منذ السنوات التي تلت الحرب المصرية الإسرائيلية في 1973، وحسابات القوى في الشرق الأوسط في تغير مستمر، ففي اللحظة التي أعقبت اتفاقيات كامب ديفيد، والاعتراف المصري بدولة الاحتلال الإسرائيلي، رفضت الدول العربية في مجملها التوجه المصري الجديد، واعتبروا القاهرة خائنة للقضية الفلسطينية وللأمة العربية بأكملها، لكن في السنوات التي تلت، تغير الأمر بشكل جذري، انضمت كل الدول العربية – تقريبًا – لمصر في وجود علاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتغيرت السياسات إلى أن قدمت السعودية مبادرة للسلام تضمن حق إسرائيل في الوجود على أرض فلسطين، وتشكلت تحالفات جديدة ضمنت لمصر جيشًا قويًا يحكم بما لا يتجاوز صلاحياته التي حددتها له إسرائيل والولايات المتحدة في كامب ديفيد.
لكن حتى الانقلاب العسكري الذي نفذه قيادات بالجيش المصري ضد أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، محمد مرسي، كان التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي يمثل تهمة يسعى الجميع لنفيها، تساهل المجلس العسكري الحاكم في مصر – نسبيًا – مع اقتحام السفارة الإسرائيلية إبان فترة حكمه التي أعقبت سقوط الديكتاتور حسني مبارك، ونفى الإخوان المسلمون علمهم بالرسالة التي أُرسلت باسم الرئيس – حينها – محمد مرسي للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، وحتى حسني مبارك ونظامه كان يردد دومًا إدانات لإسرائيل، حتى لو أن الطاولة كانت تخفي تحتها الكثير.
وبعد الانقلاب العسكري الذي دعمته أو حتى صممته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، اختلف الأمر كثيرًا، فأعلن المصريون (النخبة منهم) عداءهم الشديد للمقاومة الفلسطينية لاسيما الذراع الأقوى للمقاومة، كتائب الشهيد عز الدين القسام وحركة المقاومة الإسلامية )حماس(، ومنذ الأيام الأولى للانقلاب، طالب قيادات الاحتلال الإسرائيلي بدعم الانقلاب في مصر، وبدعم الجيش المصري.
ظهرت إذن تحيزات القيادة المصرية الجديدة منذ البداية، وظهرت للجميع خريطة تحالفاتها، ودخل الأمر موضع التنفيذ مع الحملة التي شنها الجيش المصري ضد الجهاديين في سيناء، والذين على الرغم من عدم صلتهم الفكرية أو الحركية بحركة حماس، إلا أن الإعلام المصري واصل ربط الجهاديين بحماس، وهو ما انعكس على اتساع عمليات الجيش لتشمل منطقة الأنفاق الحدودية، وهدم الجيش جميع الأنفاق الموصلة بين الأراضي المصرية وفلسطين المحتلة، وهو ما أدى إلى انقطاع شريان الحياة الواصل إلى قطاع غزة لاسيما مع الإغلاق الكامل لمعبر رفح، المنفذ الوحيد لأهالي القطاع على العالم.
ذلك الموقف، على الرغم من لا أخلاقيته وسوء مآلاته ومعانيه، يمكن أن يُفسر – من قبل مؤيدي الجيش – في أُطر تتعلق بالحفاظ على الدولة المصرية ورغبة الجيش في إبقاء البلاد بعيدة عن اضطرابات المنطقة، لكن الأحداث التي أعقبت ذلك بالتزامن مع الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، أثبتت أن مصطلحات مثل “الصمت العربي”، أو “التخاذل المصري”، لم تعد لائقة بمقدار التعاون المصري والعربي مع الاحتلال الإسرائيلي ضد حماس، وضد فلسطين.
فقد أعلنت مصر قبل يومين عن مبادرة لوقف إطلاق النار شاورت فيها “إسرائيل”، وتجاهلت فصائل المقاومة، الأمر الذي أدى إلى رفضها لـ “عدم تلبيتها للشروط الفلسطينية”، كما أن الإسرائيليين يقولون أن مصر سعيدة للغاية بالحملة على غزة، ولسان حال الحكومة المصرية “شكرا لكم أن كفوتمونا عناء مهمة القضاء على حماس” كما أوردت صحيفة جيروزالم بوست.
المبادرة المصرية كانت لصالح إسرائيل كلية، إلى الحد الذي جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يصرح بأن إسرائيل وافقت على المبادرة المصرية “في سبيل نزع سلاح قطاع غزة من الصواريخ والأنفاق عبر السبل الدبلوماسية”.
