في 26 تموز/يوليو، وقف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بجانب وزير الخارجية القطري خالد بن محمد العطية في باريس خلال الخطابات التي ألقاها الطرفان بشأن المساعي الدبلوماسية التي تُبذل من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و «حماس». جاء ذلك في أعقاب اجتماع عُقد في البنتاغون في 14 تموز/يوليو بين وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل ووزير الدولة القطري لشؤون الدفاع حمد بن علي العطية، وقّع خلاله الطرفان على صفقة أسلحة بقيمة 11 مليار دولار شملت صواريخ من طراز “باتريوت”، ومروحيات “أباتشي”، وصواريخ مضادة للدبابات.
وتأتي هذه المبادرات العالية المستوى، وطبيعة العلاقات الثنائية عموماً نتيجة الإيرادات الضخمة التي تجنيها الدوحة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن سخائها في منح سلاح الجو الأمريكي الإذن بتسيير قاعدة العُديد الجوية العملاقة، التي كانت جوهرية للعمليات في العراق وأفغانستان. لكن هناك بعض التكلفة لهذه الأواصر. فقطر تحكم سيطرتها على العُديد بشكل وثيق وتصر على طلب إذنها مسبقاً قبل دخول الأفراد والطائرات. كما أنها تدعم «حماس» وتأوي زعيمها خالد مشعل، وتتخذ العديد من الخطوات الدبلوماسية لمنح صفة الاحترام للحركة.
الحسابات القطرية
إنّ المفتاح لفهم هذه العلاقات من وجهة النظر القطرية هو أن قطر تعتبر الولايات المتحدة أهم حلفائها وتعمل جاهدةً على صون الروابط بينهما. وتنتج هذه الذهنية عن ارتياب قطر من مساحتها الصغيرة وعزلتها الجغرافية. فشبه الجزيرة الغنية بالهيدروكربون أصغر من ولاية كونيتيكت الأمريكية وتبرز من جزيرة العرب لتغوص في الخليج العربي على بُعد نحو 120 ميلاً من إيران. كما لا يتجاوز عدد سكانها الـ 250 ألف نسمة، أي ما يعادل نسبة سكان ضاحية أرلينغتون السكنية في العاصمة الأمريكية واشنطن (علماً بأن العمالة الوافدة المؤقتة تشكل ستة إلى ثمانية أضعاف إجمالي سكان قطر).
وعلاوة على ذلك، إن علاقات قطر مع جيرانها لطالما كانت متوترة. فلها في الجنوب حدود مشتركة مع المملكة العربية السعودية التي دعمت في السابق انقلاباً ضد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ولا تزال تعتبر قطر راعياً مقلقاً لشبكة “الجزيرة” والقنوات الإعلامية الأخرى التي تنتقد المملكة أحياناً. وفي الغرب تقع دولة البحرين الذي تتحدر عائلتها الحاكمة من شبه الجزيرة القطرية، علماً بأن هذه العائلة لم تتخلَّ عن مطالبها الإقليمية هناك إلا مقابل تسوية سخية لخلاف على بعض الشعاب البحرية والجزر الصغيرة. كما وتحدها الإمارات العربية المتحدة شرقاً، حيث يتهم المسؤولون الدوحة بدعم الناشطين السياسيين التابعين للمعارضة. أخيراً وليس آخراً، تقع إيران إلى شمالها وتقاسمها أضخم حقل غاز بحري في العالم، يُدعى “حقل جنوب فارس” في طهران وبـ “حقل الشمال” في الدوحة، ويسبب أحياناً توتر بين البلدين لأن قطر تستخرج الغاز أكثر من إيران.
وفي خضم هذه الاحتكاكات، سعت قطر إلى صنع مركزٍ لنفسها تكون فيه مستحدثة التوجهات في المنطقة. فبعد انقلاب الشيخ حمد على والده عام 1995 وتوليه الحكم، أخذ يتودد عمداً إلى واشنطن – في عملية ازدادت سهولةً بعد أن أقامت الدوحة علاقات ودية مع إسرائيل. كما رفع الرقابة الرسمية عن الإعلام فأتاح لقناة الجزيرة أن تباشر عملها في عام 1996. وفي عام 1999، شهدت البلاد انتخابات بلدية كانت نقطة البداية في ما تعتبره العائلة الملكية مشروع “إرساء الديمقراطية” إنما دون أحزاب سياسية. ومنذ مدة غير بعيدة، تنازل الشيخ حمد عن العرش في عام 2013 تاركاً المنصب لابنه الشيخ تميم البالغ من العمر 33 عاماً. وفي حين ساد الاعتقاد بأن الشيخ حمد يعاني من مشاكل صحية، تم تصوير خطوته تلك على الصعيد الرسمي على أنها عملٌ تقدمي يتناقض بشكل واضح مع سائر الحكام العرب في الخليج الذين يبقون عادةً في مناصبهم حتى مماتهم.
