كتب معتقل مصري سابق في الإمارات المتحدة مقالا عن أصعب الساعات التي مرت عليهم في سجن الصدر، أثناء احتجازهم تمهيداً للمحاكمة السياسية.
وقال الدكتور أحمد جعفر في مقاله أن الذكرى الأولى ارتقاء نجل المعتقل المصري في الإمارات علي سنبل –محكوم بالسجن 5 سنوات- مؤلماً وليس سهلاً أن تمر الذكرى.
وجعفر حكم عليه بالبراءة من بين 30 مصري وإماراتي قضي عليه بالحبس لمدة تتراوح بين ٤ و٥ سنوات والإبعاد ومصادرة ممتلكاتهم، وحكم على الشيخ صالح الظفيري بالحبس لأربع سنوات وثلاث شهور وبقية الأحرار الإماراتيين سنة و٣ شهور!!. بتهمة إنشاء حزب سياسي في دولة الإمارات دون الحصول على موافقة من قبل الجهات المختصة في الدولة، وكذلك تحويل أموال إلى جماعة الإخوان المسلمين بمصر.
*الصورة(أم الشهيد احمد سنبل تلقي نظرة الوداع على وجه ابنها)
ننشر نص المقال:
لم يكن سهلا على من عايش جانبا من هذه القصة أن تمر الذكرى الاولى لارتقاء ابننا أحمد علي سنبل عند ربه شهيدا في أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة، إلا أن يسجل للتاريخ سطورا لعلها تنير درب السالكين إلى فهم ماجرى ويجري ويزيل الغمامة عن عيون غشيتها الأحقاد والكراهية وآذان أصمتها أصوات نشاز معجونة بالكذب والتضليل لتوفير الغطاء السياسي والاجتماعي لأكبر مجزرة في تاريخ العصر الحديث لأناس سلميين قرروا أن يعتصموا تعبيرا عن موقفهم الرافض للانقلاب العسكري على كل ما يعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية .
الشهيد أحمد سنبل كان بمثابة إبنا لي وبقدر ما أحزنني فراقه شهيدا في ميدان الحرية بقدر ما أثلج صدري أن يكون قاطرة خير ورحمة على سبعين من أسرته وفي مقدمتهم والده المحتسب والصابر الدكتور الطبيب على سنبل ثاني أكبر المصريين أعمارا في القضية التي تعرف بالمصريين الأربعة عشر الذين طالتهم يد الغدر والظلم والنكران وأودعتهم سجون الإمارات لتكون الحلقة الاولى والقادرة المحركة والداعمة للانقلاب على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي ، ولا يمكن لي كذلك أن تمر هذه المناسبة دون أن أسجل كل احترام وتقدير لوالدة الشهيد الصابرة والمحتسبة واخواته والمحترمين من عائلة الدكتور سنبل العريقة في دلتا مصر وحضرها.
الشهيد أحمد سنبل رأيته بميدان التحرير عندما نزلنا معترضين على إصدار ” السلطة الشامخة ” أحكامها الهزلية على الرئيس المخلوع مبارك وأعوانه، وكانت هذه اول مرة أراه منذ حصوله على شهادة الثانوية العامة ونزوله من دبي متوجها لكلية الصيدلة بجامعة المنيا .. وفي ظل الازدحام الشديد فوجئت بشاب يافع يرتدي تيشرت متواضع وشورت …. وحذاء جلد بدون جورب ويحمل هاتفاً من أرخص أنواع الهاتف المحمول ينادي ويقول : عمو جعفر عمو جعفر فالتفت إليه فلم أكن مصدقا أنه أحمد سنبل .. فبادرني بذكائه الاجتماعي قائلا : أنا ابنك احمد علي سنبل .. فتعانقنا وجلسنا بضع دقائق ولكن لأنه كان نجما في الميدان بدون علمي لما بلغه من منزله جعلته أيقونة توقظ أبناء جيله كلما حاول الظالمون طمس ثورتهم وجدت أصحابه واحبائه ينازعوني دقائق أراد ان يخصني بها .. فسمحت له بالذهاب لاستشعاري بدوره في حراك ثوري غاضب لا يهدأ ولا ينام وتواعدنا في لقاء لم يتحقق لحكمة يعلمها الله أو يدخرها لنا في لقاء معه في الفردوس الأعلى .
