وجهت هيئة علماء المسلمين رسائلَ عاجلة إلى ثوار العراق ، وفيما يلي نصّها :-
في ظل الانتصارات الباهرة التي يُجريها الله على أيديكم ، وإلحاق الهزيمة تلوَ الأخرى بمن ساموُا شعبَ العراق سوءَ العذاب، وتساقطِ معاقلِهم ومراكز قوتهم ، تساقطَ أوراقِ الشجر في فصل الخريف ؛ نرى لِزاما علينا أن ننبهَكم على أمور في مراعاتها ـ على ما نرى ـ ضمانا لإنجاح الثورة وحفاظا عليها من كيد الكائدين ، الذي لم ينقطع منذ بدء الثورة أولَ هذا العام وحتى هذه اللحظة ، وسيشهد ـ حتماً ـ تصاعداً وشراسة في الأيام المقبلة ونُجمل ذلك فيما يلي :
أولا : ما أجراه الله سبحانه وتعالى على أيديكم من نصر كبير هو فضل منه ومنة يستلزمان الشكر له، والتواضع لخلقه، فإنما جرى ما جرى من أجل الخلق، نصرة لهم ممن ظلمهم فاحمدوا الله واشكروه أن جعلكم ممرا لورود قضائه وقدره في أنحاء المظلوم، والانتقام من الظالم، والاستجابة لعباده الصلحاء، ولو شاء الله سبحانه لأناط ذلك بغيركم.
ثانياً : تذكّروا أن نصرَكم سيُغيض كثيرين داخل العراق وخارجَه ، من أصحاب المشاريع التي أضرّت بالعراق على مدى السنوات الماضية ، وسيجتمعُ هؤلاءِ على الكيد لكم وبشتى الوسائل ، وقد رأيتم كيف تواطأت كثيرٌ من وسائل الإعلام منذ اللحظة الأولى لثورتكم ، للعمل على شيطنة الثورة ، وتشويهِ صورتها ، وكانوا جميعا على اختلاف أماكنِهم ولغاتِهم وعبر وسائل الإعلام المختلفة ، يتحدثون حديثا وحدا ، وكأنهم تلاميذُ يُرددون نشيدا واحدا ، أملاه عليهم معلمُهم في درس من دروس تعليم الإنشاد ، فحذارِ من الوقوع في الخطأ ، لان لدى هؤلاء القدرة على إلصاق الفِرية بخصومهم ، فكيف إذا ظفروا بعيبٍ فيهم أو زلةٍ ، زلت بها أقدامُهم.
ثالثاً: أهم الخطوات اللازم خطوها لإنجاح الثورة تكمن في كسب الحاضنة الشعبية، من خلال التأكيد لهم فعلا وليس قولا أن الثوار قاموا بالثورة من أجلهم، وخدمة لهم، ورفعا للظلم عنهم، وهذا سيتبدى من خلال مراقبة الجماهير لأداء الثوار لاسيما في الأيام الأولى من الثورة، فاحرصوا على ذلك أشد الحرص، واجعلوا من المدن المحررة نموذجا يغري أهالي المدن الأخرى بتقليدها، والسير على منوالها، وتذكروا حين انقلبت الجماهير على من كانت تحتضنهم في وقت سابق بسبب أخطائهم ومكر المحتل بهم، كيف عجز الجميع وقتها عن مواصلة قتال الأمريكان أنفسهم، واضطرت جهات مقاتلة كانت تزعم أنها الأقوى لتعيش سنوات بعيدا عن المدن والقصبات، تفترش الأرض وتلتحف السماء، فلا ينبغي لنا والحالة كذلك أن ننسى التاريخ.
