إلى أين سيذهب الحر، هل لمقر جهاز الأمن بأبوظبي، أم إلى معسكرات الاعتقال؟ وكيف سينتقل إلى هذه الأماكن وماذا ينتابه من شعور عندما يغادر بيته متوجها الى المجهول؟ وماذا يجري في هذه المقرات؟
تساؤلات كثيرة تدور في ذهن الحر المكبل بالأغلال، أغلال في العينين بعد وضع غمامة سوداء محكمة الغلق بمجرد خروجه من بيته وصعوده الى السيارة الجيمس الأمريكية المصفحة والمستخدمة لنقل الأحرار من بيوتهم الى الأماكن المجهولة.
يصعد الحر إلى السيارة فيأتي الشرطي ليضع الأساور الحديدية في يديه (الكلابشات) بعدما يجلس في الكابينة الخاصة به، ثم يكمل الأغلال بتصفيده من قدميه عبر سلاسل كذلك مثبتة أحد أطرافها في أرضية السيارة والطرف الآخر يشمل أساور كذلك توضع في القدمين، وبين كلابشات اليدين وكلابشات القدمين سلسلة تربط بينهما! ثم يحذرك الشرطي من تحريك الغمامة، وحتى اذا حاولت تحريكها فلن ترى شيئ فزجاج السيارة مبطن بالجلد والكابينة كذلك مبطنة بالجلد وعازل للصوت.
تضم السيارة الجيمس ثلاث كبائن، كبينتان في منتصف السيارة أحدهما يفتح بابها من اليمين والثانية يفتح بابها من الشمال، أما الكابينة الثالثة (الدابة) أو (الشنطة) فيفتح بابها من الخلف وتخصص لأصحاب الوزن الثقيل وبنفس مواصفات كل كابينة، يوجد أيضا بكل كابينة شاشة تعمل بالأشعة البنفسجية يرى الحراس منها مدى تحريك الحر المكبل بالأغلال عصابة العين، فإذا اكتشفوا ذلك تعرض للتوبيخ والسباب وتوعدوه بمزيد من العقاب الأليم عند نزوله منها .
تمضي بك السيارة متجهة إلى أبوظبي قاطعة الطريق بسرعة جنونية لا تقل عن ١٤٠ كيلو أو أكثر في الساعة حيث تفتح لها الإشارات ودائما تسير بصحبة سيارة حراسات أخرى بنفس المواصفات لتأمينها. وأذكر ذات مرة أن شاهدتها تسير بجواري على الطرق الخارجية فكانت تتجاوز كل أخلاقيات السياقة الحكيمة والضوابط المرورية المتعارف عليها، حتى أن رجال المرور كانوا يفسحون لها الطريق إذا رأوها حتى اعتاد الناس عند سيرهم تجنب خطوط سيرها وسرعتها الجنونية.
وما إن تبدأ السيارة في التوقف التدريجي بحسب المطبات الصناعية والبوابات الحديدية للمقرات والمعسكرات الأمنية، التي يتم فيها الإخفاء القسري للمعتقلين شهورا وسنين، إلا وتشعر أن قلبك بدأ يتحرك من مكانه ولا يثنيك عن هذه اللحظات سوى الأدعية والأذكار المحصنات من كل شرور الأشرار .
تقف السيارة وتنتظر فترة بعدما تسمع همهمات الحراس مع الجنود النيباليين .. تفتح الكابينة .. يأتي الشرطي الذي يصحبك فيرفع عنك أغلال القدمين ويقتادك من أساور يديك ويدخل بك مكان عبارة عن طرقات وممرات وزنازين فردية أمامها أحذية خفيفة لتعرف انك دخلت السجن.
عند باب الزنزانة يدخلك العسكري النيبالي ويقوم بنزع أساور اليدين الحديدية (الكلابشات)، ويقول لك: «انتظر خمسة دقيقة»! ويذهب ليأتي بملابس السجن ويقول لك انزع كامل ملابسك الخارجية والداخلية وكافة الأغراض الشخصية من ساعة ونظارة وخاتم ووضعهم في الكيس المخصص لذلك ليقوم باستلامه.
عندما تشرع لنزع ملابسك ترمق بعينيك يميناً وشمالا ومن الأعلى الى الأسفل لتجد فوق رأسك كاميرا مثبتة وتلفاز مربوط بشبكة تلفزيونية، فتقول له كيف انزع كل ملابسي هكذا ؟ فيفهم أنه أخطأ وكان عليه بعد أن سلمك بدلة السجن أن يكون معها شرشف (فوطة) كبيرة تلف بها نصفك السفلي حتى تتخلص من ملابسك الداخلية دون أن تكشف عوارتك أمامه.
