قديماً قال القائل: ‘تكلم حتى أراك’. وقد تكلم عبد الفتاح السيسي، رئيس مصر بقوة السلاح، فوجدت سراباً يحسبه الظمآن ماء، ولم يجده هذا الظمآن شيئاً من ربع الساعة الأول من الحوار المنتظر.
المقابلة التلفزيونية، مع عبد الفتاح السيسي، لم تكن مقابلة بالمعنى الاحترافي، فقد بدا إبراهيم عيسي، ولميس الحديدي، كجزء من مكتب العلاقات العامة، الذي يعمل لخدمة المرشح الرئاسي. ولميس لها سابقة أعمال في ذلك، عندما عملت مسؤولة حملة الدعاية للمخلوع مبارك، في آخر انتخابات له. وهذا أمر يجعلني أتفاءل، وأُيقن بحتمية زوال الانقلاب، ما دامت الحديدي هناك!
أسئلة المحاورين، خجلى، كالعذراء في خدرها، ولميس وإبراهيم لم يكن دورهما يتوقف عند طرح الأسئلة، وإنما كانا يقومان بمهمة ضبط إيقاع الرجل، على قدر المستطاع. فإذا عجز عن الإجابة التي جرى التحضير لها، وابيضت عيناه لخيانة الذاكرة له. فلا بد أن تفسر لميس الصمت بأنه تعبير عن العمق الاستراتيجي. وعندما يتكلم فان دورهما هو التشجيع، لعل الله ينفخ في صورته ويكون على مستوى منصب رئيس مصر.
لميس تماهت مع دورها باعتبارها خبرة، لكن لا أستطيع أن أظلم إبراهيم عيسى بأنه كان مثلها. فعقب الإجابة العبقرية للسيسي على سؤال البطالة، سأل جارته هل أجاب على سؤالك؟! وظني أن العبارة فلتت من بين شفتيه بشكل عفوي.
بدا السيسي كما لو كان مرشحاً للانتخابات البلدية، وان أعداد المتعطلين من الناخبين هم ثلاثة آلاف متعطل عن العمل، فكانت فكرة الألف سيارة بالتقسيط من أحد البنوك، ليعمل على كل سيارة ثلاثة أفراد، تقوم بشراء بضاعة من سوق العبور بالجملة، وتعيد بيعها ‘قطاعي’. وبهذا الحل السحري يكون قد أنهى على مشكلة البطالة من جذورها.
ولا أنكر أن هذه الإجابة على سطحيتها، وخروجها بعيداً عن قواعد المنطق، إلا أنها كانت إجابة في إطار ‘كردون السؤال’، فهناك إجابات بدت منبتة الصلة بالسؤال المطروح، وهناك إجابات أخرى بدت ككلمات متقاطعة، ذكرتنا بالفنان سعيد صالح وهو يقول ليونس شلبي في احدى المسرحيات: ‘أريد جملة مفيدة’.
تداعي الذكريات
لا أدري لماذا تذكرت البرنامج التلفزيوني القديم الذي كان يقدمه الفنان أحمد حلمي والذي كانت فكرته تقوم على توجيه أسئلة كبرى للأطفال، وما يجيبون به خارج الموضوع هو ما ميز برنامجه، الذي كان سبباً في شهرته وانتقاله ليعمل بالتمثيل!
أحمد حلمي كان يسأل أحد الأطفال عن رأيه مثلاً في أزمة ثقب الأوزون، فتكون إجابته أن أمه رفضت أن تشتري له كرة، في حين أنها اشترت لشقيقته الكبرى واحدة. وقد يسأله حلمي عن ما تفعله الدول الكبرى لمواجهة التغييرات المناخية؟ فيكون جوابه بأنه يتمنى عندما يكبر أن يكون ضابطاً يلقي القبض على اللصوص!
لا أعرف سبباً لتداعي الذكريات هنا، فلا أسئلة لميس وإبراهيم عيسى بعمق أسئلة أحمد حلمي، ولا الإجابات تحمل معاني فلسفية في ‘بطن الطفل’.
ما علينا فبعض إجابات السيسي ذكرتني بأحد رؤساء تحرير الصحف المصرية في بداية حياتي الصحفية. يبدو أنه يوم الذكريات، وهذه احدى عيوب ‘الغُربة القسرية’ التي لم يُخطط لها، وفي هذه المرحلة العمرية، وأنا من المؤمنين بأن الغربة إن لم تكن في سن مبكرة لا يمكن تلافي عيوبها، وعلى رأس هذه العيوب هو تداعي الذكريات، فيستدعي المغترب أموراً خارج إطار الموضوع المطروح. كما تذكرت برنامج أحمد حلمي مع الأطفال وأنا أشاهد السيسي يتكلم!
كانت جلستنا في مكتب رئيس التحرير، وقد بدأ كل واحد يتحدث عن سفرياته للخارج، والبلاد التي زارها، من باب الفخر. ولم يكن رئيس التحرير قد غادر الأجواء المصرية، لكنه أعلن أنه سبق له السفر إلى ألمانيا، ولما لم يكن هناك مشاهدات يمكن أن يتلوها على أسماعنا فيثيرنا، فقد قال محتشداً وكأنه اكتشف علاج الايدز ‘بإصبع الكفتة’.. ‘ألمانيا شوارعها نظيفة جداً’.