كما كان لانتفاضات “الربيع العربي” التي انطلقت في أواخر عام 2010 تأثيرها على مكانة الدوحة، إذ اعتبرت الحكومة على ما يبدو أنه لا مفر من اندلاع المزيد من الثورات وأنّه عليها السعي للوقوف على الجهة الصحيحة من هذا المنحى التاريخي. وعلى الرغم من كونها دولة عربية محافظة وتقليدية لها عائلتها الحاكمة، تعتبر قطر نفسها نوعاً من القدوة الفائقة الحداثة. فمن وجهة نظرها، إن آل سعود في السعودية وآل خليفة في البحرين وآل نهيان في الإمارات وحتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس جميعهم “أنظمة قديمة”. هذا مع العلم أن معظم القطريين ينتمون إلى الحركة الوهابية – وهي فرع محافظ متشدد من الإسلام يمارَس في المملكة العربية السعودية أيضاً مع بعض الاختلافات الواضحة (إذ يُسمح مثلاً للنساء القطريات بقيادة السيارات). ولكن فيما يبدو أن العاهل السعودي الملك عبدالله قرر أن الإسلام السياسي يشكل خطراً كبيراً يوازي الإسلام الشيعي خطورةً، تبنت عائلة آل ثاني وجهة النظر المعاكسة حيث ترى في سنّة «حماس» المتشددين وحتى في حركة “طالبان” الأفغانية بأنهما الطريق نحو المستقبل.
وكان من شأن الاضطرابات التي حدثت خلال السنوات الثلاث الماضية أو أكثر أن وضعت هذه الفلسفة قيد الاختبار، لكن الدوحة لا تزال تعتبر وجهة نظرها سليمة. فقد غمرت الفرحة آل ثاني عند الإطاحة بحسني مبارك في مصر واستبداله بحكومة «الإخوان المسلمين» التي استمدت شرعيتها من الانتخابات الحرة الأولى في البلاد (علماً بأن شعورهم هذا نتج أيضاً عن عداوتهم الشخصية مع الرئيس مبارك، وهي نقطة هامة إنما مغفلة غالباً في العلاقات بين الدول العربية). إلا أن انعدام الأهلية الإدارية الفادح لدى «الإخوان» خيّب آمال الدوحة، وقد يعتبر البعض أنّ الإطاحة بـ «الجماعة» أظهر أن التاريخ لا يمر بالضرورة بالسلاسة التي تراها العائلة الملكية القطرية. واليوم قبلت الدوحة على مضض وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، مع أن القاهرة لا تزال مصرة على معاقبة قطر على موقفها السابق كما يتبين من محاكمة مصر لثلاثة صحفيين من قناة “الجزيرة” في الآونة الأخيرة.
هذا ولعبت قطر دوراً رائداً أيضاً خلال الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي، على الأقل من خلال منظار آل ثاني. ففوجها الجوي كان أول من وصل إلى قاعدة “سودا” الجوية في [جزيرة كريت في] اليونان التي كانت توجَّه منها العمليات، فيما كانت قواتها الخاصة ناشطة على الأرض. وقد نُفّذت هذه الأعمال بأمر من الشيخ تميم بن حمد الذي كان ولي العهد آنذاك واعتُبر أنه أحسن صنعاً – وكان ذلك أحد العوامل في ثقة والده بتسليمه دفة القيادة في العام الماضي. ومع أن مرحلة ما بعد القذافي في ليبيا لم تسر على ما يرام، لا يبدو أن هذا الأمر زعزع ثقة الدوحة في نهجها.