بعد أن تقوم بنزع كافة ملابسك ونعالك وغيره، تقوم بوضعها في الكيس المخصص لذلك ، وتبدأ في ارتداء ملابس داخلية بحسب مقاسك يقوم العسكري بتسليمها لك، ثم ترتدي بدلة السجن نصف كم من القماش الخفيف الأزرق، ثم يقول لك للمرة الثانية «انتظر خمسة دقيقة».
فيغلق باب الزنزانة عليك ويأتي للمرة الثالثة ليسلمك مرتبة (دوشك) مغلفة بكيس أزرق ووسادة أسفنجية مغلفة أيضا بكيس أزرق، وحذاء خفيف لدورات المياه يوضع خارج باب الزنزانة وبطانية وكوب ماء من الورق، وسجادة صلاة، ويقول لك العسكري النيبالي: «إذا أنت يحتاج شيئ خبرني بالضغط على جرس المناداة الموجود بجوار الباب».
يغلق العسكري النيبالي الباب لتبدأ في التقاط أنفاسك بعد رحلة طويلة شاقة تبدأ من لحظات التفتيش بمنزلك ومرورك برحلة الانتقال الشاقة إلى معسكر الاعتقال في أبوظبي لتبدأ في رحلة جديدة أخرى من الذهاب إلى المجهول.
تجد نفسك قابعا في زنزانة فردية لا يوجد بها أي نوافذ تعرف منها الليل من النهار، جدرانها من اللون الأبيض اللامع ، مضاءة على مدار الساعة بمصباحين مقاس كل منهما ١٢٠ سم مزدوج ينتصفان السقف، وباب حديد من اللون الأسود أو الأبيض ومحكم الغلق به نافذة صغيرة يتحكم فيها العسكري من الخارج اذا أراد أن يحدثك أو يخبرك بشيئ، مساحة الزنزانة متران في ثلاث أمتار، وبعضها أكبر قليلا، ودورات المياه عمومية وتقع خارج الزنازين.
بعدما تجلس في زنزانتك وتلملم أعصابك المتناثرة تبدأ في التفكير باللجوء الى محراب الصلاة لتجد ملصقا في أعلى الجدار موضحا اتجاه القبلة ، فتذهب للضغط على جرس مناداة العسكري فيأتي ويفتح لك النافذة متسائلا: «شو تريد ؟!» تخبره برغبتك في الذهاب للحمام أو التواليت .. فيرد عليك ويقول: «صبر شوية الان هو فيه مشغول»!
فما عليك إلا أن تصبر حتى يفتح عليك الباب مرة أخرى لتعرف مزيدا من الإجراءات والقواعد اذا أردت الذهاب للحمام.
يقوم العسكري النيبالي بتقديم الفوطة (الشرشف) الخاص بك والمعلق خارج الزنزانة بمشجب خاص ثم يغلق الزنزانة حتى تنتهي من نزع جميع ملابسك الداخلية والخارجية وتنادي عليه بعد ذلك لتعطيه ظهرك وانت تقف على بوابة الزنزانة ليقوم بوضع عصابة العين السوداء ثم ترتدي حذاء الحمام لتسير معه إلى الحمام وعند الباب تعطيه ظهرك أيضا ليقوم بنزع العصابة السوداء وتدخل الحمام لتقضي حاجتك.
القواعد تقتضي عدم غلق الباب من الداخل بل من الخارج وبمعرفة العسكري الذي يظل واقفاً حتى تنتهي، والباب الخشبي مفتوح من أعلى ومن أسفل بواقع ٣٠ سم من أسفل ومن أعلى وتقوم بوضع الفوطة على الفتحة العلوية ويقوم العسكري النيبالي بتسليم فرشة الأسنان مصحوبة بالمعجون المخصص لك، وكذلك الصابون السائل من أسفل الباب.
بعد أن تقضي حاجتك في الحمام البلدي مستخدما دلة بلاستيك مخصصة لعملية النظافة الشخصية، كما يوجد حوض للوضوء ومكان مخصص للاستحمام بينهما في الفترة من العاشرة إلى الحادية عشر والنصف من صباح كل يوم .
عند الانتهاء من قضاء الحاجة وبعدما تستر عورتك بالفوطة تنادي عليه قائلا: «عسكري خلاص» .. فيفتح الباب لتعطي له ظهرك ليربط الغمامة على عينيك وينقلك الى الزنزانة لتخلع حذاءك عند الباب وتعطيه ظهرك أيضا مرة أخرى لينزع الغمامة وينتظرك حتى ترتدي ثيابك وتسلمه الفوطه من نافذة الباب بعد غلقه عليك، ثم تشرع في الصلاة لتستريح وتهدأ من هول اللحظة وتبعاتها. في انتظار الخطوة التالية …. بدء التحقيقّ
سالم بوشهاب
المصدر | الخليج الجديد