تبدو الحرب التي يشنها بعضنا ضد تنظيم داعش، ظالمة الى أبعد الحدود.
إنها حربٌ لا تخلط الحابل بالنابل فحسب، ولكنها تشوّه صورة الواقع أيضا.
وحيث أنها تمثل قراءةً منافقة للواقع، فانها لن تؤدي إلا الى المزيد من المهالك. حتى ليمكن القول إنها قد تذهب بداعش، ولكنها ستأتي بما هو أدعش من داعش.
داعش، جزءٌ مكينٌ من الواقع. وبما أن الواقع واقع، فانه سوف يجد طريقا لكي يفرض داعشيته باستمرار.
في محيط الزيف الراهن، هناك من يبلغ به تجاهل الواقع حدّا يجعله مقتنعا بان تنظيم داعش غريب عن المنطقة، وغريب عن بيئتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. وبالنظر الى أن التنظيم يضم “مجاهدين” من أربع جهات الأرض، فمن السهل أن يُقال، إنه تنظيم إرهابي “خارجي”، وإن مجتمعاتنا بريئة منه.
بل أن هناك من يبدو مقتنعا أيضا أن داعش لا يمت الى الإسلام بصلة.
وهذا ليس هو الواقع.
فكل هذه الافتراضات، إنما تسعى الى تبرير الحرب ضد هذا الوجه، وحده، من وجوه داعش، بينما تصون كل وجه آخر من وجوه الداعشية الثقافية والسياسية التي نعيش في كنفها (أو: كفنها) اليوم. وبينما يُراد إلحاق الأذى بمجاهدي داعش، فانهم أكثر صدقا وانسجاما وانتسابا مع كل ما عرفوه من ثقافة المنطقة وسياستها واجتماعها، ليس بين الأفغاني والشيشاني والألباني، بل بين العراقي والسوري والفلسطيني والأردني، وغيرهم ممن يمثلون “هويتنا” الأصيلة و”إسلامنا” كما نعيشه.
نعم، ترتكب داعش، مجازر وانتهاكات وأعمال سبي وجرائم وحشية ضد الأقليات. ولكن هذا لا يمثل إلا جزءا بسيطا من الواقع. إنه فقط الجزء الظاهر من جبل داعشي عميق الغور في مستنقعاتنا (أو “مجتمعاتنا”) “الإسلامية” الآسنة.
يُتهم الداعشيون، بأنهم يقتلون الأبرياء.. وأريد أن أستعمل كلمة لا أجد لها نظيرا في العربية الفصحى، فأقول: “إحّه”! ومن منكم الذي لم يقتل أبرياء!
ويُتهم الداعشيون بأنهم يسبون النساء ويعرضوهن في سوق النخاسة.
وأقول: إحّه. ومن منكم الذي لم يسب إمرأة فيجردها من أدنى الحقوق؟
ويُتهم الداعشيون، بارتكاب انتهاكات ضد الأقليات، حتى استصرخت تلك الانتهاكات ضمائر العالم ودعته الى الاسراع في تقديم النجدة اليهم.
وأقول، هنا أيضا: إحّه. ومن منكم الذي لم يسبق داعش في هذا المضمار القذر. ومن منكم الذي، ساعة اكتشف طائفيته، لم يستصغر “الآخر” أو يهمشه أو يستثنيه؟
إذا شئت أن تنظر في عين الواقع، فداعش ليست جسما غريبا. الغريب هو من لا يرى أن داعش تمثل تجسيدا حقيقيا وأصيلا لثقافتنا وسياستنا ومجتمعنا، بل وإسلامنا نفسه، كما انتهى الينا، كإسلام تكفيري وكافر.
فهناك داعش قبل داعش، كما أن هناك داعش على يمينها وأخرى على شمالها.
داعش مرآةٌ حقيقيةٌ لما نحن فيه. إنها وجهنا الذي نحكم ونمارس كل شؤون حياتنا فيه. وهي موجودة تحت كل عمامة تحوّل الإسلام الى دين كفر وجريمة.