بعدما قضى المصريون مدة تتجاوز الشهور السبعة في السجون الفردية بالإمارات – وما أدراكم ما السجون الفردية – وأودعونا سجن الصدر بأبوظبي بتاريخ 12/ 6 / 2013 قاموا بتوزيعنا ثنائيات بين المساجين من مختلف الجنسيات الآسيوية فوجئنا بحرماننا من حق الاتصال الهاتفي بأهالينا وظل هذا الوضع اكثر من شهرين تقريبا سمحوا فقط بكالمة واحدة صباح يوم عيد الفطر لم تتجاوز الدقائق الخمس .. أيام العيد انتهت وفي صباح يوم 14 / 8 / 2013 نجحنا في الحصول على راديو صغير من أحد المساجين الباكستانيين وبدأنا في متابعة ما يجري في مصر ورابعة والنهضة عبر بث قناة الجزيرة على التردد AM954 بصعوبة بالغة ..
في يوم الفض دار حديث بيني وبين الدكتور على رفيقي في زنازنتي التي تضم اثنى عشر سجينا لمعرفة رأيي في رغبته بأن يذهب ابنه أحمد لتحضير الماجستير والدكتوراة في العلوم البحرية والشعاب المرجانية بتركيا، لأن احدى الجامعات كانت قدمت له منحة بهذا الشأن وأنه متردد لأنه وحيد أبنائه على بناته الخمسة – ربنا يحفظهن – فقلت له دعه يسافر ليشق طريق الدراسة في هذا المجال النادر لأبنائنا ثم تبعه سؤال اخر عن رغبته بعد زوال محنة السجن أن يذهب ويقيم معه في تركيا، ودار حديث يومها عن مدى إمكانية عمله هناك ، فقلت له أنت طبيب ماهر يا دكتور وأي مكان في العالم يتشرف ثراه بأن تطأ قدماك له ..
وبعد أن انتهينا من صلاة الظهر قال انا قلق على أحمد ، فقلت له لا تقلق ربنا يتولاه ويتولى جميع إخوانه ومحبيه .. بعد قليل جاء الفورمان لينادي عن بعض المساجين الآسيويين لينال حظه في الاتصال الهاتفي بحسب الجدول الذي أعده الفورمان بالتنسيق مع إدارة سجن الصدر ، إذ النظام يقضي بأن يخرج كل يوم اثنين من مساجين كل زنزانة في طابور ليتوجهوا الى حجرة كابينة الهاتف العمومي الذي يتبع ” مؤسسة الاتصالات ” بنظام البطاقة الالكترونية المدفوعة مقدما ..
حينها وجدنا أحد المساجين المتعلمين والمثقفين ويدعى ” عابد ” من الجنسية الباكستانية فأشرت على الدكتور علي أن نعطي رقم هاتف أحمد او اسرة الدكتور على ليقوم بالاتصال بهم دون ان يخبر ” عابد ” احدا بذلك الامر وبالفعل تحدثنا معه فوافق على الفور بشرط عدم إفشاء هذا الأمر لخطورته عليه، لأننا كمصريين محرومون من الاتصال بذوينا ..
من بعيد حاولت ارقب سلوكيات الدكتور علي فكان مرتبكا قلقا سارحا شاردا فأقوم بممازحته حتى لا يغرق في التوتر وحاولنا نستمع لقناة الجزيرة فكان التشويش عليها سيد الموقف فبدأنا نستمع لما يتيسر من متابعات عرفنا بأن الدماء في رابعة كانت للركب وهناك مجزرة ترتكبها سلطات الانقلاب ، وحتى لا أزيد من قلقه كنت استمع للراديو بعيدا عنه ولا أخبره عما أسمعه .
