لا تُذكر قطر إلا وقناة “الجزيرة” معها.
والحال، فان هناك الكثير من المنطق وراء القول القائل إن “الجزيرة” هي التي جعلت من قطر مركزا ذا معنى في الإعلام وفي المكانة.
هناك شيء آخر لا يقل أهمية عن ما يبدو وكأنه “اختراع بلد” عبر شاشة محطة فضائية.
لقد كان لتلك القناة سبق الفضل الأول، بأنها أخرجت الكلام الذي كان يقال همسا، الى العلن.
للمرة الأولى، اصبحت الخلافات تصدح. وللمرة الأولى، أصبح الجدل مكشوفا. وللمرة الأولى أصبح للحقيقة وجهان. وللمرة الأولى، صار الإعلام سباقا نحو الخبر، بالصوت والصورة. وبدلا من القالب الخشبي للإعلام الرسمي (الذي ظل يرزح تحت القيود والكليشهات المقدسة) فقد اصبح الإعلام حار اللغة، و… للمرة الأولى لم يعد للرقابة ما تفعله، فخرجت مع الجمهور لتسمع ما كانت تدفنه.
كل هذا صحيح.
لقد كانت “الجزيرة” تستحق، بالجرأة على كشف المستور، وباطلاق العنان للمسكوت عنه، أن تحتل المكانة الأرقى بين كل وسائل الإعلام العربية. وظلت تملك التاج، حتى بعدما نشأت محطات أخرى حاولت أن تنافسها فيما ذهبت اليه.
ولكن!
شيءٌ واحدٌ ظل ناقصا.
شيءٌ واحدٌ، حوّل كل ذلك السبق الى رماد. وأطاح بالتاج، وجعله تاجَ خشبٍ لا أكثر.
شيءٌ كان كل المعنى من وجود هذه القناة يكمن خلفه. ولما اكتشفنا أن غيابه مقصودٌ، عيناً وليس سهوا، صار من الواضح أن لهذه المحطة دور آخر؛ دور لا قيمة فيه. يقصد اثارة الضجيج، حتى اصبحت القناة، مجرد ظاهرة صوتية أخرى.
سأحاول تبسيط الأمر.
جميلٌ أن نتجادل. وجميلٌ أن نكشف عن خلافاتنا واختلافاتنا. وجميل أن نُعرّي عيوبنا. بل وجميل أن نُعرّي صمتنا بشأنها.
هذا يشكل نصف المعادلة.
ولكن: من أجل ماذا نتجادل؟
في الإجابة على هذا السؤال يتحدد نصف المعادلة الآخر. وفي هذا النصف بالذات يتحدد ما إذا كان تاج “الجزيرة” تاجا من ذهب، أو خشبا مطليا بماء الترهات.
لقد اختارت “الجزيرة” أن تجعل من الضوضاء مكسبا اعلاميا. ونجحت. ولكنها فشلت في توظيف تلك الضوضاء في اتجاه بناء،.. أي اتجاه.
بيوتنا، قبل نثير ضجيج الاختلاف المعلن، كانت منخورة بفساد الصمت والطغيان. وكان من الواجب أن نهدم المعبد. ولكن، ألم يكن من المنطقي بعد هذا، أن نعيد بناء معبد آخر، وفقا لفلسفة ما تلائم العصر؟
لا أريد أن أحدد شيئا من مفضلاتي الشخصية للفلسفة. كان يكفي أن يكون لأصحاب الدار فلسفتهم، التي يضعون من أجلها حجر بناء فوق ما نهدمه من حجر الطغيان.
فماذا اختاروا؟
لقد اختاروا الاكتفاء بالضجيج. وحولوه من صراع أفكار وخيارات وبدائل، الى صراع شتائم وعراك وضرب بالأحذية.
وعندما تحاول أن تتأمل، لماذا اختار رعاة هذه القناة أن يتوفقوا عند حدود تبادل الضرب بالأحذية (أو بالكلام الذي يشبه تبادل الأحذية)، فانك سرعان ما سوف تكتشف السبب.
لقد كانت فلسفة “الجزيرة” هي هذه على وجه التحديد: أن نتصارع، أن نهدم، وأن نتشاتم، وأن نجعل التعايش مستحيلا بين الفكرة والفكرة. إنما لكي تغذي فكرة التخريب والقتل وإشاعة الفوضى، والعجز عن التوافق على أي شيء.
وهذا ما لا علاقة له بأي ديمقراطية.
الديمقراطية مشروع تعايش وبناء. انها مشروع لأرض مشتركة بين الرأي والرأي الآخر. وليست مشروعا للقذف والشتم. كما أنها ليست مشروعا للتناحرات “الفضائية” التي تنعكس الى تناحرات دموية في الميدان. إنها اتجاه مشترك نحو هدف عقلاني ما. وليست صراعا بيزنطيا في لا اتجاه.
لقد تم صنع “الجزيرة” لتحقق ما حققت. ومن ثم لتقف في مكانها الفوضوي بالذات، باعتباره خيارا مقصودا بذاته، لكي تكون منبرا للتناحرات، وممثلا للجدل الفارغ.