فلماذا الزعل على داعش؟ وهل الوحشية، عندما تكون مكشوفة، أفظع مما لو كانت مستورة؟
الذين يمارسون أعمال التعذيب والقهر والتنكيل، في ظل سلطة الطغيان، أليسوا داعش؟
والذين يستبيحون الأعراض، في السجون وخارجها، أليسوا داعش؟
والذين يمارسون سلطاتهم بالعنف باسم “الصمود والممانعة”، أليسوا داعش؟
والذين يضعون أنفسهم فوق القانون، ولا يحترمون سلطة لقانون، أليسوا داعش؟
والذين يقتلون نساءهم على الشبهات، في ما يسمى “جرائم الشرف”، أليسوا داعش؟
والذين يغتالون خصومهم، على الرأي أو الهوية، أليسوا داعش؟
والذين يستولون على السلطة بالسيف، ويرفضون تداولها إلا بالسيف، أليسوا داعش؟
والذين ينهبون المال العام، ويجعلوه خادما لأغراضهم الخاصة، أليسوا داعش؟
والذين يعتلون المنابر، ليُكفّروا الناس، وينزعوا رداء الإسلام عمن يشاؤون، أليسوا داعش؟
والذين يمارسون القتل والترويع باسم الله، أليسوا داعش؟
والذين يحلون لأنفسهم، ويحرمون على غيرهم، أليسوا داعش؟
والذين ينظرون الى أنفسهم، من ثقب طوائفهم، أليسوا داعش؟
والذين يسومون الأقليات الحرمان والتمييز والتهميش، أليسوا داعش؟
كل هؤلاء موجودون، قبل داعش! وما داعش إلا صورة واحدة من صورهم! بل أن داعش ليست إلا نتاجا طبيعيا وتلقائيا من نتاجاتهم.
حتى ليحق القول لهم: إنكم إن لم تجدوا على الأرض داعش، لاخترعتم مليون داعش!
الفرق الوحيد، هو أن داعش (الحالية) تمارس جرائمها “على الهواء مباشرة”، ولا تخشى في ارتكابها “لومة لائم”. بينما يفضل الداعشيون الآخرون ممارسة الجرم نفسه في الخفاء، أو تحت مسميات أخرى.
داعش هي الحقيقة الوحيد التي كان يجب أن نراها منذ أن نشأت أولى سلطات الوحشية والاستبداد في أوطاننا، بل ومنذ أن تحولت مجتمعاتنا الى مستنقعات تسترخص الذل وتستمرئ العنف والقسوة ضد نفسها، بالخوف والجبن تارة، وبالنفاق والدجل تارة أخرى.
إذا كان من الأولى بالحقيقة أن ترى نفسها، فكلكم داعش، وكلكم مسؤول عن داعشيته.
أولى بكم، داعشيو القهر والطغيان في كل مكان، أن ترفعوا علم داعش فوق منازلكم، وأن تعلنوا البيعة للدولة الإسلامية، بقيادة الخليفة المؤمن بالله (وبانحطاطكم الشامل) أبو بكر البغدادي، خليفة الله على رقاب أبريائكم ونسائكم وأقلياتكم.
تلك الرقاب التي لم تحفظوها قبل داعش،.. ولا أعرف من أين جاءتكم الحمية لتحفظوها، بعد داعش!
لكي تحارب داعش، ولا تهرب أمامها كالجرذ، يجب أن تكون طاهر اليد من المال العام، نبيلا حيال حقوق المرأة والأقليات، ولم تعتد على القانون، ولم تمارس التعذيب أو تبرره، ولم تساند طغيانا ولا ظلما من قبل، ولم تُكفّر أحدا.
عدا ذلك، فخير لك أن تعلن البيعة!
لأنك داعشي بطبعك! ولأنك واحدٌ ممن ساهموا في تخصيب التربة لزراعة داعش.
فعندما تذبح أختك في الشارع، في تهمة شرف، فكيف لا تذبح غيرها؟
وعندما تمارس التعذيب ضد مواطن من مواطنيك، بسبب رأي أو عقيدة، فلماذا لا تجز عنقه كالخروف؟
وعندما تمارس سلطتك من فوق القانون، ومن دون قانون، فكيف لا تجعل الاجرام فيه هو السائد؟
تلك هي داعش.
إنها وجهكم الأنصع والأكثر انسجاما مع ثقافة القتل والتكفير والاستبداد التي بقيتم تمارسونها لقرون. ومثلما تعايشتم معها وأصبحت “هويتكم”، فخير لكم أن ترفعوا أعلام داعش وأن تتعايشوا معها.
إسأل نفسك: بالله ما الفرق، ونحن كلنا داعش؟
يقال: إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترمي الناس بحجر.
ومن كانت ثقافته، وسلوكه، ووحشيته، هي ذاتها ثقافة وسلوك ووحشية داعش، فمن شديد النفاق أن يرميها بحجر.
ـــــــــــــــــــــــــــ
علي الصراف، كاتب وصحافي، ومؤلف كتاب: “خيول الظلام: قطر والإخوان والشرق الأوسط الجديد” الذي صدر حديثا، وتجد نسخة منه على Google Play (و) Google Books ودار e-kutub