قرأت قبل سنوات في كتاب اكاديمي يبحث في علاقة الروايات والخيال بما يحدث في عالم السياسة العالمية عن رواية صدرت في عام 1981 بعنوان “المهدي”. موضوع الرواية انه، وفي مواجهة التشدد والتطرف الإسلامي في ارجاء العالم، والفوضى التي تعم دول منابع النفط مما يهدد استقرار الغرب، تقوم المخابرات الأ مريكية والبريطانية بإيجاد المهدي الذي ينتظره العالم الاسلامي، بحيث يكون تحت سيطرتها، ويعمل على توحيد العالم الإسلامي تحت رايته ومرجعيته، موجهاً كافة مسلمي العالم بما يخدم الأهداف الغربية ويؤمّن لها الاستقرار. وبعد اكتشاف الروس للخطة يحاولون إفشالها ولكنهم يخفقون في ذلك.
تذكرت هذه الرواية وأنا اشاهد الخليفة الجديد يصعد على منبر اقدم وأشهر جوامع العراق في الموصل، فالطريقة التي صعد بها، والملابس التي ارتداها، وطريقة كلامه، ذكرتني تماما بالسيناريو الذي نفذته المخابرات الأمريكية والبريطانية في رواية “المهدي”، ابتداء من غار قرب المدينة المنورة يشبه غار حراء، وباستخدام اخر ما توصلت إليه تكنولوجيا البث والصوتيات في حينه للإيحاء لشخص ما، كان منذ سنين يرتاد الغار ويعتكف فيه، بأن الوحي هو الذي يخاطبه، وبأ نه سيكون المهدي الذي ينتظره المسلمون لقيادتهم.
ثم يتم استخدام تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والليزر لإعلان قيام هذا المهدي امام ملايين الحجاج في عرفة.
وفي هذه اللحظة بالذات، التي هيأت لها المخابرات الأمريكية لتُحكم سيطرتها على “مشروع المهدي” بواسطة تاجرعراقي يسكن السعودية وله علاقة وطيدة مع هذا الرجل/المهدي وكذلك بالتعاون مع المخابرات البريطانية، تقوم الأخيرة باختطاف المشروع كله. كانت المخابرات الأمريكية تعتقد ان رجل الغار قد خُدع باعتقاده انه فعلا المهدي الحقيقي، إلا ان الحقيقة ا نه ابن رجل المخابرات البريطانية الذي اقترح المشروع، ورزق به من زوجة عربية سبق ان تزوجها ثم اختفت وابنها عن الأ نظار. وهكذا يظهر انّ المهدي المنتظر ليس شخصا مخدوعاً كما ظنت المخابرات الامريكية يمكن ان تسيطر عليه، بل لاعباً بريطانيا اساسياً في المشروع منذ بدايته.
وكنت وأنا اشاهد من خلال شاشة التلفزيون “الخليفة البغدادي” وهو يصعد منبر الجامع ويلقي خطبته، أرى بوضوح اصابع المخابرات والسناريوهات الهوليودية المتقنة في إخراج حفلة تنصيب هذا “الخليفة”، تماما كما تم تنصيب المهدي في الرواية التي صدرت قبل 33 عاما.
في كتاب عن تاريخ وعمل الموساد بعنوان “جواسيس جدعون: محاربو الموساد السريون” ذكر الكاتب ان الموساد عملت منذ تأسيسها على زرع عملاء في البلدان الإسلامية، وخاصة العربية، عاشوا ونشأوا كمواطنين عرب، ووصل قسم منهم إلى مراكز حساسة في الدول العربية لخدمة مصالح إسرائيل. وما قصة العميل الإسرائيلي كوهين في سوريا ببعيدة. إنه واحد فقط تم كشفه، وهناك، كما يؤكد الكاتب، المئات مثله.
في الواقع وفي الخيال والافلام تمت ولازالت عمليات سرقة شخصيات لاشخاص تجري تصفيتهم، ثم يجري إبدالهم بآخرين ينتحلون هذه الشخصيات، ثم يتم إيصالهم بطرق ذكية كي يلعبوا دورًا اساسياً في اتخاذ قرارات مصيرية، وتوجيه سياسات تخدم في النهاية مصالح جهة او دولة معينة. تذكرت كل هذا، وأنا افكر بشخصية “خليفة داعش” وبكل ما يجري الآن في العراق، وأربطه بالسرعة الرهيبة التي ظهرت بها داعش، والاكتساح الواسع الذي حققته، بحيث انهارت امامها الحدود وانهزمت الجيوش.