وجاءت اللحظة التي كنا نتوقعها ويشعر بها قلب الأب .. جاء عابد ووجه مصفرا ويداه ترتعش يبلع ريقه بالعافية ولا يعرف أن يتكلم جملة واحدة ودائم النظر لي ويبعد نظره عن الدكتور علي .. فعرف قلب الأب ان ابنه أصابه ما أصاب خيرة شباب مصر فجلس على سريره باكيا رغم أن ” عابد ” لم يتفوه الا بكلمة قال فيها : صاحبه رد علي وقال انه مصاب ..
فأسرعت وأخذت عابد على خارج الزنزانة لأعرف منه تفاصيل المكالمة فإذا به يخبرني بأن أحمد ارتقى الى الله شهيدا وصاحبه اخبره بذلك، وأنه وحتى يتأكد اتصل أيضاً بأسرته وأفادت احدى شقيقاته – لا اذكرها – بأن احمد ارتقى عند ربه شهيدا في الساعات الاولى من فض رابعة .. اتفقت بسرعة مع عابد وقلت له تماسك وقل للدكتور علي أن ابنه مصاب ويجري إسعافه حتى يتلقى الخبر اليقيني بالتدرج لأن سنه كبير وربما يأتي الخبر صادما مصحوبا بنتائج سلبية ..
على الفور تحلى عابد بالشجاعة وقال ما اتفقنا عليه وذهبت به الى بقية إخواني المصريين في العنبر وأخبرتهم بالأمر وطلبت منهم الثبات على روايتي وتهدئة روع الدكتور علي وبالفعل كان لوجودنا معه وتماسكنا مصدر ثبات وطمأنينة له ..
سعيت وعبر الأسلاك الشائكة وبالترتيب مع الفورمان إبلاغ النصف الاخر من مجموعتنا القابعة في العنبر الآخر بالأمر وما اتفقنا عليه من سيناريو .. واتفقنا أن نطلب من إدارة السجن السماح للدكتور علي بمكالمة هاتفية استثنائية للاطمئنان على صحة ابنه ، وكتبوا طلب بذلك ورفعناه لإدارة السجن عصر يوم الأربعاء 14 اغسطس وفوجئنا بالضابط المناوب يأتي لنا وظننا حسنا بهم – كعاتنا – بأنه حضر ليسمح له بالمكالمة ، فإذا به يسأل كيف عرفتم ومن اي وسيلة ومن اين أتيتم بمذياع تسمعون به هذه الأخبار فازداد غيظي وقلت له : عن توقعي لأسباب مجيئه هل لهذه الدرجة انتفت الانسانية عندكم ، لماذا تتعاملون معنا بهذه الطريقة نحن لسنا مجرمين حتى تعاملوننا بهذه الطريقة ، كبار المجرمين مع الجنسيات الاخرى تسمحون لهم بالاتصال الهاتفي وتحرموننا هذا الحق .. ؟! حسبي الله ونعم الوكيل فيكم .. وطلبت منه حينها أن يبلغ السلطات العليا بتحذرينا لهم من الاستمرار في هذه الانتهاكات الحقوقية ، فتدخل الفورمان وهدأ من أعصابي وقال انتظر سيأتيك الرد مساء ..
انتظرنا مساء ولم يأتينا ما يفيد وظللت هذه الليلة بمتابعة ما جرى في رابعة والنهضة والدموع تسيل من هول ما نسمع .. وكلما حاول الدكتور علي الاقتراب من المذياع ليسمع أقول له الصوت سيئ ولا اريد له ان يشاركني خشية أن يستمع لما سمعته .. اذكر حينها سمعت نبأ استشهاد ابنتنا الصحفية ايضا حبيبة أحمد عبد العزيز وسمعت أيضاً صوت احدى شقيقات احمد وهي تنقل ما حدث لأحمد ..
