اذا ذهبت لسامراء وسألت جيران البغدادي عن بيته فيسقولون لك «في الثمانينات كنا نسميهم بيت «المومني» نسبة لتدينهم، فقد كانوا ملاحقين من أمن نظام صدام منذ الثمانينات، وكان البعثيون يسمونهم «بيت الوهابية».
وهكذا هم قادة «القاعدة» والفصائل الاسلامية المسلحة بالعراق.. جلهم سجناء سابقون عند الاجهزة الامنية البعثية التي كانت تعتبر السلفية والوهابية الخطر الثاني بعد حزب الدعوة الشيعي .لكن الولع لدى البعض بربط البعثيين بداعش بات «موضة» تتجاهل بديهية ان البعث كعقيدة وفكرة تراجع امام الهويات الطائفية والعرقية بالعراق، التي باتت هي المحرك والدافع الاول .
وحتى قبل سقوط بغداد لم يكن الانتماء البعثي في العراق مؤثرا في تراتبية المواقع الحساسة بأجهزة الامن والحرس الجمهوري امام الولاءات العائلية والعشائرية المناطقية، وكانت مظاهر الترهل بالحزب تنظيما وفكرة يتحدث بها كل من يعرفه من الداخل من اعضاء القيادة القومية، نزولا عند الأعضاء العاملين.
طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي قال لنا مرة في احد احتفالات الحزب بالسابع من نيسان/ابريل قبل سقوط بغداد بثلاث سنوات، انه بات مستاء من كثرة الحزبيين وقلة البعثيين ..انه حزب السلطة ينتمي له الجميع، وكل العراقيين بعثيون وان لم ينتموا، كما قال الرئيس الراحل صدام حسين.
يسهب كثيرون في الحديث عن انتماء قيادات في «القاعدة» لحزب البعث مثل حجي بكر او الانباري، او خلفيتهم كضباط عسكريين في الجيش العراقي وينسون او يتناسون المفارقة الكبرى، وهي ان الكثير من قيادات جيش المالكي وأعضاء من حزبه ايضا كانوا بعثيين مثل عبود قنبر والغراوي، وحتى نائب الرئيس العراقي القيادي البارز في المجلس الاعلى عادل عبد المهدي كان بعثيا يوما ما.. كثيرون من حزب الدعوة والتيار الصدري كانوا بعثيين، بل ان ان نسبة (الكسب الحزبي) كانت عالية في مدينة الصدر معقل جيش المهدي العدو الأشرس للبعثيين والفصائل الاسلامية كـ»القاعدة»، ولم يكن الانتماء للبعث يعني الانتماء لعقيدته.. كانوا حزبيين لا اكثر.
يتحدث بعض الباحثين ومنهم الغربيون عن دور اساسي لضباط جيش صدام في «القاعدة» والفصائل الاسلامية التي تمردت على الوجود الامريكي في العراق، ويعتبرون انتماءهم لمؤسسة الجيش دافعا أساسيا لمقاتلة الجيش الامريكي، خصوصا بعد حل الجيش العراقي.. لكن السؤال البديهي الذي يتجاهله كثيرون، اين هم ضباط الجيش العراقي من الشيعة؟ لماذا لم يتمردوا وينضموا ويشكلوا فصائل تقاتل الامريكيين ومن بعدها قوات الحكومة في مناطق الشيعة، كما حدث في مناطق السنة؟
الجواب ببساطة ان الانتماء الطائفي هو العامل المؤثر الاساسي في اتخاذ موقف سياسي من الاحتلال او الحكومة العراقية، ولم يكن الارتباط بالمؤسسة العسكرية او الحزبية.. نعم شارك كثير من الضباط الشيعة لكن في جيش المالكي وقواته التي كانت تقاتل فصائل اسلامية سنية انضوى فيها ايضا ضباط سنة من المؤسسة العسكرية.
