لكلِّ شيءٍ خُطوة أولى ، حتى للعذاباتِ …
… وفي الطريقِ من الفردوسِ إلى التيه كانوا يتسَاءَلون ماذا ستفعلُ السنابلُ بقمحٍ كانَ من المفترضِ أن يكونَ لهُم ؟
وماذا ستفعلُ الدوالي بعنبٍ لم يُخلفوا يوماً مواعيدَ قِطافِه ؟
وكيفَ ستنتفخُ أرغفة غيرهم على وَهْجِ تنانيرَ بنَوْهَا هُمْ على عَجَلٍ من طينٍ وماءٍ كأعشاشِ الدوريّ الصالحةِ لتزاوجٍ واحد ؟
وكيفَ لناياتٍ أوجَدُوها من قصبٍ لم يكنْ صالحاً إلا لمُشَاكسةِ الريحِ ، أن تحبلَ بهواءٍ خارجٍ من غير رئاتِهم ثم تلدَ أنغاماً من سِفاح ؟
وماذا ستفعلُ الطيورُ إن عادتْ ولم تجِدْهُم وهي التي ودّعتهُم في لعبةِ فراقٍ و لقاءٍ يتعاقبان كالليلِ والنهارِ فلا يُخلِفُ أحدٌ موعِدَه ؟
وكيف سَيُسْلِمُ الحمامُ هديله لغيرِ الذين أشبعُوه من فُتاتِ خبزِهِم ؟
وكيفَ سيميّزُ الغرباءُ بين قطعةِ أرضٍ وأخرى ، فللنازحين مقاساتٌ لا يتقنها قومٌ غيرهُم ، هم الذين يقيسون المسَافة بالخطوةِ ودقاتِ القلبِ …
هم البسطاء كماء المطر ، المركّبون كحكايا الريح في قيثارات الرعاة …
هم المادّيون المترقبون للفوارقِ بين حساباتِ الحقل وحساباتِ البيادر ، والروحانيون كصلوات العجائز لا تعرفُ من الدنيا غير ملامحِ قاطنيها لكثرةِ ما تتكررُ الأسماء !
هم حاملاتُ الجرار إلى النبعِ قبلَ أن تعرفَ المنازلُ استعطاءَ الماءِ من أنابيب … ذاهباتٍ خِماصاً … عائداتٍ بِطَاناَ … في دورةِ ريٍّ تعلموها وعلّموها … ورثوها وأورثوها … فسبحان من خلقَ كلّ حيِّ من ماء …
هم العشيرة كلها تتكاتف على عشيرةٍ أخرى في ” طوشةٍ عربٍ ” ينهيها الاجاويد بفنجانِ قهوةٍ عربيّة أيضاً …
هم الشيوخُ … يستيقظُ الفجرُ فيجدهم قد سبقوه لقيام الليل … والرجالُ يتعثرُ الصبحُ فيهم مزروعين على درب الحقل قبل أن تهتكَ الشمسُ أسرار الأشياءِ من حولهم …
فيهم قطاع الطرقِ … واللصوص … ورهبان الليل … والعُبّاد … والزهادُ … والغانياتُ … والقانتاتُ … والجاهلاتُ … والعارفاتُ … والقبيحاتُ … والفاتناتُ … الكنعانياتُ الممسكات بتلابيب القلبِ بحبلِ الغنجِ … المتضوعات بالزيزفون … السارقات حمرة شقائق النعمان لخدودهن … القابعات في خدورهن … فيهم العقلاءُ … والكرماءُ … والبخلاءُ … والشجعانُ … والجبناءُ … والتقاةُ … والعصاةُ … والحماةُ … والحفاةُ … والرعاةُ … فيهم كل ما خلق الله من ورى فوق الذرى
هم الذين كانوا أثناء ممشاهم إلى التية يظنون أنّها لن تكونَ خطواتِهم الأخيرة على هذه الأرض ولكنّها كانتْ !
لم يحفلوا كثيراً بمراسيم الوداع ، ولم ينثروا الخبزَ وراءَهم ليهتدوا بفتاتِه حين يرجعون ، فقد كانوا يحفظون الدربَ عن ظهرِ قلب
حملُوا ما يكفي لفراقٍ قصيرٍ فقط ، غير أنّ الأم اكتشفتْ في منتصفِ الطريقِ انّها في لحظةِ ارتباك تشبّثتْ بالوسادةِ وتركتْ الطفلَ في السرير ، فلمْ تسمحْ لهم حكايا الموت الجماعي التي قصّها الناجون الذين دبّر القتلة طقوسَ نجاتِهم بمراجعةِ كل التفاصيلِ الصّغيرة !
هم الخارجون كرهاً من أرضٍ لم يبقَ منها إلا حكايا جداتٍ ، وحفنة ذكريات …
قس بن ساعدة