كانت لحظات عصيبة جداً .. كنا على موعد مع صيام يوم الخميس وكعادتنا لا نجد الا البسكويت والخبز والموز غذاء ندخره من وجباتنا للسحور .. تناولنا سحور يوم الخميس والدكتور علي بدأت نفسه تهدأ واقتنع بأن ابنه فعلا مصاب .. وانتظرنا يوم الخميس فلم يأتنا أي مسؤول يلبي حاجتنا للمكالمة الهاتفية .. حينها قررنا أن نضرب عن طعام العشاء الذي كنا نعتبره بالنسبة لنا وجبة الإفطار .. وخرجنا مع بقية المساجين لتناول وجبة العشاء وامتنعنا عن تناولها معلنين إضرابا مفتوحا لينال الدكتور علي حقه في الاتصال الهاتفي ..
وجلسنا نحن المصريون الأربعة عشر في الممر بين العنبرين اللذين نقبع فيهما حتى تتدخل الادارة .. وبعد نحو ساعتين جاء اثنان من الضباط وجلسا معنا لمعرفة طلباتنا، وأخبرونا بموافقة السلطات لطلبنا ولكن بعد أن ننال وجبة العشاء، وأن ضابطا من أمن الدولة يأتي على الطريق ليقوم بهذه المهمة .. وبعد محايلة ورغبة شديدة منهما وافقنا بشروط ان نجلس معا حتى يصل الضابط ويسمح لنا بال مكالمة .. فوافقوا على قضاء المصريون بعض الوقت مع الدكتور علي لمؤانسته بأحاديث اخرى ..
في هذه الفترة كنت مسؤولا عن إلقاء خطبة الجمعة بسجن الصدر ونزلاء عنبر 6 فأدخلت عدد من القصص لما قدمه الصحابة من تضحيات وما يدخره الله من أجر للشهداء والأباء والأمهات وجمعت نماذج من الذاكرة وبعض ما تيسر من أمثلة في الصبر والاحتساب كالخنساء وغيرها .. ومضىت ليلة الخميس ولم يأتِ أيضاً احد من الضباط للسماح للدكتور علي بإجراء مكالمة ..
وفي صباح يوم الجمعة جاء النقيب علي الحمادي رئيس قسم الحراسات والأمن ليتعرف عن كثب ما أسباب طلبنا بهذه المكالمة فأجابه الدكتور علي وقال له : اسمحوا لي بمكالمة واحدة ودقائق معدودة واسمعوها معي انا عاوز اطمئن على ابني وبدأت الدموع تنهمر وتتحرك من مقلتيه، ولكن للأسف لم تحرك قلوب هؤلاء الظلمة .. فطلبت من النقيب أن أتحدث معه على انفراد خارج الزنزانة بعدما رأيت الدكتور علي بهذه الطريقة فأمر النقيب بفتح الزنزانة وأخبرته على انفراد بأن احمد قتل في رابعة وارتقى شهيدا وأبوه لم يعرف لكنه اكثر قلقا .. فما كان من النقيب إلا أن يكرر على مسامعي نفس التساؤلات الأمنية كيف عرفت وكيف سمح لكم الاستماع للراديو ؟ !!! وغادر دون أن يعطني وعدا بالمكالمة ،،
وعند عودتي للزنزانة سألني الدكتور علي : ماذا كنت تقول له ؟ فقلت له ارحموا شيبة هذا الرجل الذي تجاوز الخامسة والستين من العمر .. كل ما هو مطلوب دقيقتين … وهكذا حاولت أن لا اكشف له ما دار من حديث .. فإذا بي يقول بقلب الاب : أنت يا أحمد تخفي علي الأمر .. هل أحمد مات ؟ فأجبته بالنفي ومازحته وقلبي يعتصر ألما وكمدا وقلت له .. يا دكتور علي ابنك احمد ليس ابنك وحدك ولو ارتقى شهيدا لتقدمنا لك تهنئتنا بذلك .. ادعي له ونحن في يوم الجمعة ان يقدر له الخير حيث كان ثم يرضنا به ..
ودخلت لأنام قليلا فإذا بالدكتور علي وبقلب الأب كذلك لا يعرف النوم فوجدته يتحدث مع “عابد” ويرجوه الصدق في الحديث ويطمئنه أنه لن يحزن وطلب منه تكرار نفس الإجابة ليقارنها بما سمعها منه اول مرة ، وعملت نفسي نائما وايقنت أن عابد كرر نفس الإجابة التي اتفقنا عليها ..