في سجن الجرائم الكبرى بالكرخ وخلال فترة اعتقالي هناك عام 2005 التقيت بمقاتلين معتقلين كانوا في الجيش السابق او بعثيين، لكنهم معتقلون بسبب انضوائهم في فصائل اسلامية، وكانت يومياتهم في السجن هي الاشتباك والعراك مع سجناء اخرين شيعة معتقلين على خلفية انضوائهم في جيش المهدي، وكان كثير منهم ايضا بعثيين.
كان يقود السجناء السنة شيخان سلفيان احدهما جنابي والثاني من راوة.. ينظمان حلقات توعية للسجناء يوميا.. نصف حديثهما شتم للأحزاب الشيعية ونصفه الاخر شتم لحزب البعث «اللي وصلنا لهالحالة».
وعندما كنت اسألهم عن انتماء بعض البعثيين لبعض الفصائل.. كانوا يقولون «لقد تابوا من كفرهم وقبلنا توبتهم».
اما الضباط العسكريون الذين شاركوا في «القاعدة» او في فصائل المقاومة العراقية فقد شاركوا كأشخاص، وبدور ميداني محدود تتطلبه خبرتهم العسكرية، وكان معظمهم ذوي ميول دينية معروفة، وكان ما يربط البعثيين بالاسلاميين في هذه الفصائل هو الرابط العشائري المتين والعميق في مناطق السنة العراقيين.. علينا الا ننسى ان المجتمع السني في العراق متداخل عشائريا، وهذه الهوية العشائرية العميقة هي التي خففت من الصدام بين البعثيين والاسلاميين ووحدتهم امام عدوهم المشترك التيار الشيعي السياسي.
اما القيادات السياسية والأساسية لهذه الفصائل الاسلامية فكانت فقط للاسلاميين المؤدلجين الذين كانوا جميعا في سجون النظام البعثي الذي لاحقهم كوهابين وسلفيين، تماما كما لاحق حزب الدعوة. لذلك من الصيغ المتبعة للانضمام لهذه الفصائل هو (التبرؤ من حزب البعث).. اما صدام حسين فقد كان ينظر اليه كزعيم سني اكثر منه بعثيا، لذلك يختلط الامر على البعض بين حبه لصدام وولائه للبعث.
وما محاولة الاحزاب الشيعية اختصار خصومها بتسمية «البعثيين والصداميين والوهابيين التكفيريين» الا اختصار لمكونات السنة العرب من قوميين وإسلاميين.. فاجتثاث البعث هو اجتثاث بالحقيقة للدور السني، لذلك نجد ايضا ان بعثيين شيعة لم يتم اجتثاثهم، بل وصلوا مواقع عليا، ونجد ان ايران والأحزاب الشيعية ترسل الميليشيات، التي تقاتل في العراق ضد «البعثيين الارهابيين»، للقتال الى جانب البعثيين في سوريا ولحمايتهم لانهم ينظرون للبعث على انه سني في العراق وعلوي في سوريا .
ببساطة انه العقل العربي يحلل الاحداث والوقائع حسب روح الخصومة وليس استنادا للمعلومة الموضوعية.. دوما يربط خصمه بالعمالة لعدو جماعي .. فكل من هو مختلف معي هو مع عدوي حكما. لذلك من المهم للمجتمع ولمعرفة الحقيقة، تجريد المعلومة من السياسيين لانهم يزيفون المعلومات حسب مصالحهم.
كيف يمكن تصديق ان من عانوا لسنوات في زنازين نظام البعث يقاتلون من اجله اليوم، كيف يتم تجاهل الصراع العميق بين القوميين والاسلاميين، حتى مع اختلاف حدته بين بعث العراق سوريا وناصري مصر؟
واذا أردنا المرور سريعا على تاريخ بعض قيادات «القاعدة» في العراق يتبين لنا حجم المفارقة بين ارتباطهم الشكلي بحزب وعدائهم الأيديولوجي العميق له.