الخارجية المصرية في عدد من بياناتها حملت المقاومة المسئولية عن تدهور الأوضاع، وقال أحد ممثليها إن “حماس كانت لتحمي عشرات الأرواح لو وافقت على المبادرة”.
الإعلام المصري من جانبه كان داعمًا لإسرائيل بشكل مباشر، وبرر عدد من الإعلاميين الهجمات الإسرائيلية، أو تحويل المعركة إلى معركة سياسية مصرية مع قطر وتركيا.
فبلهجة قاسية ظهر على قناة “الفراعين” الإعلامي توفيق عكاشة وهو يصرخ غاضبًا بحق غزة وسكانها، وقال عكاشة بلغة فيها الكثير من الاحتقار لهؤلاء السكان إن “غزة لا يوجد فيها رجال .. ولو كان فيها رجال لقاموا بثورة على حماس”.
وذهبت الإعلامية حياة الدرديري إلى أبعد من ذلك، حيث طالبت على قناة “الفراعين” بضرب غزة وتدمير حماس، معتبرة أن الحركة انتهكت السيادة المصرية عند الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، وأشادت قناة إسرائيلية بتصريحات الإعلامية حياة الدرديري.
أما محمد زكي الشيمي، وهو مهندس مصري عضو التثقيف والتدريب في حزب المصريين الأحرار، كتب على صحيفة “دوت مصر” أن “عدونا الخارجي الآن ليس إسرائيل، بل الإخوان المسلمون وحماس وداعش وقطر وتركيا وكل من يدعم قيم التخلف والإرهاب بداخل مصر أو على حدودها أو يهدد استقرار الدول التي تملك فيها مصر مصالح كبيرة جدًا”.
الخطاب الذي تراوح بين التحريض المباشر ضد غزة إلى التعبير عن التضامن مع “الفلسطينيين إلا حماس” وجد من يعترض عليه بشدة من الفلسطينيين والمصريين.
صحيفة جيروسالم بوست نقلت عن مغردين قولهم إن “السيسي لا يريد أن يوقف الحرب ضد حماس، لكنه يريد أن يبدو كما لو كان يريد أن يوقف الحرب!”، كما أشارت إلى تصريحات مسئولين مصريين عن أن “غالبية المصريين يلقون باللائمة على حماس” خاصة بعد عدم قبولها بالمبادرة المصرية التي وافق عليها الإسرائيليون عدا وزيرين من اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو.
لكن مصر لم تكن الوحيدة، فقد نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مصادر أمنية وسياسية مطلعة في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، بعضًا من التفاصيل التي قالت إنها جديدة والتي تتعلق بآخر الاتصالات السرية بين أبو ظبي وتل أبيب، مشيرة إلى أن الإمارات على علم مسبق بالعدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أيام على قطاع غزة.
وبحسب ما ذكرته القناة الثانية على موقعها الإلكتروني في ساعات متأخرة من مساء أمس فإن اجتماعًا سريًا جرى الشهر الماضي في باريس جمع وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، ونظيره الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، لبحث خطط خاصة من أجل القضاء على حركة حماس في قطاع غزة، وذلك بتمويل من الدولة العربية.
وقالت القناة إن “عبد الله بن زايد الذي زار العاصمة الفرنسية في 26 الشهر الماضي والتقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يرافقه وزيرا الخارجية السعودي والأردني سعود الفصيل وناصر جودة، لبحث التطورات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، التقى وسط أجواء من التكتم الشديد وزير الخارجية الإسرائيلي على انفراد”.
وكانت تقارير حديثة أوردتها وسائل إعلام إسرائيلية قد ذكرت أن دولة الإمارات العربية كانت على علم مسبق بالعملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وأيدت حدوثها، أملاً في إسقاط حماس، وذلك لارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين.
وتحدثت القناة عن لقاء جرى مؤخرًا في أبو ظبي، جمع أحد الوزراء الإسرائيليين بمحمد بن زايد ومستشاره للشئون الأمنية محمد دحلان، القيادي السابق في حركة فتح، والمعروف بعلاقته الجيدة مع دول الخليج، والذي يقيم في الإمارات منذ طرده من غزة وفصله من الحركة الفلسطينية.
هذه المعلومات رغم أنها غير مؤكدة وتستند في معظمها إلى تحليلات لمتابعين للأوضاع، أو لمصادر إسرائيلية مجهولة، إلا أن “عبد الله بن زايد” وزير الخارجية الإماراتي أبدى دعم بلاده الكامل للمبادرة المصرية، وهي مبادرة تخدم مباشرة مصالح إسرائيل بحسب كل المعلومات والتحليلات، وبحسب رؤية المقاومة.
*المصدر: نون بوست