جاءت لحظة خطبة الجمعة وبدأت أخطب واسرد ما جمعته من قصص حتى تدفقت الدموع من عيني وعيون من يعرفون الخبر في محاولة قبل الاخيرة للإعلان عن الخبر .. وعند السجود استمع اخي الدكتور محمد عبد المنعم الملاصق حينها للدكتور علي في صلاة الجمعة صوته وهو يدعو ربه ساجدا أن يشفي ابنه احمد ويعافيه من السقم وان يرزقه بالأطباء المتميزين وأن لا تكون إصابته بالغة .. بعد الصلاة هرع الدكتور محمد عبد المنعم متجها لزنزاته منهارا وباكيا ومتأثرا من هول ما سمعه من الدكتور علي وطلب مفاتحته ويكفي عليه هذه المدة من إخفاء الخبر .. فأخبرته بأن الدكتور صالح فرج هو من تحمل مسؤولية توصيل هذا الخبر عصر يوم الجمعة ونحن متجهين لتناول وجبة العشاء في السادسة مساء ..
جاءت اللحظة الفارقة والصعبة جداً علينا جميعا .. خرجنا لتناول وجبة العشاء في الساحة الخارجية والتي يفصلنا عن النصف الآخر من مجموعة المصريون الأربعة عشر ممرا بأسلاك شائكة، وبينما كنا نتحلق نحن السبعة نزلاء عنبر 6 وصل الدكتور صالح ومن معه من مجموعة نزلاء عنبر 7 ووقفوا جميعا على الأسلاك وبدا الدكتور صالح فرج حديثه الرائع للدكتور علي وعن مكانته ومقدار حبنا له وحب الله له وكرمه ومنحته الكبيرة والعميمة عليه وعلى اسرته واصطفائه من بيننا ليكون والد الشهيد احمد سنبل ..
حينها تحول الدكتور علي إلى انسان اخر لم نكن نتوقع اثر هذا الخبر عليه .. كان صابرا محتسبا وزاده طمأنينة ما قام به اخي مدحت عمار بصوته الجهور بالدعاء للشهيد أحمد في ساحة السجن فتجمع جميع المساجين وعددهم ما يقرب من أربعمائة ليقول آمين في لحظات مبكية لن تنسى أبدا ما حييت وبعدها أخذت اهتف بصوت عالي على الظالمين وادعوا على من حبسنا وظلمنا مما احدث حالة من التعاطف والاندماج بيننا وبين المساجين ليرددوا ورائي حسبنا الله ونعم الوكي والجميع يبكي في العنبرين حتى جاءت شرطة حماية وطلبت باخراجنا من الساحة واعادتنا للزنازين حيث تم فصلنا عن بقية المساجين الآخرين، حتى لا يتطور أمر التعاطف مع الدكتور علي المحبوب أيضاً وسط المساجين بلطفه ونصائحه الطبية للمدخنين الى عنف لفظي أو يدوي ..
ورغم أننا توقفنا عن الهاتف إلا أن المساجين حينها تجمهروا ولم يتوقفوا من ترديد قول ” حسبنا الله ونعم الوكيل” ، وسمحت الشرطة حينها بالتقائنا اول مرة كمصريين بمصافحة الدكتور علي والأخذ بيديه والدعاء له ، وفوجئت بالدكتور علي يوجه له عتابا بأنني كذبت عليه وأني لم أكن صادقا معه فدافع عني احبتي وقالوا له نحن اتفقنا مع احمد جعفر على هذا الدور ..
حينها تقرر أن نصلي الغائب عليه بعد صلاة المغرب ووافقت الشرطة على ذلك وأن يصلي كل عنبر بمفرده وبعدها بدأ الدكتور علي يتلقى تعازي المساجين في زنزانة الأخوين الدكتور عبدالله زعزع والدكتور محمد عبدالمنعم التي كانت تتوسط الممر بين الزنازين .. وقررنا أن نتلوا القران ونختمه في ليلة واحدة جماعية وعلى انفراد بيننا وبين من يريد من المساجين الآخرين .. فكانت المشاعر النبيلة واضحة جداً الهدوء يعم العنبر كاملا .. الزنازين مفتوحة على بعضها .. الجميع يقرا القرآن فتم في ليلة واحدة في عنبر 6 أكثر من ختمة وتم وهبها الى روح الشهيد احمد سنبل ..
