كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن الدور المتزايد الذي تقوم به مراكز الأبحاث المعروفة بـ “ثينك تانك” بالتأثير أو محاولة التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية لصالح دول أجنبية تتلقى منها دعما ماليا، لدعم مشاريع بحث ودراسات توضع بين يدي صناع السياسة الأمريكية، ويستندون عليها عندما يتخذون قرارات تتعلق بدول معينة.
وكشف التحقيق أن دولا من ألمانيا والصين واليابان والنرويج ودول الخليج باتت تدعم مراكز البحث الأمريكية بعدة طرق.
وأشارت في بداية التقرير إلى أن وزارة الخارجية النرويجية دفعت خمسة ملايين دولار لشريكها في واشنطن كي يقوم بدفع المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخزانة والكونغرس لمضاعفة الإنفاق في مجال الدعم الخارجي.
ولم يكن الشريك الذي تلقى المبلغ واحدا من جماعات الضغط المعروفة في واشنطن، ولكنه مركز التطوير الدولي، وهو منظمة غير ربحية، والذي يعتمد عليه صناع السياسة في الكونغرس والحكومة لإعداد تقارير وأبحاث مستقلة وأكاديمية.
ولم يكن مركز التطوير الدولي هو الوحيد الذي تلقى أموالا، فهناك عشرات مثله في أمريكا تلقت عشرات الملايين من حكومات أجنبية في السنوات الأخيرة لدفع الحكومة الأمريكية تبني سياسات تعكس أولويات الدولة المتبرعة.
وترى الصحيفة أن الأموال التي تتلقاها المراكز تقوم بتحويلها إلى ذراع قوي من أذرعة التأثير نيابة عن الحكومات الأجنبية، وتضع أسئلة حول حرية البحث الأكاديمي، فيما يقول أكاديميون إنهم تعرضوا لضغوط كي يتوصلوا في أبحاثهم لنتائج محبذة للحكومات التي تدعمهم.
ورغم أن مراكز البحث لا تقدم معلومات حول الاتفاقيات التي عقدتها مع الحكومات الأجنبية، إلا أنها ليست مسجلة لدى الحكومة الأمريكية كممثل للدولة المتبرعة، ما يفتح الباب أمام خرق للقانون الفدرالي، وما يعني أن صناع السياسة في معظم الاحيان لا يعرفون عن علاقة المركز بالحكومات الأجنبية.
وتنقل الصحيفة عن المحامي والخبير في القوانين، جوزيف ساندلر، قوله إن ما يحدد عمل جماعات الضغط مع الحكومات الأجنبية أن الاتفاقيات مع مراكز البحث تشير للتأثير الذي تمارسه مراكز البحث في واشنطن.
ويقول ساندلر إن جماعات الضغط في العادة ما تقدم خدمات، ويتوقع منها الدفاع عن قضايا هذه الدولة أو تلك، لكن مراكز البحث لديها هذا المظهر من الحيادية الأكاديمية والموضوعية، والذي تم التخلي عنه.
ويشير التقرير إلى أن الترتيبات التي تقوم بها الدول الأجنبية تمت مع عدد من أهم مراكز البحث وأكثرها تأثيرا في واشنطن “معهد بروكينغز” و”مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” و”المجلس الأطلنطي”، وكل واحد منها تلقى دعما من حكومات لإعداد أوراق بحث للسياسات وتنظيم ندوات ولقاءات مع المسؤولين الكبار في الحكومة الأمريكية.
وتأتي معظم الأموال من الدول الأوروبية والشرق الأوسط، وكذا من الدول الآسيوية، خاصة النرويج والدول المنتجة والمصدرة للنفط مثل قطر والإمارات، ويتخذ الدعم عدة أشكال.
فالإمارات -وفق الصحيفة- دعمت “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وقدمت له بهدوء أكثر من مليون دولار أمريكي للمساعدة في بناء مقر المركز الجديد بزجاجه المشع والجدران الفولاذية الذي لا يبعد سوى أمتار عن البيت الأبيض.
فيما وافقت قطر العام الماضي على التبرع لمركز “بروكينغز” بمبلغ 14.8 مليون دولار على مدى أربعة أعوام، حيث فتح المركز فرعا له في الدوحة العاصمة القطرية، ودعم مشروعا حول العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي.
ويقول بعض الباحثين إن اتفاق هذه الدول مع المراكز الأمريكية عنى امتناعها عن انتقاد الدول الداعمة.
ونقلت عن سليم علي الذي عمل في مركز “بروكينغز” في الدوحة: “في حالة استخدم أعضاء في الكونغرس تقرير لبروكينغز عليهم الحذر، فهم لا يطلعون على الصورة بكاملها”.
وأضاف: “إنهم لا يطلعون على صورة غير صحيحة، ولكنها ليست الصورة الكاملة”.
وفي المقابل، دافع مدراء بعض المراكز عن الترتيبات، وقالوا إنها لم تؤثر على نزاهة البحث العلمي الذي تقوم به.
وفي حالة تداخل البحث العلمي مع رغباب المتبرعين، فهو يحدث صدفة لا قصدا.
ونقلت الصحيفة عن مدير مشروع السياسات الخارجية في مركز بروكينغز، مارتن إنديك: “عملنا هو التأثير على السياسات بأبحاث علمية مستقلة تقوم على معيار موضوعي وله علاقة بالسياسة، فنحن نريد التحاور مع صناع السياسة”.
ويقول مدير المجلس الأطلنطي، فردريك كيمب، وهو مركز بحث يتطور بشكل سريع، ويركّز على الشؤون الدولية، وقبل المجلس تبرعات من 25 دولة: “عملتنا هي مصداقيتنا”، مضيفا: “معظم الحكومات التي تأتي إلينا تعرف أننا لسنا جماعات ضغط، فنحن كيان مختلف، وتعمل معنا بناء على أهداف مختلفة بالكامل”.
ولكن العقود التي توقعها الدول الأجنبية مع مراكز البحث تحدد بوضوح ما ترغبه دولها منها.
وبحسب مذكرة داخلية لوزارة الخارجية النرويجية: “ففي واشنطن من الصعب على دولة صغيرة الوصول للسياسيين المؤثرين” و”عليه فدعم مركز بحث مؤثر هي واحدة من الطرق للوصول، وبعض مراكز البحث في واشنطن تقول إنها تقدم خدماتها فقط للدول الأجنبية التي تدفع”.
وتعتقد الصحيفة أن اعتماد مراكز البحث على الدعم الخارجي والتبرعات تقتضيه ضرورات التنافس بينها، حيث تضاعف عددها في السنوات الأخيرة، فيما تراجعت القروض التي تمنحها الحكومة الأمريكية لأغراض البحث.
ومن هنا، ترى الدول الأجنبية في الترتيبات مع مراكز البحث وسيلة للفت انتباه الحكومة الأمريكية، حيث تتسابق الدول والأمم للفت انتباه واشنطن لقضاياها.
وتتراوح الترتيبات من دولة لأخرى، فبعض الدول تحدد في عقودها شكل وطبيعة البحث، فيما تقوم دول أخرى بالتبرع لمراكز أبحاث، وبعد ذلك تدفع لشركات علاقات عامة وجماعات ضغط للتأثير على المركز، كي يسوق أجندة البلد.
ونقلت عن متحدث باسم السفارة اليابانية سئل عن سبب دفع الحكومة تبرعات لمركز بحث قوله: “اليابان ليست بالضرورة أهم موضوع في العالم”، مضيفا: “نعاني من بطء في النمو الاقتصادي، وأعتقد أن حضورنا قليل” في واشنطن.
ولا يمكن تحديد مدى الدعم الأجنبي لمراكز البحث، ولكن هناك 64 دولة أسهمت في دعم 28 مركزا في الولايات المتحدة منذ عام 2011.
ويقدر ما تلقته هذه المراكز بحوالي 92 مليون دولار أمريكي، ولكن المبلغ قد يكون أعلى نظرا لعدم توفر التفاصيل المالية عن طبيعة وشروط العقود التي عقدت بينها وبين الدول الأجنبية.
ووافق مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية تقديم قائمة بـ13 دولة أجنبية تبرعت للمركز من ألمانيا إلى الصين رغم أن المركز رفض تقديم معلومات حول طبيعة العقود مع هذه الدول.
واعترف مدير المركز، جون هامر، أن باحثي المركز في بعض الأحيان يدافعون عن قضايا أمام إدارة أوباما والكونغرس دعمتها الدولة المانحة للمركز.
ولكن هامر لا يرى فيها نوعا من اللوبي، وأن مركزه لا يعتبر وكيلا عن الدولة الأجنبية.
وأكد أنه “لا أمثل أحدا”.
وقال هامر الذي عمل وزيرا للدفاع في السابق: “لا أذهب للحكومة وأقول أريد الحديث معك عن المغرب أو عن الإمارات العربية المتحدة أو اليابان وأتحدث دائما عن هذه الدول، ولكنني لا أمثلها كما يفعل اللوبي في تمثيله لمصالحه”.