هذا الحديث حضر على سطح الذاكرة، عندما لمعت عين لميس من خلف النضارة، وهي تسأل عبد الفتاح السيسي على طريقة: أين ترعرعت سيدتي؟! وهو سؤال الصحافي في فيلم ‘سيدتي الجميلة’، الذي صور لنا الصحافي وهو يجري خلف نجمات السينما وسؤاله الأثير: ‘ أين ترعرعت سيدتي’.
لمعان العيون
هذه الإجابات الهلامية، تؤكد أن الرجل لم يكن محتكاً بمجتمعه، أو متأثراً به، وهو أمر يجعله الأقرب إلى طبيعة مبارك، على العكس مثلاً من الرئيس السادات.
التأثر المفتعل ظهر على وجه السيسي، وهو يتحدث عن السيدة زوجته، وقد أخذ شهيقاً رده إلى زفير، قبل أن يتكلم، وهو مشهد يليق بلحظة تذكر الزوجة التي ماتت وهي تستذكر الدروس لابنها.
لمعت عينا لميس، وهي تطرح السؤال السابق العميق ذي البعد البؤري، عن المكان الذي ‘ترعرع فيه السيسي’ وهي التي كانت طوال الوقت تلعب بمؤثرات العيون عندما تلمع، ولم يكن لمعان المندهش، وإنما كانت لمعة الممثلة غير المحترفة، لتذكرنا ونحن في حديث الذكريات، بحالة مفيد فوزي وهو يمارس ‘الشحتفة’ مع مبارك في مقابلة على التلفزيون المصري.
– تسمح لي يا أفندم أسألك؟
لم يساعده مبارك في مهمته، وإنما تعامل ببلاهة كانت تميزه بين أقرانه في عالم البشر.
– اسأل يا مفيد.
فيعود مفيد إلى حالته الأولى ‘متشحتفاً’.
– سؤال محرج يا أفندم.
لكن مبارك، لم يستشعر جلال الموقف، لتعطل حاسة الإدراك عنده، ولنقص في الكالسيوم تسبب في ليونة عظام عقله فكان تعليقه:-
– اسأل يا مفيد وخلصنا.
‘ يتشحتف’ مفيد فوزي من جديد وهو يقول لمبارك:
– أريد الأمان يا ريس!
وهنا تبرم مبارك وبدا ليس قادراً على تحمل هذا المشهد التمثيلي، الذي تم الاتفاق عليه، فقد فاض به الكيل، وربما لم يكن مبارك مؤهلا لأن يمثل.
– اسأل يا مفيد!
وهنا يحتشد مفيد عاطفياً وتلمع عيناه ويسأل مبارك:
– حضرتك بتلاعب حفيدك؟!
فيجيب مبارك بلا مبالاة، بعيداً عن هذه المؤثرات التي صنعها مفيد، وهذا الجو المشحون بالعاطفة الجياشة.
– ايوه.. زي أي واحد!
لا أظن أن السيسي يمكن أن يتحمل هذا الجو، لأنه سيولد إجابات ‘ مزيكا’، بعيدة عن العمق. وفي اعتقادي أن لميس والجار بالجنب إبراهيم عيسي كانا يعدان الدقائق حتى ينته هذا الحوار على خير، فيجدون فيه ما يستحق البث، لاسيما وأنه لم يكن على الهواء مباشرة، فقد كان مسجلاً وبعد مونتاج، ومع هذا جاء المتفق على بثه متهافتاً ويشبه التسريبات. فما هو الكلام الذي تم حذفه يا الهي؟!
قرار العبور
لا يليق بمرشح رئاسي أن تكون كل انجازاته على المستوى الشخصي، والمستوى المهني أنه تزوج.. فقد بدا صاحبهم للناظرين، وهو يلوح بسبابته في حسم، من أنه خطب وهو طالب ثم تزوج بعد التخرج مباشرة. كما لو كان في حسمه وتلويحه اتخذ قرار العبور!
مبارك وجدوا له في عمل من أعمال الوظيفة، بحسب تعبير هيكل، وهو الخاص بالضربة الجوية، ما ينفخون فيه، ويصنعون له منه تاريخا.. أما صاحبنا فان انجازه الجبار يتمثل في أنه تزوج. وبطريقة في الأداء تساوي بين القرار الحاسم بالزواج، وقرار الحرب. وباعتبار أن من تزوج فقد انتصر في موقعة اليرموك!
في إطار الإجابات المتواضعة، على الأسئلة الموحية، سئل السيسي إن كان يضع صورة جمال عبد الناصر على جدران منزله. فقال كلاماً هائماً عن أن صوره محفورة في وجدان الناس.
وعندما سئل عن أن البعض يقدمه على أنه عبد الناصر: أجاب هذا كثير ويا رب أكون كده!
عبد الناصر كان مشروعه يقوم على الانحياز للفقراء والوقوف ضد هيمنة أمريكا وإسرائيل. والسيسي يقول إن الأمريكان يؤيدونه رئيساً. وإسرائيل ترى أنه الأفضل من حسني مبارك ‘كنزهم الاستراتيجي’. أما الفقراء، فهم وحدهم المنوط بهم تحمل فاتورة الانهيار الاقتصادي على يد السيسي، بتقسيم رغيف الخبز إلى أربعة. مع أن الشيء الذي لا يقبل القسمة على اثنين، هو رغيف الخبز في مصر، لأنه صار لا يُرى بالعين المجردة لصغر حجمه.
سليم عزوز
صحافي من مصر