ربما يتسم عمرو موسى بقدرات خاصة لا يمكن إنكارها، من قبيل الذكاء الحاد، و”الكاريزما”، والحيوية. وعلى الرغم من تجاوزه السبعين بكثير، إلا أن العنوان الأبرز له “محترف فن البقاء”. لا ينافسه في هذا المجال إلا الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل. فكلاهما لا يستطيع العيش بعيداً عن دائرتي السلطة والأضواء، ويبحث كل منهما دائماً عن موطئ قدم لنفسيهما في الصفوف الأولى، مهما تبدلت وتغيرت الظروف السياسية
وإن كان هيكل يلعب دور”منظر السلطة”، فموسى يجيد دور”خبير التسويق”، ولذا نراه يتفاعل بمرونة أكثر مع أطراف كثيرة من صفوف السلطة أو المعارضة. ويستطيع بمهارة استيعاب حتى المختلفين معه، وكسب رجال الإعلام بشكل خاص، والذين يتيحون له تسويق بضاعته، حتى لو كانت فاسدة.
ويكفي مثالين للتدليل على ذلك؛ أولهما الموقف من الكيان الصهيوني، فلا يُذكر عمرو موسى كوزير للخارجية، إلا ويُذكر موقفه المتشدد من تل أبيب، وتصريحاته القوية ضدها. لدرجة ألهمت المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، وجعلته يغنى له، رابطاً بين “حب عمرو موسى، وكره إسرائيل”. وهي الصورة النمطية التي جرى تكريسها عنه شعبياً، بينما واقع الحال يقول، بأن التطبيع ازداد سخونة على يده، ودخل إلى مرحلة الاختراق الثقافي، فيما عرف بـ”مبادرة كوبنهاجن”. ذلك فضلاً عن محاولة دمج إسرائيل في المنطقة، والترويج لمشروع شمعون بيزير “الشرق الأوسط الجديد”، خلال المؤتمر الإقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي نظمه.
وثاني الأمثلة، ما قام به في “لجنة الخمسين” التي كان على رأسها، والتي تمكنت من تمرير “عسكرة الدستور”، بحيث مرّ دون ممانعة تذكر، من فئات عديدة محسوبة على المعارضة. وهي ذاتها من كان يتحدث بحماس عن “أعظم دستور” عرفته مصر، والإنجاز التاريخي على صعيد الدولة المدنية الديمقراطية، وذلك طبعاً بخلاف الحقيقة. وحتى حين تم إدخال بعض التعديلات على الدستور بعد إقراره، من قبيل الإشارة لـ”حكومة مدنية” بدلاً من “حكم مدني”، جرى احتواء الأمر سريعاً
وربما نجاح موسى في هذه المهمة الشاقة، وقدرته على استيعاب فئات عديدة من خلفيات إيديولوجية وعمرية مختلفة، بمن فيها من كانوا يرونه من أبرز رموز “الفلول” الذين يجب إبعادهم عن المشهد، جعلته مؤهلا لأن يقوم بمهمة أخرى لا تقل أهمية؛ قيادة “تحالف انتخابي مدني”. وربما لو نجح في أدائها ستمنحه كرسي رئاسة البرلمان. والمثير للسخرية، أن يتصدى لهذه الحركة الموصوفة بـ”المدنية” عمرو موسى الداعم لجنرال عسكري، ومسؤولي أجهزة أمنية سابقين كرئيس الاستخبارات اللواء مراد موافي، ووزير الداخلية أحمد جمال الدين.
ولاشك أن شعار” التحالف المدني” مجرد لافتة خادعة لجذب قطاعات من المعارضة اليسارية والليبرالية، جنباً إلى جنب مع شخصيات وأحزاب “الفلول” الضعيفة. وذلك بحجة الخوف من إمكانية سيطرة الإخوان أو السلفيين على البرلمان. في حين أن الهدف الرئيسي هو ترميم “تحالف 30 يونيو”، والذي شهد تصدعات خلال الفترة الماضية، نتيجة محاولة “فلول مبارك” القفز إلى صدارة المشهد، وإبعاد حلفاء الأمس. وأتضح إن ثمة حاجة، وخاصة في الفترة المقبلة، لتدجين المعارضين وتوريطهم مع النظام. وهو الأمر الذي أشار إليه هيكل ذات مرة؛ من ضرورة تأجيل الاحتجاجات والانتقادات، وخوض معركة “إنقاذ مصر أولاً”، وتأجيل المطلب الديمقراطي، ومحاولة اختزال المعارضة في القوى الدينية بقيادة الإخوان. والتي أصبحت بدورها قرينة للإرهاب، ويأتي استمرار توظيفها كفزاعة، لأجندة سلطوية.
الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعلى الرغم من الدور التعبوي الكبير الذي لعبه الإعلام وأجهزة الدولة، وشبكة المصالح القديمة وحلفاؤها، إلا أن المشاركة الهزيلة فيها، أثبتت حقيقة أن الجنرال السيسي بلا ظهير شعبي. وثمة ضرورة لتعويض ذلك بظهير سياسي يسيطر على البرلمان، ويملأ فراغ “الحزب الوطني الحاكم” المنحل؛ حيث لا يوجد حزب كبير في مصر بإمكانه حصد الأغلبية النيابية. ومن ثم فلا بديل عن تجميع الكيانات المبعثرة تحت قيادة واحدة، من شخصية موثوقة من قبل النظام القديم-الجديد. بغرض تجاوز معارضة البرلمان القادم، تشكيل الرئيس للحكومة؛ حيث ينص الدستور على ضرورة موافقة البرلمان على هذا الإختيار. وبذلك يعود رئيس الحكومة والوزراء مجرد “سكرتارية” للرئيس، ويتم تفريغ شراكة الحكومة للرئيس، في صنع القرار المنصوص عليها دستورياً، من مضمونها.
والأخطر، ألا يقف البرلمان وأغلبيته حجر عثرة، في طريق تمرير قرارات وقوانين جديدة يدفع بها الرئيس، وألا تتم مراجعة حقيقية لما جرى تمريره على يد “الرئيس المؤقت” عدلي منصور، في غياب البرلمان؛ من قوانين سيئة السمعة، تحمي الفساد والاستبداد.
والأهم من كل ذلك، هو عدم الاقتراب من تعديل الدستور، وتركه بعيوبه وطابعه العسكري التسلطي، والحفاظ على الامتيازات الضخمة للجنرالات سياسياً واقتصادياً. فضلاً عن تحصين منصب وزير الدفاع لدورتين، و”دسترة” المحاكمات العسكرية للمدنيين. وبهذا يتخلى البرلمان عن مهمته الرقابية والتشريعية لصالح الرئيس، مثلما كان الحال خلال سنوات حكم مبارك الطويلة. ويكون دور الأغلبية الموافقة العمياء، والتفرغ لمكاسبها الخاصة.
ومن هنا تبرز خطورة الدور الذي يلعبه عمرو موسى في هذه المرحلة، وهو الذي تنازل عن حلمه برئاسة مصر، وارتضى أخذ خطوة للخلف، وراء “جنرال مبارك”. وموسى لا يكف عن امتداح السيسي، وقدم نفسه لخدمته مبكراً، وحقق له ما أراد في الدستور الجديد، ولعب دور المتحدث باسمه لبعض الوقت قبيل خوض الانتخابات. وأيضا لعب دور المفاوض مع الإخوان لإقناعهم بقبول ترتيبات ما بعد 30 حزيران/ يونيو، والتسليم بالأمر الواقع، مقابل العودة للحياة السياسية
محمود عبد الرحيم
المصدر: موقع المدن