اضافة لابو بكر البغدادي الذي كانت أسرته ملاحقة من النظام في الثمانينات تحت خانة الوهابية، فان ابو عمر البغدادي القيادي السابق كان له على رأس التنظيم ضابط طرد من الاجهزة الامنية لميوله السلفية. يقول لي احد مرافقي من كان يعرف بجزار «القاعدة» ابو عمر الكردي، وهو من الذين أعدمتهم الحكومة العراقية، بعد ان نفذ اكثر من مئتي عملية تفخيخ، احدها كان عملية اغتيال الحكيم،، يقول صديقه الذي كان يرافقه ان الكردي كان يصف نفسه «بالوحش»، ويقول «لقد تحولت لوحش.. هل تعرف كيف يمكن ان يصبح الانسان بعد اعتقال في زنزانة منفردة لخمس سنوات»، لقد كان الكردي معتقلا في جهاز الامن في النظام العراقي من عام 1991 حتى 1995 بعد عودته من افغانستان، كان ينظر للبعثيين على انهم من حولوه وحشا. اما المساعد الاشهر للزرقاوي في الانبار الحاج ثامر الريشاوي، فقد كان هو الاخر ضابطا بالجيش، واخوه فراس في الحرس الجمهوري، وابعد ايضا بعد اكتشاف ميوله السلفية، ولمن لا يعرف الحاج ثامر فهو مدبر تفجير الامم المتحدة مع ابو عمر الكردي وعشرات التفجيرات الاخرى، وشقيقته هي ساجدة الريشاوي الانتحارية المفترضة في الاردن، وابن عمه هو زعيم الصحوات في الانبار عبد الستار ابو ريشة كلهم من عشيرة واحدة. والان يقود احد رفاق الزرقاوي ولاية صلاح الدين في تنظيم الدولة الاسلامية، وهو من هيت بالانبار، وكان ايضا ضابطا بالأمن، واذا سألته عن عمله السابق فسيبدأ باستغفار الله وتأكيد التبرؤ، بعدما حارب البعثيون واجهزة الامن رفاقه السلفيين لسنوات.
استطيع سرد عشرات الاسماء ممن يقودون الان الفصائل الاسلامية الجهادية، وسنرى ان العامل المشترك الاول بينهم هو انهم سجناء سابقون ومطاردون من اجهزة الامن العراقية في زمن صدام حسين. من قيادات الجيش الاسلامي وجيش المجاهدين حتى «القاعدة»، وحتى المعتدلين كجماعة الشيخ حارث الضاري كانوا على خلاف كبير مع البعثيين.
الخلاصة ان الانتماء البعثي في العراق وحتى سوريا كان عابرا، لم يتأصل في الشخصية، كان في بعض الحالات قناعا لإخفاء «القناعات الفرعية الكامنة».. وظلت الهوية الطائفية للسنة والشيعة والعلويين وحتى باقي الاقليات، او العرقية للأكراد هي الهوية المتحكمة في الفعل السياسي والعقل الجمعي لمجتمعاتنا. لذلك لا يمكن وضع البعثيين كأحد الاطراف الحقيقية بالصراع في العراق، بل ان الانقسام الطائفي والعرقي قضى على كل المسميات والديكورات، لان مجتمعاتنا احتفظت بروابطها البدائية القبلية العرقية والعقائدية الدينية كأساس للعلاقة في ما بينها.
وتبقى الحادثة الابرز في رصد التحول بمصير البعث العراقي هي ما اختاره قائده عزت الدوري ان يكون جيش رجال الطريقة النقشبندية الصوفي المحتمي بجبال كردستان هو الفصيل العسكري الاول لحزب العبث القومي العلماني. ومن يعرف ابناء عزت الدوري عن قرب كابنه احمد الذي كان في اليمن لفترة ما، يلاحظ انه اضافة لادبه الجم وخلقه الدمث اسلامي متدين اكثر منه بعثيا عقائديا نهل من كتابات ميشيل عفلق.
٭ كاتب فلسطيني
وائل عصام