رابعا : عليكم أن تُدركوا أن تحرير الشعوب من ظالميهم المدعومينَ من قوى عالمية ليس سهلا ، لكنّ الأصعب منه إدارة شؤون العباد بعد التحرير ، ونحن نتلمسُ في هذا الصدد ما يُثلج الصدور ، فالثوار ـ لاسيما في مدينة الموصل ـ يُحسنون الإدارة الأولية لشؤون الناس حتى اللحظة ، ولكنْ لنتذكرَ أن مدينة مثلَ الموصل مدينة كبيرة وذاتُ مُرفقات ضخمة ، تحتاج إلى إدارة محلية متميزةٍ وكفوءةٍ ، وهنا سيكون مُهمّا للثوار ، إذا ما طال أمدُ الثورة أن يختاروا مجلسا محليا من أهالي المحافظة ، يمثل جميعَ أطيافها ، ليكون بمنزلة أهل الحل والعَقد ، يَرجع إليه في رسم الخطط والسياسة العامة ، ويختاروا ـ في الوقت ذاته ـ رجلا من أهلها يُدير دَفة المدينة بصفةِ محافظ ، ويُعنى بإدارةِ شؤون المحافظة ، ويُعيد بناءَ هياكلها الإدارية المدنية والعسكرية على حد سواء ، وإذا أرداوا النجاح ، فلابد أن يتمَ اختيار هذا الرجل على أساس الكفاءة والإخلاص ، ويكونَ طيبَ السيرة والسمعة، ويتمتع بصفةِ الاستقلال عن أي فصيل من فصائل الثوار ، ليكسبَ حبَ الجميع وتعاونَهم ، ولا يكون بابا للفتنة ، وإثارة المطامع.
خامسا: يجب أن يكون صدر الثوار واسعا ورحبا لاستقبال هموم الناس واستيعاب مشاكلهم، وعدم الوقوع في دائرة ردة الفعل غير المحسوبة إزاء أي استفزاز.
سادسا: يجب الحرص على عدم المساس بوسائل الرزق للناس قدْر الإمكان وإبداءُ المرونة بهذا الصدد في المبيعاتِ المختلَفِ بينَ العلماء على تحريمها ، لاسيما في هذا الظرف الطاريء ، فهذا الإجراء ـ إنْ حصلَ ـ خطأً قاتل ؛ لأن التجارة بمثل هذه المبيعات ، يعيش عليها عشراتُ الآلاف من الأسر ، وفرضُ حظر الاتجار بها يعني قطعَ وسيلة العيش عنهم فجأة دون بديل ، وهذا يُثير سخطَ الناس وتبرُمَهم ، مما ينعكس سلبا على الموقف من الثورة وتأييدِها ، والتدرجِ في فرض الأحكام ، سُنة ً تشريعية معروفة.
سابعا: سيلاحظ الثوار في مدينة الموصل وصلاح الدين والمناطق التي تم تحريرها مظاهر غير صحيحة تتعلق بعادات الناس وألبستهم وأنماط معيشتهم، وربما يتعجل بعضهم في المبادرة بإصلاح ما يراه ليس صالحا، ونحن ننصح إرجاء ذلك لأن ثمة أولويات، وفي مقدمتها إكمال مشروع الثورة في كل العراق، وضمان سلامتها من كيد الكائدين، وتوفير الأمن والطمأنينة للناس.
ثامنا: التعامل مع الأقليات بالحُسنى سياسةٌ شرعية ، وهو في الوقت ذاته خُلُق يعكس صورة طيبة جدا عن الثوار أمام العالم ، ويَحرِج أعداءَ الثورة أيّما إحراج ، وهم الذين طالما اتخذوا من ظلم الأقليات ذريعةً ، لاستهداف الحكام أو الثورات ، فلنحرصْ على الأقليات ، ولنحرصْ على ما لديهم من عبادات ، وعدمِ المساس بمعتقداتِهم ، وليفهمَ العالمُ كلُه ، أننا كنا ومازلنا أهلُ حضارة صَقلَها الإسلامُ بيضتَها ، وأنمى عروشَها.
