تخيل بئر نفط يتدفق بين فريقين (أحدهما) قوي ذو نفوذ قادر علي التزاحم يستأثر بالقسم الأكبر من خيرات البئر، و(الثاني) ضعيف لا يملك من أسباب القوة إلا القليل ولا يستفيد سوي بالنصيب الأصغر.
ويوما ما بدأ هذا البئر ينضب، وقل الخير، فجاء “القوي” صاحب النصيب الأكبر من الثروة علي مدار السنوات الماضية ليعرض علي (الضعيف) الذي لم يتكسب سوي القليل أن يدفع كلا منهما “مبلغا متساويا” من عائد ما كسباه من البئر في سنوات سابقة كي يمكن توفير القوت الضروري لهما سويا .
فهل من العدالة أن يدفع الضعيف صاحب النصيب الأصغر نفس ما يدفعه القوي الذي استحوذ علي النصيب الأكبر من نفط البئر؟ وهل لو تم الأخذ بهذا النظام سيكون هذا عدالة في توزيع الثروة أم توزيع ظالم للثروة ؟
واقع الأمر أن هذا المثل يعبر بالضبط عما تطالب به المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بالسعودية، الموظفين السعوديين الفقراء عبر نظام التأمينات الجديد «ساند»، حيث تحملهم مسئولية نضوب البئر وأن يتحملوا نفس التكاليف التي سيدفعها الغني الذي حصل علي النصيب الأكبر من توزيع الثروة .
ولهذا يعتبر هذا النظام ليس فقط ظالما لأنه يساوي بين من حصل علي نصيب أكبر من الثروة ومن حصل علي النصيب الأصغر، ولكنه يعد مسمارا أخرا في نعش العدالة الاجتماعية السعودية ومخالفة لنظام العدالة في الإسلام، ويزيد من غضب الموظفين علي الحكومة؛ فهم يحلمون بزيادة رواتبهم ثم يفاجئون بالخصم منها تارة عبر «ساهر» وتارة عبر «ساند».
فالقوانين التي تصدر أصبحت لمصلحة الأغنياء ضد الفقراء أو ضد الطبقة المتوسطة الدنيا، بدلا من أن يكون هدفها العدالة الاجتماعية والأخذ من الغني لصالح الفقير.
لهذا ينظر كثيرون إلي نظام «ساند» الجديد الخاص بالتأمين ضد البطالة عن العمل، والذي ستبدأ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بالسعودية في تطبيقه فى 31 أغسطس الجاري، بشكوك في أن يكون نظام أمان أو عدالة للموظف، ويعتبرونه “تقنين” لنظام تمييزي بين الفقراء والأغنياء، واقتطاع من جيوب فقراء المملكة لخزينة الحكومة.
ويزيد من خطورة هذا النظام أنه سيطبق بصورة إلزامية على جميع الموظفين السعوديين الذين يخضعون لنظام المعاشات، وبدون استشارة الشعب، فضلا عن أن المبالغ المقتطعة تبدو كبيرة مقارنة برواتب الموظفين (2%) وحتي لو قيل أنها في حدود 90 ريال فقط ، فهو مبلغ مؤلم للموظف الفقير الذي ظل يعاني طوال السنوات الماضية، وبالمقابل هو مبلغ زهيد للأغنياء الذي استأثروا بأكثرية الثروة علي مدار عشرات السنوات السابقة.
والأخطر أن النظام الجديد وضع شروطا قاسية لاستفادة الموظف منه حتي ولو تم خصم 2% من أجره شهريا وأمضى مدة لا تقل عن 12 شهرا في نظام التأمينات، تتمثل في 11 شرطا قد تمنع الموظف السعودي من الاستفادة من هذا التامين «لو ثبت أن له دخل من عمل أو نشاط خاص»، أو «لم يمض 12 شهرا عليه كعضوا في هذا النظام ويدفع اشتراكاته بانتظام».
ويمكن إجمال دلالات وانعكاسات هذا النظام الجديد للتأمينات فيما يلي:
1- هذا النظام يؤكد انتهاء عهد تكفل المملكة بكافة مصاريف الرعاية للمواطن وانتهاء تدليله وبدء تقديم الخدمات للسعوديين بسعرها الحقيقي علي الطريقة الغربية، دون أن تتكفل الدولة بدفع مستحقات إضافية له.