وربطت بين هذه الرواية ورواية اخرى قرأت عنها قبل ايام قليلة فقط في احدى الصحف الامريكية كانت قد صدرت في امريكا عام 2009 بعنوان ” 72 عذراء” اي 72 حورية. مؤلف الرواية امريكي/إسرائيلي متخصص في الإلكترونيات، سبق له ان حاضر في جامعة نو رث إيسترن في الولايات المتحدة، وخدم في الجيش الإسرائيلي، حيث وفّرت له خدمته “فرصة اكتساب خبرة ثمينة في المخابرات العسكرية”.
تتحدث هذه الرواية الثانية عن تخطيط لتخريب وتهديم حماس من الداخل عن طريق زرع شاب إسرائيلي خارق الذكاء، شكله عربي ويتقن العديد من اللغات واللهجات العربية داخل المنظمة للوصول إلى موقع يمكنه من توجيه وتخريب اعمالها وتدميرها. وتقوم الموساد بالضغط عليه للقيام بذلك. وبعد ان يرفض هذه المهمة بإصرار يتم تدبير خطف خطيبته من قبل “منظمة إسلامية إرهابية إندنوسية” لا وجود لها، حيث رتبت عملية الخطف الموساد نفسها بأسم هذه المنظمة الوهمية لدفعه للعمل معها بعد ان تم اقناعه ان هذه المنظمة الارهابية الاندونوسية تعمل بالتنسيق مع حماس ولهذا فان وصوله الى دور قيادي في حماس سوف يساعده بالتاكيد على اكتشاف من وراء اختطاف خطيبته ومكان احتجا زها!
الغريب ان هذا الشاب الإسرائيلي هو من اصول عراقية يهودية، هاجر جداه وابواه من العراق الى اسرائيل في مطلع خمسينات القرن الماضي. وكأن قدر العراق ان يكون حاضرًا بشكل او اخر في الواقع والخيال معا من خلال شخصية التاجر العراقي الذي يساهم في مشروع “مهدي المخابرات” و”خليفة داعش”العراقي وهذا الشاب الاسرائلي ذي الجذور العراقية! بل اكثر من هذا، فالشاب الفلسطيني قاسم الناصر الذي قتلته المخابرات الإسرائيلية لتسرق شخصيته للوصول إلى قيادة حماس له جذور عراقية ايضا حيث عاش جداه وابواه في العراق كلاجئين منذ عام 1948 قبل تركه العراق الى مصر للدراسة الجامعية ثم هجرته الى امريكا حيث تمت تصفيته لانتحال شخصيته!
صعود داعش، وانتشارها الواسع والسريع ببضع مئات من المقاتلين، محققة انتصارات تعجز عنها الجيوش الجرّارة، اثار، وما يزال، تساؤلات كثيرة يحار الكثيرون في العثور على اية اجوبة عنها، ويتوه الناس في التفكير وترويج الروايات العديدة في تفسيرها.
وسنستعرض هذه التساؤلات لعلها تقودنا إلى بعض الوضوح آخذن بنظر الاعتبار ممارسات المخابرات، الخيالية والحقيقية منها، في سرقة شخصيات وايجاد شخصيات بديلة:
لماذا اطلقت القوات الأمريكية سراح البغدادي وغيره من القيادات التي ظهرت فجأة بعد ذلك على الساحة، ومعها الكثير من الأموال والعتاد والأجهزة الإلكترونية الحديثة التي لا تملكها معظم جيوش المنطقة، ما عدا إسرائيل طبعاً ؟
لماذا لا تقاتل داعش النظام السوري او يقاتلها؟ فمن المعلوم والواضح من تصريحات قادة إسرائليين ان إسرائيل لا تريد إسقاط الأ سد ونظامه، وإلا لسقط الأسد منذ سنوات.