تاسعا: من الخطأ القاتل استعداء دول العالم، ولاسيما دول الجوار، فالثورة مازالت برعما يسهل قطعه، ونضرب مثلا بمشكلة تعترض طريق الثورة الآن، وهي مشكلة القنصل التركي المحتجز والرعايا الأتراك المحتجزين معه حيث ليس في هذا الاحتجاز أي مصلحة للثورة وأبنائها والشعب العراقي قطعا، مهما كانت الدواعي والأسباب، ومن المحتمل أن تستغل هذه القضية ذريعة لاستهداف الثورة والشعب من قبل المجتمع الدولي، وحينها سيدخل الجميع في نفق مظلم، وقد يتبدد كل شيء، وليس من حق أحد أن يغامر بمصير شعب.
إن أبناء الثورة عليهم ـ من وجهة نظرنا وقبل أن يتعقدَ هذا الملف ـ أن يسارعوا في إطلاق سراح المحتجزين ، إبعادا للثورة عن المخاطر ، وحفاظا على مكتسباتها ، أو الإعلانَ الصادق من قبل كل فصائل الثورة عن عدم تورطها في ذلك والبراءة منه ، والتعهدَ بالبحث عن المحتجزين لإطلاق سراحهم ، وبهذا سيَسحب الثوارُ البِساط ممن يتربص بالعراق وأهلِه شرا ، كما سيكون في ذلك إبداءُ حسنِ نية لدولة مجاورة ، لا يمكن تجاهلُ تأثيرها في المنطقة.
عاشرا: ليتحلى جميع الثوار في هذه المرحلة بنكران الذات، وليعلم كل طرف منهم أنه مهما بلغ من القوة لن يكون قادرا على إدارة شئون العباد لوحده، فالله الله في وحدة الصف، وعدم منح الشيطان فرصة للتحريش بينكم.
كما ليس من حق أحد أن يتخذَ قرارا استراتيجيا بمَعزل عن الآخرين ، فليس الثوار اليوم سوى أمناءَ على مصلحة 30 مليون عراقي ، فضلا عن مصلحة الأمة ، التي بات مصيرُها معلقا بمصير الوضع في العراق ، ومن ثَم لا يَحق لهم شرعا المجازفة بمصلحة هؤلاء جميعا ، واتخاذُ قراراتٍ غير خاضعة لمبدأ الشورى ، هذا المبدأ العظيم الذي جعل الله سبحانه في ثناياه مرابط التوفيق ، وبوابة أمن تحوُلُ دون تمكن العناصر المخترقة لفصائل الثوار، والتي تعمل لجهات خارجية من الانحراف بالثورة عن مسارها الصحيح.
ولنكن صرحاء الثورة ثورة شعب، ولا يمكن لأي فصيل أن يزعم بأن الثورة له فبعد سنين من المعاناة والاضطهاد نظم العراقيون تظاهرات سلمية في 25/2/2011 في 16 محافظة من أصل 18، قمعها المالكي بعد أشهر بقوة الحديد والنار بتواطؤ من المجتمع الدولي، ثم قامت التظاهرات مرة أخرى في ست محافظات، وعقد العراقيون اعتصامات لأكثر من سنة، وقدموا طلبات مشروعة، فعاملهم المالكي بالحديد والنار، وهاجم سوحهم السلمية، بالدبابات والأسلحة الفتاكة، ووترك المئات منهم بين قتلى وجرحى، فلم يكن أمام العراقيين سوى الرد بالأسلوب نفسه، فالثورة ثورة شعب، وأي فصيل، أو جماعة تزعم أن الثورة لها فهي واهمة.
إن ما يقوم به اليوم الإعلامُ العالمي من التركيز على فصيل بعينه ، وحجبِ الإعلام عن فعاليات بقية الثوار ، لأسبابٍ لا تَخفى على احد ، في مقدَمتِها استعداءُ العالم ضد الثورة في سبيل إجهاضها ؛ لعبة مكشوفة لا تُغير من الواقع شيئا ، وهو أن المتظاهرين العراقيين هم أصلُ الثورة ، ومادتُها الرئيسة وحاضنتُها أولا وآخرا.
