بغداد (رويترز) : حين سيطر مسلحون سنة على بلدة بهرز في أواخر الشهر الماضي مكثوا فيها بضع ساعات. وفي صباح اليوم التالي وبعد أن رحلوا عن البلدة وصلت قوات أمن عراقية وعشرات من مقاتلي ميليشيا شيعية وتحركوا من منزل إلى منزل بحثا عن أي مسلحين سنة أو متعاطفين معهم في هذه المنطقة الريفية التي يكسوها النخيل وبساتين البرتقال.
ويروي شيوخ قبائل شيعة وشاهدا عيان وسياسيون حكايات مروعة عما حدث بعد ذلك. وقال رجل “كان هناك رجال يرتدون ملابس مدنية جاءوا على متن دراجات نارية يصرخون: علي معاك” في إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب. وأضاف “بدأ الناس بالهرب من منازلهم تاركين وراءهم كبار السن والشباب وكذلك من رفض الهرب. قامت الميليشيات بعد ذلك باقتحام المنازل. اصطحبوا الشباب بالقوة وقاموا بإعدامهم فورا.”
وحولت هذه الأحداث البلدة الواقعة على بعد 35 ميلا شمال شرقي بغداد إلى خط مواجهة في حرب طائفية تتجمع نذرها في أفق العراق. وفي بهرز وفي قرى وبلدات أخرى في محيط العاصمة تدور معركة ضارية بين الدولة الإسلامية في العراق والشام تلك الجماعة السنية المتطرفة التي تقود تمردا دمويا حول بغداد منذ أكثر من عام- وبين قوات الأمن العراقية التي استعانت في الشهور الأخيرة بميليشيات شيعية للقيام بمهمة قوات الطليعة.
وقبيل الانتخابات العامة في 30 أبريل نيسان ينزلق العراق بوتيرة سريعة مرة أخرى إلى تلك الأحداث المروعة التي شهدها في الماضي القريب. ويخشى مسؤولو الأمن وشيوخ القبائل والسياسيون أن تعيث الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) فسادا في العاصمة كما سبق وأن فعلت الجماعة التي انبثقت عنها في الأعوام التي أعقبت الغزو الأمريكي. حينها كان متطرفون سنة ينفذون تفجيرات متعددة بسيارات ملغومة في بغداد بصورة يومية تقريبا وكانوا يقتلون الشيعة بلا مانع ولا رادع.
والانتخابات المقررة هذا الشهر بما تنطوي عليه من تنافس على تشكيل حكومة جديدة ستتيح أرضا خصبة للنزاع في ظل وجود عدد من القوائم الشيعية التي تتنافس على رئاسة الوزراء ومع تطلع السنة والأكراد لاقتناص مناصب كبرى واعتزام رئيس الوزراء نوري المالكي البقاء في منصبه.
والاعتدال سمة نادرة حتى أن بعض الساسة السنة ينكرون وجود تنظيم الدولة الاسلامية في الأنبار ويلقون باللائمة في كل الاضطرابات الحادثة هناك على المالكي حتى وإن كان هذا يعني استمرار انتشار الجماعة.
وفي المقابل انضمت ميليشيات إلى مهام الجيش العراقي القتالية ضد المسلحين وأرسلت مقاتلين لمحاربة المسلحين السنة في سوريا.
* أبناء العراق
عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله من الجماعات التي قمعها الجيش الأمريكي يوما ودعمها الإيرانيون. وهما تشكلان معظم مقاتلي الميليشيات الشيعية التي تساعد قوات الأمن العراقية. وقال ثلاثة سياسيين شيعة كبار إن أعضاء في عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وآخرين يدافعون عن بغداد الآن في إطار تنظيم مرتبط بالمكتب العسكري لرئيس الوزراء ويطلق عليه اسم أبناء العراق وهو اسم ارتبط في السابق بالسنة الذين قاتلوا تنظيم القاعدة.
وعقد المالكي اجتماعا مع سياسسين شيعة كبار في السابع من أبريل نيسان لبحث الحرب مع الدولة الإسلامية في العراق والشام وأطلع رئيس الوزراء الحضور بشأن الجماعة شبه العسكرية الجديدة وعبر عن خيبة أمله من أداء الجيش في البلدات والمدن استنادا إلى اثنين من الأشخاص كانا حاضرين في الاجتماع.
وقال المالكي إنه تم تشكيل جماعات “من المجاهدين وأبناء العراق … في حزام بغداد” ووصف المقاتلين بأنهم “أفضل من الجيش” في “حرب العصابات” وذلك وفقا لوقائع الاجتماع التي تليت على رويترز وأكدها شخص ثان حضر الجلسة.