ويرى محامون أن العلاقة القوية بين مراكز البحث والدول الأجنبية قد يخرق قانون تسجيل العملاء الأجانب الصادر عام 1938 لمواجهة الدعاية النازية، حيث يطلب القانون من المنظمات التي تتلقى دعما من حكومات أجنبية لغرض التأثير على الرأي العام التسجيل في وزارة العدل.
ويقول المحامي في واشنطن عاموس جونز: “أنا مندهش، وبصراحة كيف أصبحت العلاقة واضحة بين المال المدفوع والأبحاث المنشورة والتأثير السياسي”.
وهناك مركز واحد يعترف أنه ربما خرق القانون الفدرالي، وهو المركز الدولي للتنمية بعد أن قدمت له سلسلة من المراسلات والرسائل الإلكترونية من الحكومة النرويجية التي طلبت التأثير على الحكومة.
وفي العام الماضي، بدأت اليابان جهودا لإقناع المسؤولين الأمريكيين للتفاوض حول معاهدة التجارة الحرة “الشراكة التجارية العابرة للباسيفكي”، والتي اعتبرت أولوية من أولويات الحكومة اليابانية.
وقامت الأخيرة بدفع أموال لشركة الضغط “أكين كامب” للضغط على أعضاء الكونغرس، لكن الحكومة اليابانية وسعت من جهودها وقررت التبرع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
وتقول الصحيفة إن كلا من قطر والإمارات العربية المتحدة اللتان تعتبران استمرار الوجود الأمريكي في الخليج مهم لأمنهما القومي، تنافستا على دعم مراكز البحث، وخاضتا حربا لتشكيل الرأي العام الأمريكي، حيث ناقشت قطر أن الإخوان المسلمين والإسلام السياسي هم أفضل خيار للديمقراطية في العالم العربي، فيما حاولت الإمارات إقناع صناع السياسة الأمريكية أن الإخوان هم خطر على الأمن والاستقرار في المنطقة.
وبدأت علاقة الإمارات بمركز الدراسات الاستراتيجة والدولية عندما واجهت معارضة لشراء سلسلة من الموانئ في الولايات المتحدة في عام 2007، حيث تساءل نواب الكونغرس إن كانت عملية الشراء تهدد الأمن القومي الأمريكي.
وعندها طلبت الإمارات من المركز تنظيم سلسلة من المحاضرات حول أهمية منطقة الخليج الاستراتيجية، وتحديد فرص للتعاون مع الولايات المتحدة.
وقدمت الإمارات تبرعات للمركز كي ينظم رحلات سنوية للخليج حيث يلتقي خبراء الأمن القومي مع مسؤولي الحكومة الإماراتية، ويطلعوا على الوضع.
كما وقدم المركز منبرا للمسؤولين الإماراتيين لعرض قضيتهم، ففي 23 آذار/ مارس سأل سفير الإمارات يوسف العتيبة رئيس هيئة الأركان المشتركة مارتن ديمبسي عن التزامات أمريكا نحو بلاده في ظل تخفيض ميزانيات الدفاع الأمريكية.
وأشار التقرير إلى أن الدول الأجنبية تتبرع لمراكز البحث وهي تتوقع خدمة قضاياها، كما يقول باحثون في المنظمات هذه.
وفي بعض الأحيان، يقوم المانحون الأجانب بمنع الآراء التي لا تخدم قضيتهم.
وأشارت الصحيفة إلى ميشيل دان التي عملت لعقدين في دائرة شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية، حيث قضت فترات في القاهرة والقدس وعملت في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض.
وفي عام 2011 كانت الخيار المناسب كي تترأس مركز رفيق الحريري في المجلس الأطلنطي، والذي أطلق على اسم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، والذي اغتيل عام 2005.
وانشيء المركز بتبرع من بهاء الحريري، نجل رفيق الحريري.
ولكن دان اكتشفت حدود قدراتها وقيودا على عملها، فبعد الإطاحة بحكم محمد مرسي عام 2013 من قبل الجيش المصري، وقعت على عريضة تطالب لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس تعليق الدعم العسكري الأمريكي، واعتبرت الإطاحة بمرسي “انقلابا عسكريا”، وعندها اتصل بهاء الحريري واشتكى.
ومع أن دان رفضت التعليق للصحيفة، إلا أنها تركت المجلس بعد أربعة أشهر من اتصال الحريري، لكن مدير المجلس كيمب قال إنه لم يتخذ أي قرار نيابة عن الحريري لقمع صوت دان. وأن الأخيرة تركت لأنها تريد التركيز على البحث وليس الإدارة.
ووصف آخرون في مراكز أخرى بعض القيود، فقد علقت الحكومة التركية دعمها لمركز بسبب تصريحات ناقدة لها أطلقها باحث فيه، وفق ما جاء في الصحيفة.