رأى الكاتب “روبرت ف. وورث” في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أنه على مدى الأسبوعين الماضيين، أصبح الشبح الذي طارد العراق منذ تأسيسها قبل 93 عاما حقيقة واقعة: التقسيم الفعلي للبلد إلى كانتونات سنية وشيعية وكردية.
ومع استمرار مسلحي الثورة في تثبيت مواقعهم في جميع أنحاء شمال وغرب العراق، وما بدا أن جيش المالكي غير قادر على صدَ هجماتهم، بدأ المراقبون في الداخل والخارج يتساءلون عن مدى إمكانية تصحيح الأوضاع في البلاد والعودة بها إلى سابق وحدتها.
ذلك هو السؤال لا يتردد في سوريا -التي تنقسم أيضا بشكل فعال إلى دويلات معادية-، وفقط، ولكن أيضا في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وفقا للكاتب، حيث لا تزال الشرارات التي أطلقتها الانتفاضات العربية في العام 2011 تلتهم الهياكل والحدود السياسية التي سادت منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمان.
بعد تقسيم العراق واحتمال تفتيت سورية على أسس طائفية أو عرقية، من غير المرجح أن يُقدم أي حل لهذا الاختلال الوظيفي في المنطقة، وفقا للمحللين، كما قد يتولد عن هذا صراعات جديدة تقودها الأيديولوجية، النفط وغيره من الموارد.
“ما لا يقل عن ثلث البلاد غير خاضع لسيطرة الحكومة في بغداد”، كما قال زيد العلي، وهو محلل عراقي ومؤلف كتاب “النضال من أجل مستقبل العراق”، وأضاف: “لكن أي محاولة للاعتراف رسميا بهذا الواقع قد يؤدي إلى كارثة أكبر، لأسباب ليس أقلها المناطق المختلطة العديدة من البلاد، بما في ذلك بغداد، حيث ستترتب على لك حدوث حمامات دم مع محاولة المجموعات المتضاربة إثبات الوقائع على الأرض”.
وقد حثت إدارة أوباما السياسيين العراقيين من مختلف الطوائف للعمل معا، ولكن وزارة الدفاع الأمريكية، وفقا للكاتب، التي لا تتردد في ضخ المزيد من القوات في نزاع معقد وعميق الحذور، ألمحت، بهدوء، إلى أنها يمكن أن تتعايش مع التقسيم الحاليَ للعراق، على الرغم من الأخطار التي تشكلها المعاقل “المسلحة” الجديدة في الصحارى التي تربط بين سورية والعراق.
غير أن السياق هذه المرة، كما استدرك الكاتب، يختلف عما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمن: بدأت الكراهية الطائفية تغير الحمض النووي السياسي في المنطقة بشكل يجعل من الحدود القديمة المرسومة أكثر عرضة للخطر.
ذلك أن كثيرا من السنة العاديين يصفون الاستيلاء على الموصل وغيرها من المدن باعتبارها ثورة شعبية ضد الحكومة التي يقودها الشيعة وليس هجوما إرهابيا.
ومع مسارعة لحشد إيران، عدوهم التاريخي، الطائرات من دون طيار وغيرها من الإمدادات العسكرية لمساعدة حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي في استعادة السيطرة على الشمال -وحماية الجنوب-، فإن الكثير من السنة قد ينفرون أكثر من الدولة المركزية.
وفي الأسبوع الماضي، أصدرت “داعش” تقريرا من ثماني صفحات تندد فيه بنظام الحدود في الشرق الأوسط الذي فرضه الاستعمار، كما وصفته، وتضمن صورا من مقاتليها وتدمير ما وصفته “الحواجز الصليبية” بين العراق وسوريا.
في الوقت نفسه، يقول الكاتب، فإن هجوم مقاتلي داعش جعل من الانفصال الرسمي لكردستان العراق حتى الآن أكثر قبولا.
وأدت الأزمة إلى فرار الجنود العراقيين من كركوك، المدينة الشمالية المتنازع عليها المدينة الغنية بالنفط، والتي كان من بين العقبات الرئيسة الأخيرة أمام الاستقلال الكردي.
وعبر الحدود في سوريا، فإن المنطقة الكردية في شمال البلاد هي أيضا مستقلة فعليا عن دمشق، بجيشها الخاص لحكومة مؤقتة. وتركيا، التي عارضت بشدة في الماضي دولة كردية مستقلة على حدودها، ترى الآن في الأكراد منطقة عازلة مستقرة بينها وبين مقاتلي داعش.
وقد اقتُرحت فكرة تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء في الماضي كحل لمشاكل البلاد. ففي عام 2006، روج جوزيف بايدن، وكان عضوا في مجلس الشيوخ، للفكرة، واستحضر أنموذج تفكك يوغوسلافيا السابقة واتفاقات دايتون في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
ولكنَ الكثير قد تغير على مدى السنوات الثماني الماضية، كما يقول الكاتب: فالتقسيم الآن أصبح أمرا واقعا إلى حد كبير. ومحاولة إعادة تركيب أجزائه ستستنزف موارد هائلة، حتى لو تعاونت الولايات المتحدة مع ايران لتحقيق هذا الهدف، فإن ها هذا التقارب من شأنه أن يغضب السنة، وربما يفضي إلى تطرف كثير من العرب السنة في المنطقة.
بالنسبة للجزء الأكبر، فإن العراقيين (باستثناء الأكراد) يرفضون فكرة التقسيم، وفقا لمقابلات أخيرة واستطلاعات الرأي أُجريت قبل عدة سنوات.
في هذا المعنى، ثمة تناقض صارخ بين العراق ويوغوسلافيا السابقة، حيث عملت الميليشيات بوعي منذ البداية لاقامة جيوب وطنية جديدة وحصرية عرقيا. وقد أدى التوتر الطائفي إلى المأزق الحالي للعراق، لكنه يتناغم مع مصادر أخرى من التضامن الإقليمي والأيديولوجي وبعض الجذور العميقة في التاريخ.
لهذا السبب، جزئيا، كما يقول العديد من المحللين، فإن التقسيم الحالي للعراق رغم أنه قد يكون أمرا محسوما في نهاية المطاف، إلا أنه لا يمثل العودة إلى نظام أكثر واقعية أو متناغم، ولا هو أفضل علاج لمصادر الفشل السياسي والاجتماعي في المنطقة.
“يمكنك تقسيم هذه الدول إلى قسمين أو ثلاثة أو أربعة، وسوف تحصل على الممارسة نفسها للسلطة في كل من تلك الوحدات”، كما قال بيتر هارلينغ، وهو محلل بارز في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، والذي أقام 15 عاما في العراق و سوريا، وأضاف: “المشكلة هي في ممارسة السلطة بطريقة انقسامية واستبدادية وفاسدة، وليست في الحدود”.
وفي ضوء كل هذا، يقول العديد من المحللين إنه من المستبعد أن تصمد الحدود العربية الحالية وتستمر، وسوف تؤول القوة الكبرى (الشرق الكبير)، في نهاية المطاف، إلى مقاطعات ومدن، وهي العملية التي كانت جارية بالفعل منذ الانتفاضات العربية…
خدمة العصر