في تحليله للجذور التاريخية للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) كتب عميل المخابرات البريطاني (أم أي 6) السابق، أليستر كروك، بحثا نشره موقع “هافينغتون بوست” على حلقتين.
يرى كروك –الذي يرأس مركزا لحل النزاعات في العاصمة اللبنانية بيروت– أن تفكير ورؤية داعش متجذرة في الفكر الوهابي، وينقل ما كتبه الباحث السعودي فؤاد إبراهيم عن رؤية واستخدام داعش المقصود للغة محمد بن عبد الوهاب وتركيزه على أهمية التوحيد.
وبدا هذا الاستخدام واضحا في كلام أبو عمر البغدادي، أمير المؤمنين للدولة الإسلامية في العراق، والتي سبقت ولادة تنظيم داعش، ففي تنظيره لقواعد دولته أكد على أهمية نشر التوحيد الخالص.
ويشير “كروك” إلى أن استخدام داعش للغة ومصطلحات ابن عبد الوهاب يهدف لإشعال فتيل انفجار إقليمي أكبر، انفجار ممكن ولو نجح فسيؤدي لتغيير الشرق الأوسط كله. ويقول كروك: كان هذا بالضبط النموذج المثالي الطهوري والتبشيري للوهابية “أب” المشروع السعودي بشكل كامل، والذي قمعه العثمانيون بعنف في عام 1818، ولكنه انبعث بقوة في العشرينات من القرن الماضي ليصبح المملكة العربية السعودية التي نعرفها، وحمل المشروع السعودي في داخله “الجين” الذي يدمره.
ومن أجل فهم طبيعة هذا “الجين”، يكتب كروك عن ولادة الدولة السعودية الحديثة والدور الذي لعبه هاري سانت جون فيليبي (والد عميل أم أي – 6 الذي تجسس لصالح موسكو، كيم فيلبي) ويرى “كروك” أن فيلبي أسهم في “تجسيد هذا الجين وتحويله إلى دولة جديدة”، فقد كان هذا المسؤول البريطاني مرافقا للملك عبدالعزيز بن سعود، وأصبح مستشارا له بعد استقالته من عمله مع الحكومة البريطانية، وظل حتى وفاته رمزا مهما في بلاط الحكام السعوديين. ومثل لورنس العرب كان «مستعربا» واعتنق الإسلام وأصبح يعرف باسم شيخ عبدالله فيلبي.
ويضيف أن فيلبي كان مصمما على مساعدة عبدالعزيز للوصول للحكم، وفي بعض الأحيان خالف التعليمات الرسمية، عندما شجع ابن سعود لتوسيع حكمه حتى شمال نجد. لكن وكما لاحظ الباحث الأمريكي، ستيفن شوارتز، كان أن سعود وفيلبي واعيان للوعود البريطانية بإنشاء دولة للعرب على أنقاض الدولة العثمانية، ولهذا السبب كانا مصرين على الفوز بالحكم الجديد.
ويعلق “كروك” أن طبيعة ما جرى بين فيلبي وابن سعود ظلت مجهولة، لكن الهدف لم يكن بالضرورة بناء دولة بالمعنى الحديث، بل دولة تجعل من كل الأمة وسيلة في يد الوهابية وتعزز من وضع الحكام السعوديين، وحتى يتحقق هذا الأمل المنشود كان على ابن سعود الحصول على دعم البريطانيين.
وبناء على هذا التحليل، الذي يقدمه كروك، فعلى ما يبدو أن فيلبي «العراب – الأب الروحي» للمشروع الذي أعطى السعوديين القدرة على “إدارة الإسلام السني” نيابة عن الأهداف الغربية (من ناحية التصدي للناصرية والبعثية والتأثير السوفييتي والنفوذ الإيراني…)، وفي المقابل يقبل الغرب بالقوة الناعمة للوهابية التي تقوم عليها الدولة.
ونتيجة لهذا، لا تزال السياسة البريطانية والأمريكية مرتبطة بالأهداف السعودية، وتعتمدان بشكل كبير على المملكة لتحديد مسار السياسة في الشرق الأوسط.