لماذا سهل نوري المالكي وزبانيته هروب الاف المعتقلين، والذين لم يجدوا حاميا وملجأ لهم إلا داعش؟
لقد تباينت الآراء حول ا سباب انهيار جيش المالكي وهروب 100 ا لف جندي وضابط وشرطي امام بضع مئات من المقاتلين، ولكن كيف يمكن ان نفسر انهزام قوات البيشمركة امامهم، وهي قوات جيدة التدريب، قاتل افرادها الجيش العراقي لعقود طويلة عندما كان جيشا يعتد به وبقوته؟ إن جيش المالكي لم تكن لديه دوافع عقدية او وطنية للقتال ومعظم افراده مرتزقة من نفايات الميليشيات الطائفية الارهابية المجرمة، ولكن البيشمركة لديهم مثل هذه الدوافع، إضافة إلى حرصهم على مكتسبات عديدة حصل الاكراد عليها بعد كفاح طويل!
لماذا وجه المالكي زبانيته في الجيش والشرطة الاتحادية ليذيقوا اهالي الموصل يوميا ولمدة ثمان سنوات الذل والعذاب والقتل والتنكيل والإهانات والاغتصاب والخطف والتشريد والمقابر الجماعيىة؛ بحيث هبوا في الوهلة الأولى لاحتضان داعش والترحيب بها، قبل ان يكتشفوا مخططها الإرهابي الاجرامي؟ اما كان الأولى به أن يعمل منذ البداية على كسبهم إلى جانبه لضمان تأييدهم على الاقل، ان لم يكن بدافع وطني اواخلاقي فعلى الاقل من منطلق مصالحه السياسية وضمان بقائه في الحكم؟
كيف تمكنت داعش من الوصول إلى الموصل في سياراتها الواضحة للعيان، وبأعلامها الخفاقة، عبر منطقة مكشوفة لا جبال فيها ولا وديان ولا غابات، من غير ان تكتشفها الأ قمار الاصطناعية وطائرات التجسس المتواجدة ليلاً نهارًا في المنطقة؟ ولماذا لم تسعَ امريكا لقتل البغدادي حتى الآن بطائراتها من غير طيار كما فعلت مع العولقي وكثيرين غيره في اليمن والباكستان؟
لماذا يُهجَّر اليزيديون والشبك والمسيحيون من مناطق سهل نينوى، وخاصة مناطق شمال غرب العراق؟ وكيف يخدم هذا مصالح داعش؟ هل لإسكان اخرين محلهم؟ ومن هم الذين يراد إسكانهم؟ من المعروف، ولكن ربما لقليل من المتتبعين، ان الحكومة التركية اعترضت على قيام اسرائيل، عبر العديد من المغتربين الذين عادوا إلى العراق بعد 2003 ، بشراء اراضٍ واملاك واسعة في سهل نينوى وشمال غرب العراق، وخاصة حول سنجار وغيرها من المدن الصغيرة والقرى في المنطقة؟ بل إنّ بعض وسائل الإعلام ذكرت ان تركيا وجهت في حينه استفسارا إلى إسرائيل بهذا الخصوص، ولا نعلم ما كان الرد عليه. الم تقم إسرائيل بنفس التكتيكات لشراء اراضٍ ؤاملاك في فلسطين من قبل عملاء فلسطينيين ليقوموا بعد ذلك ببيعها إلى مؤسسات يهودية، وإسكان اليهود والمستوطنين فيها؟
من الواضح حتى للاغبياء ان ممارسات داعش الاجرامية لا تهدف فقط الى تمزيق الدول التي تتواجد فيها، وتأجيج نيران الصراعات الطائفية والعرقية، وشل الاقتصاد، وتدمير البنى التحتية، اضافة الى هز الامن والاستقرار في الدول المجاورة ، بل الى تشويه الاسلام ومبادئه السمحة بشكل ممنهج ومتعمد وبخطوات وممارسات درست بعناية ودقة بالغة؛ تشويهاً يحتاج إلى عقود، او ربما قرون لترميمه!
السؤال الآن: من هو المستفيد من كل هذا؟ ومن الذي اوجد “الخليفة البغدادي” ليخدم اجندته واهدافه؟ او بالاحرى من الذي انتحل شخصية من يسمى “إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البدري الحسيني القرشي السامرائي” ليخرجه علينا خليفة للمسلمين؟ وهل سيكون هو الخليفة الأول والأخير؟ ام سيعقبه احد عشر خليفة اخر، يدخل اخرهم في السرداب ثم لا يعود، حتى يصبح “الخليفة المنتظر”؟ ومن ياترى سيخرج حقا من السرداب ومن هي الجهة التي ستخرجه وبأي سيناريو، وماهي الاهداف التي سوف يخدمها؟
د. ليلى الشامي