2- يعكس مؤشرات هبوط الاقتصاد السعودي وصعوبة تدبيره موارد مالية لتوفير احتياجات الداخل في ظل الصرف الكبير علي أنشطة سياسية ودبلوماسية سعودية تدخل ضمن تحقيق الأهداف السياسية للدولة ودون أن تنعكس بأي عائد علي المواطن البسيط.
3- لم يتم أخذ رأي الشعب (اتحاد اللجان العمالية قال أنه لم يتم الأخذ رأيه واقتصر الأمر علي إبلاغها) رغم الاقتطاع من جيوب فقراء المملكة، ما قد يهدد السلام الاجتماعي وينشر حالة من الغضب الشعبي.
4- في الوقت الذي يتم فيه تدفق الأموال السعودية علي مناطق اضطرابات عربية ومناطق الصراعات مثل مصر والعراق وسوريا، أو لدعم جهود مكافحة “الإرهاب” دوليا، يجري التضييق علي المواطن السعودي وهو الأولي بهذه الأموال المهدرة من ثروته في باطن الأرض في صراعات خارجية.
5- وضع «ساند» 11 شرطا للحصول علي المعاش، تجعل بعض من سيتم خصم الاشتراكات الباهظة منهم شهريا من الممكن أن يتم حرمانهم ببساطة من هذا المعاش، ما يثير السؤال: وأين تذهب المبالغ التي دفعوا لسنوات حتي بلوغهم سن 59 عاما؟
6- يبدو الهدف واضحا جليا من “جباية” هذه الأموال من الموظفين الفقراء كوسائل لتوفير دخل جديدة للمؤسسات الحكومية التي تعني من إشكالية في إدارة أموالها وإيجاد الدخل الكافي الذي يوفي بالتزاماتها القانونية للمتقاعدين على نظام التأمينات الاجتماعية أو المستفيدين منه.
7- «ساهر» الأخ غير الشقيق لـ«ساند»، يقتطع هو الأخر نسبة لا بأس بها من رواتب السعوديين، ما يثير التساؤل حول الازدواجية بين النظامين والهدف منهما.
8- لا توجد أي أدلة علي أن الأموال التي سوف تقتطع من الموظفين العاملين ستعود بالفائدة على هؤلاء العاطلين عن العمل في المملكة الذين يصل عددهم الي مليوني ونصف عاطل بحسب إحصاءات متواترة.
قرار تطبيق «ساند» هو صورة جديدة تحصِّل السلطات السعودية من خلالها المزيد من المال من المواطنين لا أكثر، ومواصلة الاقتطاع من جيوب فقراء المملكة، وخطورة عدم أخذ رأي المواطن فيه أننا بدأنا نري حالة رفض وتمرد متنامية داخل دواوين العمل السعودية وعلي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي قد ينقلب مستقبلا لاحتجاجات في الشارع، خاصة لو أخذنا دور “العالم الافتراضي” في انتفاضات الربيع العربي التي حدثت في دول أخري، وقادها الفقراء أصحاب الحاجات والغاضبين قبل المثقفين.
مع الأخذ في الاعتبار أن القرار سيطال نحو 3 ملايين مشترك، متوسط رواتبهم نحو 7000 ريال، وهو عدد ضخم لو خرج 10% فقط منهم للاحتجاج لتسببوا في جلبة كبيرة، كما أن خصم نسبة 2% من رواتب موظفي القطاع الخاص سيزيد نسبة الاستقطاعات الشهرية لتصل إلى 22%، وهو أعلى نسبة استقطاع على مستوى العالم.
وقد ظهر من حسابات مستخدمي موقع «تويتر» و«فيس بوك» السعوديين تعبيرهم عن آرائهم الغاضبة وتعليقاتهم غير المرحبة بالنظام الجديد، وظهر من غالبية المشاركين في النقاش انتقادهم ورفضهم لـ«ساند» باعتباره اقتطاعا من حقوقهم، المجتزأة وغير الكافية أصلا لتلبية مختلف المتطلبات الحياتية المُكلفة في المملكة، والتي باتت كفايتها كاملة تُعَد من علامات الترف رغم أن المملكة هي الدولة النفطية الأولى عالميا.
المصدر: محمد خالد، الخليج الجديد