جاء وقت النوم وإطفاء الأنوار بالعنبر ورجعت والدكتور على إلى زنازنتنا وكانت الليلة الاولى التي نام فيها الدكتور علي بعد أن نزلت عليه السكينة وغشيته الرحمة واصطفاء الله له من بيننا ..
عند صلاة الفجر همس في أذني وقال أوعى تكون زعلان مني فقلت له يا دكتور علي أنت جزمتك فوق راسي وأنا مقدر الحالة التي تمر بها وما قمت به كان لمصلحة التدرج في قبول خبر الاستشهاد .. ومر يوم السبت بدون اتصال كذلك ، وبعد الإفطار الصباحي ليوم الأحد جاءت الشرطة صباح لتسمح لنا جميعا باجراء اتصال مع اهالينا .. كانت لحظة صعبة وامتحان جديد وابتلاء اكثر صعوبة للدكتور علي حيث سيتحدث الى أهله فجميعنا اتفقنا أن يقف كل من الأخوين أحمد طه والدكتور محمد شهده بجواره عن يمينه وشماله للتدخل عند الضرورة .. ومرت المكالمة الصعبة والتي حملت من المبشرات والقصص الجميل الذي حملته اسرة احمد ليكون بمثابة عناصر التثبيت، فبدلا ما كان متوقعا ان يثبتهم هو فإذا بهم هم من يثبتوه ويعينون على تجاوز محنته ..
كانت لحظة متابعة الشرطة له وأخص بالذكر الملازم اول أحمد المنصوري والوكيل صالح البلوشي من اللحظات الانسانية أيضاً التي لا تنسى اذا قال احدهم له اصبر ولك الجنة .. أحدهم همس في أذني قائلا : ما حدث في رابعة والنهضة من مجزرة لا يمكن ان يتصورها عقل بشر إنها فاقت كل الاحتمالات وجريمة إنسانية مهما كانت المبررات ..
انتهت اصعب الساعات التي مرت بالمصريين الأربعة عشر ومحبيهم من نزلاء سجن الصدر بابوظبي .. ولكن لم تنته عند رب السموات والأرض .. فكل يوم تسقط ورقة من ورقات التوت التي كانت تتستر بها الأنظمة القمعية وتدارس بها سوأتها القبيحة .. تعرى كل من أيدها ودعمها بكل ما أوتوا من قوة لإخماد الحق ووأد الحرية ..
ورغم مرور عام على ذكرى فض رابعة لم يهنأ الانقلابيون ولن يهنأوا ما دامت الدماء الزكية نزفت وتنزف على ثرى مصر .. في ذكرى السنة الاولى لفض رابعة كان لابد ان نكشف بعدا إنسانيا آخر لهذه المجزرة ربما غفل او أريد أن يغفل عنها البعض من خفافيش الخوف من الحقيقة ونقل الصورة للهروب من حق القصاص .. ولكن هيهات هيهات لما توعدون ..
أعذروني أحبتي .. هذه القصة أخذت مني الكثير في تسطيرها نظرا لما ينتابني من مشاعر فياضة تجاه والده وأسرة كان بيتها مقصد كل مصري او عربي محترم في الامارات لما يتحلى به الدكتور على سنبل بعلاقات اجتماعية تتجاوز ثلاث عقود عمل بها كطبيب غير تقليدي أخلص لرسالته فأحبه الناس واتخذوه قدوة لهم في حياتهم يلجأون إليه اذا احتاجوا منه شيئ او مشورة أو افتقدوا لقرار عجزوا عن اتخاذه فذهبوا إليه ليرشدهم له .. الجنة للشهداء والصبر لذويهم والعوض للمصابين والحرية للأحرار والخذلان والذل للعبيد ..