قدر ومكتوب، وكما قالت جدتي: “المكتوب على الجبين ستراه العين”. وقدر عبد الفتاح السيسي أنه كلما خطى خطوة يلتمس فيها مجداً، تعثر وتحول المشهد إلى فضيحة يتغني بها الركبان!.
الرجل وهو يحمل حقيبته، ويقدمها لأحد موظفي البنك الأهلي، ليفي بما وعد به من تبرع بنصف أملاكه لصالح الدولة المصرية، ذكرنا بالعمل الإذاعي القديم “شنطة حمزة”، الذي أصابته لوثة عقلية وهو يتساءل عن الشنطة؟ فيأتيه الرد بأنها شنطة حمزة، وعندما يسأل عن من يكون حمزة هذا؟ يكون الجواب: بأنه صاحب الشنطة!.
حمزة كان موظفاً بسيطاً، استغل اللصوص طيبته، ليخفوا ما سرقوه في شنطته، لأن البوليس كان يطاردهم، ثم انتقلوا لمطاردة حمزة، قبل أن يعلم البوليس بقصة الشنطة، ويحمي حمزة صاحب الشنطة!.
ليس في قصة حمزة، ما له علاقة بموضوع عبد الفتاح السيسي، إلا الشنطة، وإن كان حمزة في البداية لم يكن يعلم أن شنطته فيها أموال، فإن عبد الفتاح السيسي كان يعلم أن الشنطة التي سلمها لموظف البنك ليس فيها ما وعد به، وهو نصف أملاكه، بما في ذلك ما ورثه عن أبيه!.
المشهد كان بائساً والسيسي يدخل البنك في شبه زفة، ويقف أمام “شباك التعامل مع الجمهور”، الذين لا وجود لأحد منهم داخل البنك، وربما نسي أن يحصل على تذكرة برقمه، وينتظر إلى أن يحل عليه الدور، “لزوم إظهار التواضع”!.
لدى السيسي وجماعته فقر في الخيال، وهو ما يحول كل عمل يقومون به، إلى مسخرة من العيار الثقيل، يتلقفه شعب ساخر بطبعه، ليكون لسان حال السيسي في النهاية: “كأنك يا أبو زيد ما غزيت”.. من الغزوة!.
لأن السيناريو ليس محكماً، فقد هم موظف البنك بفتح الشنطة أمام الكاميرات، وهو الذي هرم في هذا اليوم في انتظار هذه اللحظة التاريخية، لحظة دخول السيسي عليه. لكن السيسي أزاح الشطنة في إشارة منه، بعدم فتحها أمام الجماهير، لسبب بسيط وهو ما سنعرفه بعد قليل!.
كان يمكن للسيسي أن يسلم الشنطة، وينهي إجراءات تسليمها، وينصرف بدون سؤال، لكن انتابه شعور المواطن البسيط، القلق على أمواله، والخائف عليها من الهواء العليل. إن شئت فقل إنه تصرف كضابط الأموال العامة، الذي حصل على أموال من أحد البنوك، على سبيل “العُهدة”، وبأرقام محددة، ليضبط بها مرتشيا. ومن الخوف من الاتهام بتبديد هذه “العُهدة”، تفسد كثير من قضايا الرشوة. وفي إحدى القضايا الشهيرة، جلس المرتشي في سيارته، ولأن “الوسيط” الذي اتفق معه البوليس كان مرتبكاً، فقد أراد أن يسلم الرشوة في يد المرتشي، ولو بطريق “الرمي”، لكن المرتشي الخبرة فتح له باب السيارة ليطلب منه الجلوس بجانبه، واستشعر الضابط خوفاً على “العهدة”، إذا ما اختفي المرتشي في الزحام، فألقى بنفسه على السيارة قبل أن تتحرك، وليحصل المتهم على البراءة لأن الشنطة لحظة القبض عليه لم تكن في حوزته، فقد انتفي شرط التلبس!
السيسي القلق على “العُهدة”، سأل الموظف عن المبلغ بعد عده، فقد نسي أنه صار رئيساً للجمهورية، ولن يجرؤ موظف البنك أن “يغالطه في الحساب”، لكن سلوك السيسي ينتمي لسلوك تاجر البقالة وليس صاحب السوبر ماركت، والقلق هنا مرده إلى أنه كل شئ جائز؟!.
دخول السيسي البنك، لم يكن على الهواء مباشرة، فقد كانت خطوة مسجلة، والمفترض أنها تعرضت للمونتاج، لكن لأن “المكتوب على الجبين حتماً ستراه العين”، فلم ينتبه القوم للسؤال وللإجابة عليه التي كشفت أن المبلغ الذي قرر السيسي التبرع به هو خمسمائة ألف جنيه. أي نصف أرنب لا أكثر. والمصريون يحتفون بالمليون جنيه فيطلقون عليه “أرنب”. فلم يتبرع السيسي بأرنب كامل لمصر.
لقد وعد عبد الفتاح السيسي بأنه سيتبرع بنصف راتبه، وبنصف أملاكه، بما فيها ما ورثه عن والده. فهل يصدق الجنين في بطن أمه أن كل ثروة الرجل هي مليون جنيه، وأنه تبرع بنصفها لمصر كما وعد؟!..