لكن أبناء هذه الثورة اتخذوا قرارا باستيعاب جميع من يقف إلى جانبهم في مناوئة الظلم والظالمين، وسيذكرون لكل صاحب موقف موقفه، ولكل نبيل نبله، ولكل صاحب تضحية تضحيته، بيد انهم في الوقت ذاته لن يقبلوا بمصادرة قضيتهم، أو اختطاف ثورتهم من قبل أي جهة كانت، كما أنهم لن يسمحوا لأحد بخلق فتنة داخلية بين أطراف الثوار، كما يحصل اليوم في سوريا، فتنة لا تخدم ـ في كل الأحوال ـ سوى أعداء العراق وشعبه، وإن أهل مكة ـ وهذا ما نقوله دائما ـ ـ أدرى بشعابها.
أحد عشر : ليكن الشعارُ المرفوع الواضح لثوارنا ، هديَ النبي صلى الله عليه وسلم ، في فتح مكة ، وهو العفوَ والتسامح ، ومن هنا فعلى أبنائِنا الثوار ، أن لا يسمحوا لأي طرف بالمناداة بالثأر أو الانتقام ، وأن لا يمارسوا ذلك فعليا ، فالعفو هو المدخل إلى قلوب الناس ، أما عُتاة الظلم ممن يُقبض عليهم غيرُ مقاتلين فتُشكلُ لهم ـ في الوقت المناسب ـ محاكمُ جنائية ويُساقون إلى القضاء العادل ـ الذي لن يُشبه بأي حال قضاءَ المالكي الطائفي والمسيس ، ولا مكانَ للفوضى في القتل ، فليس هذا من هديِّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا من خُلق أهلِ المروءة والحكمة.
ثاني عشر: الهدف المعلن الآن من قبل الثوار هو الوصول إلى بغداد، وهذا من حقهم لأن النظام الحاكم في بغداد هو مصدر الظلم والإجرام بحق الشعب، ومالم يرعو هذا النظام عن غيه فليس من سبيل أخرى أمام الثوار لرفع الظلم.
وبهذه المناسبة ننبه على أن الدعوات لذهاب الثوار إلى النجف وكربلاء وغيرِهما أمرٌ مرفوض وغيرُ مقبول، وموقفٌ غير مسؤول من أي جهة صدرت ، وهي لا تعدو أن تكون بابا للاستعداء على الثورة ، ومقدمة لاستجلاب الفشل لها ، وتحويلَ هدفها من نصرة المظلومين إلى إحداث الفتنة بين أبناء الشعب الواحد ، فضلا عن أن الجميع يعلم أن معظم أبناء الشعب العراقي في الجنوب ، يرفضون المالكي وزمرتَه ، ويُعانون مثل بقية أبناء الشعب من ظلم شديد ، وفقر مُدقع ، وهدر للكرامة والحقوق ، وتسلطٍ للأحزاب والميليشيات المجرمة على رقابهم.
إننا ننصح الثوار كل الثوار بتجنب أي لغة من شأنها تأجيج الحس الطائفي الذي تسعى إلى الوصول إليه دول كبرى وصغرى معروفة في سبيل إنجاح مشاريعها التدميرية للعراق والمنطقة.
إننا أبناءُ بلد واحد ، ونسعى جميعا إلى رفع الظلم عن كل العراقيين من دون استثناء لأي شريحة من شرائح المجتمع، ونسعى قبل ذلك وبعده إلى نصرة الدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل، ولكننا لا نميز بين شخص وآخر، ومذهب وآخر؛ لأن الجميع شركاء في هذه الأرض، ويرتبطون في التالي بمصير واحد.
هذه ملاحظات عاجلة، نرجو أن تحظى باهتمامكم، وتتقبلوها من إخوانكم، وهي حصيلة تجارب صقلتها الأحداث، ويهم أصحابها نجاح ثورتكم إلى أقصى الغايات وسنبقى في تواصل معكم نصحا وتبيانا لما نرى فيه المصلحة العامة حتى تحقيق النصر الكبير بإذن الله. رعاكم الله وحفظكم..وخذل خصومكم وأعداءكم