وحضر النائب الشيعي أمير الكناني -وهو من منتقدي المالكي- الجلسة وقال إن الجماعة القائمة منذ عام تشكلت في الأساس من كوادر في عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله.
وقال “لقد قاموا بتنفيذ مهام عديدة في حزام بغداد وديالى. قاموا بتنفيذ عمليات نوعية هناك في بهرز.” وأضاف “إنهم مجاهدون مستعدون للموت.” ووصف آخرون المبادرة بأنها مسعى لإدماج المتشددين الشيعة المسلحين في الدولة.
ونفى المتحدث باسم المالكي وجود أي ميليشيات تقاتل لحساب الحكومة أو تنتمي لتنظيم جديد يرفع تقاريره إليه. وقال المتحدث علي الموسوي “نحن نطلق على هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم من اجل قتل الاخرين الانتحاريين وليسوا استشهاديين. لا يوجد لدينا شيء مثل ذلك.”
كما نفى العميد سعد معن المتحدث باسم وزارة الداخلية وعمليات الأمن في محافظة بغداد هذه الروايات. وقال “هذه ادعاءات كاذبة وليس لها أساس من الصحة يقوم بإطلاقها هؤلاء الذين أغاظتهم انتصارات قواتنا المسلحة.”
كذلك نفت عصائب أهل الحق قيامها بمثل هذا الدور. لكن ضباط أمن وشخصيات سياسية وسكانا من السنة يقدمون رواية مختلفة.
ذكر مقاتل متطوع قال إن اسمه عباس أنه انضم لجماعة أبناء العراق الجديدة وقاتل لثلاثة أشهر في أبو غريب. وقال إن كتيبته كانت ترفع تقاريرها إلى مدير مكتب رئيس الوزراء. وأضاف “كلنا من المذهب الشيعي. الناس يرحبون بنا عندما يعلمون أننا شيعة وأننا جئنا لتحريرهم وقتال تنظيم الدولة الاسلامية.”
وقال الشخص الذي قدم عباس إن هذا المقاتل المتطوع ينتمي لعصائب أهل الحق لكنه قال إنه مجرد متطوع من بين 750 آخرين معظمهم شبان شيعة من محيط غرب بغداد.
وأضاف أنه كان يتم جمع الرجال في قاعدة جوية بغرب بغداد ثم تسليمهم ملابس عسكرية وبنادق إم-16 ثم دفعهم للقتال ضمن كتيبة من 750 فردا حول منطقة الزيدان إلى الغرب من بغداد وفي اللطيفية جنوبي العاصمة.
وقال إن آخرين ابتعدوا حين لم تدفع لهم الحكومة شيئا بعد ثلاثة أشهر لكنه كان يتحدث بفخر عن العمليات القتالية.
مضى قائلا “عندما نجدهم داخل منزل نقوم بقتلهم. بعد ذلك نقوم بتدمير المنزل أو حرقه. قمنا بحرق تلك المنازل لكي لا تكون مأوى للإرهابيين.” وقدر عدد المنازل التي دمروها بنحو 25 أو 26 منزلا.
* لا أسرى حرب
حين توقف القتال في بهرز أحصى السكان ورئيس بلدية بعقوبة المجاورة 23 قتيلا على الأقل. وقال مسؤولون شيعة بالمنطقة إن الإرهابيين كانوا يقتلون أي مدنيين.
وأكد الكناني موت أبرياء في بهرز على أيدي ميليشيا أبناء العراق الشيعية لكنه وصف ذلك بأنه ضريبة طرد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من المنطقة. وقال “نعم.. بالطبع قتل مدنيون. أنا لا أدافع عن عمليات القتل. تنظيم الدولة الإسلامية يقتل الناس. إنهم يقتلون حتى السنة.” وأضاف “عندما يدخل أبناء العراق أي منطقة فإنهم يفكرون فقط بقتل أفراد التنظيم. لذلك لم يكن هناك أي أسرى حرب.”
ويشعر شيعة آخرون بالهلع لما حدث ويتملكهم التشوش إزاء كيفية مواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية التي يخشون الآن أن تسحقهم.
ويقول الكناني وساسة آخرون وشخصيات قبلية إن الجيش يستعين الآن بميليشيات شيعية حول حزام بغداد للتصدي للتمرد بعد ازدياد حالات الهروب وتفكك بعض وحداته. وفي الآونة الأخيرة قاتلت الجماعات في منطقة زراعية اسمها إبراهيم بن علي تبعد 25 كيلومترا عن بغداد. وإذا سقطت المنطقة سيكون لداعش موطيء قدم في أجزاء شيعية من العاصمة.