نحن نعلم أن إجمالي دخل وزير الداخلية في مصر شهرياً هو 2 مليون جنيه، ومن حقنا أن نعلم ما كان يتقاضاه السيسي عندما كان وزيراً للدفاع، وقبل هذا عندما كان مديراً للمخابرات الحربية، وإذا كان القانون يلزم المرشح الرئاسي بأن يقدم إقرارا بذمته المالية للجنة العليا للانتخابات مع أوراق ترشحه، فإن هذا يعطي سلطة للشعب بأن يعرف ذمته المالية، فهل يصدق أحد أن إجمالي ثروة عبد الفتاح السيسي هي مليون جنيه فقط لا غير؟!
اللافت، أن الفيلم كله من بدايته هابط، فتحويل الأموال لا يستدعي أن يتحرك السيسي في موكب رئاسي إلى البنك، الذي يغلق أبوابه أمام عملائه، لدواعي الأمن والسلامة للمشير الركن، حتى يسلم حقيبته للموظف والذي يقوم بعدّ ما فيها، ويدون في الأوراق قيمة التبرع، ويمنح إيصالاً بالمبلغ المتبرع به. مع أن التحويل صار في ظل التطور التكنولوجي إجراء بسيطاً، وان كان الهدف أن يعلم الرأي العام بهذه الخطوة، فيكفي إيصال بعد التحويل من البنك مختوم بختمه، وينشر في وسائل الإعلام عن هذا التبرع. لكن وعلى ما يبدو أن السيسي كان يريد للمبلغ أن يكون سراً، ليصبح السؤال الآن، هل تبرع بالفعل لصالح الدولة المصرية؟ إذن لماذا وقع على إيصال الإيداع بقلم رصاص، فضحته الكاميرا.. وهل تتعامل البنوك بأقلام الرصاص، أم أن هذا القلم تم إحضاره له خصيصاً؟!.
لقد طرح عبد الفتاح السيسي بحمله للمبلغ المتبرع به في “شنطة حمزة” للبنك الأهلي سؤالاً: هل تنعدم ثقة عبد الفتاح السيسي في البنوك لهذا الحد؟!.. أم أن الرجل “دقة قديمة” وقد كان من المصريين قديماً من لا يشعرون بالأمان إلا إذا نامت أموالهم في أحضانهم. وقبل عشرين عاماً كانت كثير من الموضوعات الصحفية تعالج ثقافة حبس المدخرات “تحت البلاطة” بعيداً عن البنوك، وجرى طمأنة هؤلاء بأنها في البنوك تكون في الحفظ والصون، وأن البنك المركزي هو الضامن لهم، حتى وإن أفلس البنك الذي يتعاملون معه. لتصبح ثقافة وضع الأموال في المنازل، مما يتم السخرية منه ومن صاحبه، وفي عمليات الاعتقال التي جرت لرموز القوي الموالية للشرعية، كان يتم الحرص دائماً على الحديث عن وجود أموال في حوزة المقبوض عليه بمنزله. وكثير مما نشر إعلامياً لم يكن صحيحاً، وإنما كان الهدف هو السخرية، من أصحاب العقليات القديمة. وكانت قوات الأمن تتعامل مع وجود الأموال بالمنازل على أنه يمثل أمراً غريباً فيتم وضعها في الأحراز على أنها من المضبوطات، دون توجيه اتهام بعينه!.
بعض ما أذيع لم يكن صحيحاً، والشيخ حازم أبو إسماعيل وبعقلية القانوني، قال إن القوم كتبوا في محضر الضبط أنهم عثروا في شقته على مليون جنيه. فهذا ماله وهو يريد استرداده، فأسقط في أيديهم!.
لا بأس، فإذا تعاملنا مع الموقف كما هو، فالمعنى أن السيسي من يضع “تحويشة العمر” تحت البلاطة، لأنه لو كان المبلغ المتبرع به في حسابه بالبنك، لكان الطبيعي أن يقوم بتحويله من حسابه لحساب “تحيا مصر” بجرة قلم، دون أن يستدعي هذا حمل “نصف أرنب” في “شنطة حمزة” والذهاب به للبنك المفتوح فيه الحساب لقبول تبرعات المصريين لإنقاذ البلاد من شبح الإفلاس!.
ولنفترض جدلاً أن الرجل سحب المبلغ من حسابه بالبنك، ووضعه بالحقيبة، وحمل الحقيبة وذهب بها للبنك الآخر بهدف التصوير وهو أمر مقبول في التبرعات السياسية، فالعلانية من شروطها، فليس هنا مجال التبرع باليمين فلا تعلم الشمال ما تبرعت به. فإن علينا أن نعلم أن مبلغ (500 ألف جنيه) لا يمكن لأي بنك أن يصرفه للعميل في دفعة واحدة أو على دفعات خلال فترة وجيزة، من يوم قرار التبرع الى أن تم تنفيذ القرار.
المعنى إذا تجاهلنا واقعة القلم الرصاص، أن السيسي يضع أمواله في بيته؟.. فممن يخاف سيادته؟! والمعنى أيضاً أن هذا الفيلم الهندي لا ينطلي ولو على “صريخ ابن يومين”؟!
فما بال عبد الفتاح السيسي منحوساً وكلما ظن أنه يحقق إنجازاً في سبيل بناء أسطورته، انهارت الأسطورة قبل البناء؟!
سليم عزوز