وفي المقابل، شكلت سوريا تحدياً أكبر لقطر. فبعد انخراطها في المعارضة ضد الرئيس الأسد عبر تركيا، انتهى بها المطاف بدعم بعضٍ من أسوأ الجهاديين لأنهم كانوا المقاتلين الأكثر فعالية. مع ذلك وبعد مرور ثلاث سنوات [على الأحداث في سوريا] لا يزال نظام الأسد يحكم في دمشق.
رهان غزة
تشكل الأزمة الأخيرة في غزة أول اختبار حقيقي للسياسة الخارجية للشيخ تميم كأمير دولة قطر. إذ كان والده قد التقى مع مسؤولي «حماس» في غزة في عام 2012، متفادياً بوضوح القيام بزيارة موازية لقيادات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. لكن الشيخ حمد يترك اليوم المجال أمام ابنه ليدير الدفة. وحيث يتحلى وزير الخارجية الحالي بالذكاء والكفاءة ويتمتع بعلاقة مقربة من وزير الخارجية الأمريكي كيري، إلا أنه يفتقر إلى بصيرة سلفه الوزير الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني الذي ذهب ضحية العملية الانتقالية عام 2013.
وفي 22 تموز/يوليو، انخرط الشيخ تميم علناً في الأزمة حين زار الملك عبد الله في جدة في إطار المحادثات حول غزة – وهي المرة الأولى التي يلتقيان فيها منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2013 حين طلب العاهل السعودي من الشيخ تميم أن يتوقف عن التدخل في الشؤون المحلية لدول الخليج الأخرى. وعندما فشلت الدوحة في الالتزام بذلك الاتفاق الظاهري جلبت قطر على نفسها مقاطعة دبلوماسية من قبل السعودية والبحرين ودولة الإمارات. ولا يبدو أن اجتماع الأسبوع الماضي أحدث أي تقارب ملحوظ – إذ يظهر أن الملك عبد الله استضاف الشيخ تميم من باب اللياقة لا أكثر، ولم يحضر الاجتماع أي شخص آخر من المسؤولين السعوديين الرفيعي الشأن سوى وزير الداخلية. فضلاً عن ذلك، حين زار ولي العهد السعودي الأمير مقرن بن عبد العزيز كلاًّ من الكويت والبحرين والإمارات وعُمان بعد أيام قليلة، أغفل قطر عمداً من جولته، وهي العضو الآخر في “مجلس التعاون الخليجي”.
التحديات أمام واشنطن
سعت إدارة أوباما إلى الاستفادة من دبلوماسية الدوحة في مسألة غزة، إلا أن هناك عدة تكاليف ترتّبت عن هذا الموقف. فتواصُل الوزير كيري مع قطر أثار استياء عدد كبير من حلفاء الولايات المتحدة، من بينهم مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والمملكة العربية السعودية وربما دول الخليج الأخرى. كما أن جهود واشنطن تشير إلى تساهل بدلاً من امتعاض من القيود التي تفرضها الدوحة على إمكانية النفاذ إلى قاعدة العُديد. ومن الممكن أن تكون قطر قد أدخلت نفسها في المعادلة الدبلوماسية عبر تقديم المعونة طوال عدة أشهر مثل توفير الوقود لمعمل توليد الطاقة في غزة عبر مرفأ عسقلان الإسرائيلي. لكن هذه المعونة تضمنت أيضاً مواد بناء ربما تكون قد استُخدمت لبناء الأنفاق التي تسلل عبرها الإرهابيون إلى إسرائيل.
إنّ الانتقال إلى وقف إطلاق النار ثم إعادة إعمار غزة سيكون صعباً بما فيه الكفاية، بدون اتخاذ خطواتٍ لإقرار شرعية «حماس»، تلك الحركة الإرهابية التي ترفض منذ عقود الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط. وتختلف نظرة قطر إلى دور «حماس» المستقبلي عن النظرة الأمريكية التقليدية إلى حد كبير، ويجب بالتالي وضعها أمام التحدي. فلا شك في أن واشنطن ستلفت انتباه الدوحة إذا ما حصلت من دول “مجلس التعاون الخليجي” الأخرى على ضمانات بأن تكون قواعدها متاحة أمام الأصول الجوية الأمريكية بعد إعادة نشرها، ليتّضح بذلك أن قاعدة العُديد ليست ضرورية للاستعداد أمام إيران.
سايمون هندرسون هو زميل بيكر ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن.