش، لكنهم ليسوا بتلك الغرابة التي يصفها رئيس الوزراء البريطاني، حيث أن بعض أعضائه من الوجوه المألوفة جدا، من عناصر الجيش والمخابرات العراقية السابقين، وكذلك البعثيين. كل عناصر داعش مدربون، ورجال معارك، ولديهم إمكانية استخدام أسلحة متطورة.
هؤلاء المقاتلون السنة يعارضون مفهوم أن التدخل الأمريكي ضدهم هو أمر جديد، فبالنسبة إليهم فالحرب لم تتوقف أبدا.
القليل من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية يتشاركون أيدلولوجية جهادية موحدة، ولكن يجمعهم جميعا عدو مشترك..هم الميلشيات الشيعية التي تدعمها إيران، وقطاع طائفي كبير من الجيش العراقي.
الأجهزة الأمنية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة تردد مخاوف عودة مواطنين لها كمقاتلين جهاديين من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، عبر رحلات جوية من تركيا، لكن الواقع أن الدول الأكثر قابلية لعدوى التمدد الجهادي هي تلك الأنظمة المستبدة العربية، التي باتت فيها الحقوق الديمقراطية الأساسية حلما بعيد المنال، والتي لا تتوزع خلالها الثروات بشكل عادل.
سويرز ينبغي أن يسأل نفسه ماذا إذا نجح السيسي؟ ماذا لو تم سحق الإسلام السياسي؟ ماذا إذا استسلمت جماعة الإخوان، وتم إسكات أصوات ملايين المصريين والليبيين والتونسيين في سلسلة من الانقلابات الخشنة أو الناعمة؟ هل ستكون الأجهزة الأمنية الأوروبية جاهزة لإدارة التداعيات؟.
ماذا سيكون حجم التهديد الأمني الذي يواجه أوروبا إذا انضم 5 مليون شاب مصري إلى صفوف الجهاديين، كملاذ وحيد لعزل الديكتاتورية العسكرية؟ مثل هذا السؤال بات أقل افتراضية، حيث رسخت جماعات جهادية ذاتها في سيناء، وباتت التفجيرات التي تستهدف قوات أمنية أمرا شائعا..أحدثها مقتل اثنين أمام مبنى وزارة الخارجية”.. ربما ما زال هناك ثمنا باهظا لدعم الطغاة، الذين يدعمون
المصالح الغربية على حساب كافة القيم، والذين يدمرون الوسائل الوحيدة لدحض التطرف الجهادي.
ديفيد هيرست