وهنا يرى أن إستراتيجية ابن سعود – فيلبي كانت ناجحة بشكل مذهل، مع أن هذه الإستراتيجية كانت متجذرة في الفهم البريطاني – الأمريكي الغامض.
ويقول كروك إن موافقة الغرب على المشروع السعودي اقتضت تحولا في طبيعته من مشروع عسكري إلى دولة، ومع ذلك لم يكن التحول سهلا، نظرا للتناقضات التي يحملها المشروع مع فكرة الحداثة، وما جرى هو أن «الجين» أصبح أكثر نشاطا مع تقدم عمليات التحديث بدلا من ضموره.
فقد وجد ابن سعود نفسه أمام تمرد من عناصر في حركة الإخوان السعودية، التي أخذت عليه استخدامه التكنولوجيا الحديثة، وعندما حاول أيضا وقف طموحات الإخوان الجهادية بعد وصولهم للمناطق الواقعة تحت سيطرة البريطانيين اتهم بالتخلي عن الجهاد.
وفي النهاية اضطر ابن سعود لمواجهة الإخوان عام 1929 ومن بقي منهم تم دمجه لاحقا في الحرس الوطني.
ويتحدث الكاتب هنا عن التحديات التي واجهها الملك سعود نجل الملك عبد العزيز الذي واجه تحديا من المؤسسة الدينية التي خلعته عن العرش بسبب طريقة حياته الباذخة ثم قتل خلفه الملك فيصل من أحد أقاربه.
ويرى في احتلال الحرم الذي قامت به جماعة جهيمان العتيبي عام 1979 واحدا من التحديات التي واجهتها الدولة السعودية، فمع أن العتيبي لقي في البداية دعما من الشيخ بن باز مفتي المملكة، إلا أن الأخير أخذ عليه شجبه للعائلة السعودية وأنها فقدت شرعيتها واتهامه لها بالفساد.
وتنتمي رسالة جهيمان بالضرورة للأفكار التي حملها الإخوان الأوائل ممن قاتلهم الملك المؤسس، وعليه فعندما اعتقلوا عام 1978 وفحصت أفكارهم لجنة من العلماء، أمرت بإطلاق سراحهم بعد أن وجدت أنها تقليدية ولا تمثل والحالة هذه تهديدا على البلد.
وحتى عندما احتلت الجماعة الحرم ظل العلماء يتسمون بالحلم تجاهها، وأُصدرت الفتوى التي طلبتها الدولة منهم تبيح استخدام القوة في الحرم لتحريره من أيديهم، جاءت متحفظة من ناحية اللغة كما يقول، فلم يخرج العلماء مثلا جهيمان وأتباعه من الملة المسلمة، رغم انتهاكهم لحرمة المسجد واستخدامهم السلاح.
ولم تستطع الدولة إخراجهم من الحرم إلا بعد أسابيع نظرا لوفرة السلاح الذي كانوا يملكونه وهربوه لداخله، وللقدرات القتالية التي أبدوها لأن بعضهم عمل في الجيش أو الحرس الوطني.
وعليه، يرى الكاتب في صعود داعش مظهرا إحيائيا لفكر “الإخوان” (إخوان من طاع الله)، الذي ظل يظهر داخل المملكة عبر مراحل معينة، لكنه لم يظهر في خارجها. وهذا يفسر القلق الذي يشوب الحكام السعوديين من صعود التنظيم في سوريا والعراق. فداعش هو في سياق هذا التحليل يمثل «الإخوانية المحدثة» وجماعة رافضة للحكم السعودي تنشط قريبا من حدود المملكة.
هنا تكمن المشكلة، فبتطور السياسة الأمريكية التي تقوم على القيادة من الخلف والنظر للدول والمجتمعات السنية من أجل تنسيق القتال ضد داعش (كما في مجالس الصحوات)، هناك من سيجد فيها إستراتيجية غير واقعية لأنها لا تريد أن تدخل نفسها في قلب الخلافات السعودية.
والسؤال هنا: هل ستؤدي هجمات سنية منسقة على داعش لتحسين وضع الملك عبدالله، أم إنها ستفضي لإشعال غضب المعارضة السعودية أكثر، وهنا يجدر بنا التساؤل من هم أعداء داعش: الغرب أم العائلة السعودية؟
خدمة العصر