ولم يمض وقت طويل، حتى بات واضحا أنها اصبحت منبرا رسميا للاخوان المسلمين، لأن هذه العصابة المافياوية كانت هي “المرشد” الذي سيأخذنا الى التمزق والتفتيت؛ هي “مكتب الإرشاد” الماسوني الذي سيكفل جعل التناحرات حربا أهلية تدور في كل بيت، بين المسلم والمسلم، كما بين المسلم والمسيحي (ودع اليهودي، فهذا مقدس، بالنسبة للماسونية الصهيونية التي يمثلها مكتب الارشاد الدولي).
ولكن، ما السبب وراء ذلك؟
الفكرة بسيطة للغاية.
وطنيا كنت أم قوميا، فان صراعك التقليدي هو مع “الآخر” (الخارجي). والآخر هذا هو إما أن يكون الاستعمار أو الامبريالية أو الصهيونية، أو كلها مجتمعة.
منذ نشأة إسرائيل، ونحن نتصارع مع عدو خارجي. ومنذ حاولنا الاستقلال، ونحن نتصارع من اجل حمايته، مع عدو خارجي.
طبعا، أخطأنا كثيرا في كل وجه من وجوه هذا الصراع، ولكن الخارج ظل في الخارج، وبقينا نحاول أن نجد سبيلا لكي نتوحد (على أسس أفضل) ضده، من اجل مصلحة أوطاننا.
ولكن، جاء الإسلام السياسي ليطرح علينا عدوا من نوع مختلف. انه “الآخر” (الداخلي)؛ الآخر الذي يُصلي ضد “الآخر” الذي لا يُصلي؛ الآخر الذي يصوم ضد “الآخر” الذي لا يصوم، أو الآخر الذي يلبس الحجاب ضد الآخر الذي لا يلبس الحجاب… وهكذا.
لقد كان الهدف من نقل المعركة الى (الداخل) هو حماية إسرائيل. واتاحة الفرصة لها لكي تتفرج على “أمراء الطوائف” كيف يتناحرون.
وما أكثر فقهاء الزور والبهتان المؤهلون لنقل الحرب الى الداخل!
لقد وُجدت “الجزيرة” لكي تكون جزءا من هذا المشروع الذي ظهر الاخوان المسلمون ليكونوا رأس الحربة فيه.
وبالنظر الى خارطة “الشرق الأوسط الجديد” فان مشروع “الفوضى الخلاقة”، كان بحاجة الى منبر للفوضى التي يتبادل المتحاورون فيها الشتائم، لا الأفكار. وبدلا من البحث عن أرضية مشتركة للعيش المشترك، فقد كان من طبيعة “الجزيرة” ومن واجبها “الاخواني” هدم الأرض وتخريب المكان.
ودافعت قطر عن دور “الجزيرة” الفضائي، لأن مشروع التخريب و”التصغير” صار مشروعها الأوحد، حتى بات من الصعب التمييز ما إذا كانت قطر هي “الجزيرة” أو ما إذا كانت “الجزيرة” هي قطر.
وهذه، مأساة وطنية حقيقية؛ مأساة تكاد تبلغ حد الإهانة. لأن الأوطان لا يمكنها أن تصغر الى هذا الحد.
الشيء الذي لم تعرفه قطر عن نفسها، هو أنها تخسر إذا قدمت نفسها كبرنامج فضائي، وتخسر أكثر إذا كان هذا البرنامج من انتاجها. ليس لأنه فضيحة سياسية. بل لأنه فضيحة سوء فهم حقيقي لمعنى التاريخ وللوسائل التي تحركه.
لو كانت البلدان تنشأ، في القيمة والدور والمكانة، من وراء محطات فضائية، فان الأمم المتحدة كان يجب أن تكون قمرا صناعيا.
ولو كانت قطر تعول على قناة تلفزيونية لكي تغير مجرى التاريخ، في مجتمعات عميقة التاريخ، وعميقة الثقافات، فيحسن بها، أن تعود لتفهم.
فالتاريخ والمجتمعات لا يتحركان عبر التلفزيون.
وظيفة التلفزيون المثالية هي الإخبار والتنوير والتسلية. وليس الترويج لفوضى أو إرهاب أو زرع تناحرات من أجل التناحرات، ولا حتى لثورات. لأن الثورات، مهما كانت طبيعتها، تحتاج أن تعود لتستقر على أرض الثقافة التي تنشأ فيها. ولكي نصنع ثورة عبر التلفزيون وتصمد، فيجب ان تتغير الثقافة أولا، وأن تصمد أمام امتحان التاريخ.
لو كان التاريخ يتحرك عبر الفضائيات، لكانت “سي.أن.أن” و”بي.بي.سي” و”سكاي نيوز” كافية تماما لاختراع كوكب آخر، “على قد” الرؤية العنصرية والاستعلائية للغرب “الديمقراطي”؛ كوكب لا “جزيرة” فيه، ولا قطر.
علي الصراف، كاتب وصحافي عراقي، ومدير قناة “أي.أن.أن”