مقال توني بلير (الأخير) رفض بشكل “غريب” ادعاء أن غزو عام 2003 فجرت أزمة العراق الحاليَة في محاولته الأخيرة لإعادة كتابة التاريخ.
سيطارد قرار غزو العراق في عام 2003 رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير حتى وفاته. وحدها (وفاته) ستضمن أن بلير لن يحصل على منصب سياسي كبير آخر في بريطانيا أو أوروبا. كان قرارا كارثيا من صنع رئاسة الوزراء بلغ حدا من الضخامة بحيث لا يزال بلير يصارع، ومنذ 11 عاما، لوقف عملية الكشف عن الحقيقة الكاملة.
للأسف، استسلم (رئيس هيئة تقصي الحقائق بقضية العراق) السير جون تشيلكوت، بعد 5 سنوات من التحقيق، لأحدث أمر بالإسكات من خلال الموافقة للإفراج على “الجوهر والنقولات” فقط من مجموع 25 ملاحظة من بلير إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش و130 من سجلات المحادثات. وقد تحدث حتى زميل رئيس الوزراء، مثل جون ميجور، ضد هذا التهرب، مشيرا إلى أن بلير هو الذي جلب قانون حرية المعلومات.
لذلك، عندما كتب بلير يوم السبت (الماضي) أنه يتحدث بـ”تواضع” على اتخاذ قرارات صعبة في الحكومة التي كان يرأسها في أعقاب هجمات 11/9، فإن الخداع الذي تضمنته هذه الكلمة مذهل. ذلك أن التواضع ليس الكلمة المناسبة لوصف الرجل الذي أمضى العقد الأخير من حياته متهربا من المسؤولية الشخصية، المساءلة العامة والعدالة الدولية بسبب القرارات التي اتخذها في عهده.
ولكن بلير كان حتى العام 2013 مدعى عليه. في مقال السبت (الماضي) تبنى شخصية أخرى، بلير خبير شؤون الشرق الأوسط. وكأنه أمضى قدرا كبيرا من الوقت في المنطقة ودرس تفاعلاتها بعناية، يكشف لنا بلير لنا أن العدو الحقيقي في العالم هو التطرف الإسلامي.
لن يتركـ(نا) “الجهاديون” وشأننا، لذلك فإن اللامبالاة ليست سياسة. نحن في صراع أجيال ضد الإسلام الراديكالي، وإذا فزنا في الشرق الأوسط، فإننا نكون قد فُزنا في بقية العالم.
وعلى ما يبدو، فإن عقدا من الحرب في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب غزو العراق، لم يكن كافيا. ما نحتاج إليه هو الصراع الذي يستغرق جيلا بأكمله – 25 عاما.
يسرد بلير عدة حجج يبني عليها أساس قضيته، حيث يرى أن العلاقة بين قراره بغزو العراق والحرب الأهلية الحالية “غريبة”. بالتأكيد، إذا كان صدام لا يزال في السلطة، كما يقول، فإنه سيردَ على الربيع العربي بنفس الطريقة التي سلكها الرئيس السوري بشار الأسد. فمع زعيم سني في العراق يقاتل للبقاء في السلطة ضد تمرد شيعي، وزعيم شيعيا يفعل الشيء نفسه ضد تمرد سني في سوريا، فإن النتيجة ستكون حربا طائفية إقليمية واسعة النطاق.
دعونا نستمر مع تحليله المضلل. الربيع العربي يولد ثورة مضادة من قبل الحكام العسكريين المستبدين، الذين حظروا المعارضة السياسية المنتخبة ديمقراطيا وتصنيفها ضمن المنظمات الإرهابية. بلير يدعم هؤلاء الحكام العسكريين المستبدين، كما يفعل الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، لأنهم، مثله، يدعون أنهم يقاتلون “الإسلاموية”.
الآن لنفترض أن صدام لا يزال في السلطة وكان يواجه تمردا شيعيا مدعوما من إيران. هل كان ببير سيميل إلى دعمه ضد النظام الإسلامي المتشدد، وربما الأكثر أصولية في المنطقة، والمصدر، كما يصفه أصدقاء بلير في الحكومة الإسرائيلية الحاليَة، لكل ما يمت الإرهاب بصلة؟
يقول بلير إن “علينا أن نتحرر من فكرة أننا “نحن” الذين تسببنا في كل هذا”..لا، “نحن” لا يجب علينا تحرير أنفسنا من أي فكرة من هذا القبيل، كما تفعل.
كان للحرب الطائفية في العراق نقطة انطلاق دقيقة جدا. بالطبع مئات السنين من التاريخ والدين تكمن وراء ذلك، ولكن الشرارة في عام 2003 لم تكن عارضة ولا من قبيل الصدفة. ودقة ساعة الانطلاقة مع وصول أناس إلى العراق مثل الكولونيل جيمس ستيل (رجل أمريكا الغامض في العراق) وهو متقاعد من الخدمة في وحدات القوات الخاصة وهو خبير ضالع في الحروب القذرة في أمريكا الوسطى، كلفه وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد بإعداد القوات شبه العسكرية الشيعية (الميليشيات) لقمع المقاومة السنية.
وكان هذا بغطاء قانوني. ذلك أن البنتاغون رفع الحظر المفروض على الميليشيات الشيعية للانضمام إلى قوات الأمن والسماح لكوماندوز الشرطة الخاصة (SPC) للانفتاح على قوات لواء بدر (الشيعي) والاستفادة من ميليشياتها. وقد أبلغ مستشارون أمريكيون رامسفيلد وديفيد بترايوس، بأن هذه الميليشيات المشكلة للشرطة الخاصة (SPC) والمدعومة بالملايين من الدولارات، كانت متواطئة في انتهاكات حقوق الإنسان في مراكز الاعتقال التابعة لها.
وسرعان ما انقلبت عملية (مكافحة التمرد) العملية رأسا على عقب، حيث قفز بترايوس على عربة تحويل المقاومين السنة إلى مكافحة تنظيم القاعدة، من خلال إنشاء وتمويل الصحوات. ولكن الإستراتيجية الأصلية لاستخدام الميليشيات الشيعية في محاربة المقاومة السنية لتفادي الهجمات على القوات الأمريكية، كانت واحدة من أفكار البنتاغون المتألقة.
وقد أشعل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هذه الأزمة من خلال إقصاء جميع شرائح السنة من المعادلة السياسية، ولكن يمكن القول إنه لم يفعل شيئا أكثر أو أقل من الاستمرار، أو التوسع، في السياسات الطائفية نفسها.
على بلير أن يعترف بأن الحرب في العراق لم تنته بسحب الرئيس الأمريكي باراك أوباما آخر الجنود المقاتلين من العراق، فالحرب لا تزال مشتعلة.. فالعراق هو في الواقع أكثر من تركة منصب سياسي، هو أكثر ثقلا من أن يتحمله ضمير واحد…
بقلم: ديفيد هيرست / كاتب بريكاني مدير تحرير موقع “ميديل إيست آي”