* الطوفان
تدهور الأمن سريعا على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة. وفي ديسمبر كانون الأول أطلق المالكي حملة تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في معقلها غربي بغداد. وتحول القتال إلى سلسلة أعمال وحشية كثيرا ما ظهرت في تسجيلات فيديو وفي صور فوتوغرافية التقطها مسلحون أو جنود عراقيون.
ويقول جنود عراقيون إنهم حوصروا في مدينة الرمادي الغربية وحولها. ويقولون إنهم يفتقرون لقذائف الدبابات ولغطاء جوي وعربات مدرعة ويسقط منهم عدد كبير من القتلى كما أن معدلات الانشقاق عالية.
وفي مارس آذار وأبريل نيسان سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على سد في الفلوجة وأغرق أراضي زراعية على مشارف بغداد في أبو غريب وجفف فروع نهر الفرات. وأفرغت الحكومة العراقية السجن الرئيسي للمحتجزين السنة في أبوغريب بسبب الاشتباكات المستمرة وقصف مسلحون يعتقد أنهم من التنظيم خط أنابيب النفط الواصل لتركيا.
وفي الأسبوع الماضي استخدم ضابط مخابرات يتركز عمله على الأنبار خريطة كي يوضح لرويترز كيف أن تنظيم الدولة الاسلامية يتمتع بحرية الحركة من الصحراء الواقعة بغرب الأنبار إلى حدود محافظتي الحلة وكربلاء الشيعيتين وعبر محافظات الموصل وكركوك وصلاح الدين بالشمال. وفي الأنبار تسبب القتال في نزوح 430 ألف شخص على الأقل عن ديارهم. ويشعر المواطنون العاديون بأن الحكومة أعلنت الحرب عليهم.
* الجيش
الأمر لم يكن أقل دمارا بالنسبة للجيش. ويقول عسكريون ومسؤولون عراقيون إن عدة آلاف من الجنود انشقوا عن صفوف الجيش وإن ما يزيد عن الألف قتلوا. ولم تعلن الحكومة أرقاما رسمية بعد.
ويتحدث جنود في الأنبار بنبرة إحباط. قال جندي من الرمادي “لقد تخلى عنا قادتنا العسكريون ورموا بنا في تلك المنازل المهجورة وسط المزارع بدون ذخيرة كافية.. بدون نواظير ليلية.”
وتضم كتيبته الآن 120 جنديا من أصل 750 جنديا وذلك بعد أن هجر معظمهم الخدمة. وهو يقول إنه سيفعل نفس الشيء.
وقال ضابط بالجيش إن القوات العراقية الخاصة التي قادت القتال ضد المسلحين تتخذ الآن مواقع دفاعية لتفادي سقوط مزيد من القتلى.
وألقى بقدر من المسؤولية على الفساد داخل الجيش العراقي والذي قال إنه يبدأ “من أخذ مبالغ من مخصصات الطعام.. مبالغ من مخصصات تصليح وإدامة عربات الهمر والمدرعات وأخيرا بيع جزء من الوقود المخصص لكل فوج.”
حتى مناصب القيادة للمناطق باتت معروضة للبيع الآن حسبما قال قائد عسكري كبير في بغداد. روى قصة عرض قيادة منطقة عسكرية بشمال العراق على أحد نظرائه للبيع مقابل مليون دولار على أن يسدد المبلغ على سنتين. وحين استفسر القائد العسكري من أين يجمع كل هذا المال قيل له إن بإمكانه القيام بتحصيل رسوم حماية من رجال الأعمال المحليين ورسما من الشاحنات على نقاط التفتيش في الطرق السريعة. وعليه أن يسعى لسداد 50 ألف دولار كل شهر.
ونفى العميد معن هذه الأقاويل ووصفها بأنها “أكاذيب واتهامات لا أساس لها من الصحة.”
وفي محافظة صلاح الدين يظهر تنظيم الدولة الاسلامية في قلب عمليات احتيال لجمع المال. نقاط تفتيش وهمية على الطرق ورجال في ملابس عسكرية يبدون استعدادا لقتل أي فرد من قوات الأمن. وأظهر تسجيل مصور نشره التنظيم الشهر الماضي رجالا في ملابس الشرطة وهم يمسكون بمسلح سني مؤيد للحكومة. وعلا صوت أحد أفراد داعش متفاخرا “إنكم تقومون باعتقال قادتنا ونحن ندفع الدولارات لتحريرهم. لكن عندما نمسك بكم نقوم بذبحكم.”