قطر، هذا البلد الرائع، ذو الشعب الطيب، وذو الامكانيات الخلاقة والأفق المفتوح، تعاني من عقدة نفسية لا مبرر لها، ولا أساس لها، ولا تعدو كونها وهما. ولكنها عندما أصيبت بوهم تلك العقدة، فقد حاولت معالجتها بما هو أسوأ من المرض نفسه.
والمأساة الحقيقية، هي أن الكلفة الإنسانية الناجمة عن تلك العُقدة، لا تقتصر في عواقبها على قطر وحدها، لانها قد تعني تدميرا لبلدان، وقتلا وتهجيرا للملايين، وخرابا يمكن أن تدوم عواقبه الى الأبد.
أما المرض، فانه “عُقدة الصِغر”. فقطر تشعر انها بلد صغير ليس جغرافيا فحسب، بل ومعنويا أيضا.
هذه العقدة تمنح من يعاني منها الشعور بأن الآخرين ينظرون اليه إنطلاقا منها. أي أنهم يستصغرونه، ويستهينيون به بسبب حجمه.
وأقول: هونغ كونغ أصغر! ولكنها لا تعاني من عقدة الصغر. وحتى عندما تم ضمها الى الصين، فقد ظلت تشعر انها غنية وقوية وحيوية وكبيرة بما لديها من إمكانيات (بشرية بالدرجة الأولى).
أما عقدة الصِغر فكثيرا ما تدفع من يعاني منها الى المبالغة في لبس أثواب أكبر منه. فيتعثر بما يلبس.
والمبالغة في رد الفعل حيال هذه العقدة، تعكس في الواقع، حجم الشعور، وعمقه. أي أن المرء كلما بالغ في تصور انه صغير، فانه يبالغ في الاعتقاد بأنه قادر على أن يقلب عالي الكون سافله. والسبب يعود الى انه يعاني من اعتقاد دفين وجارح، يلح عليه، بانه صغير.
وكأي مرض نفسي، فانه ينطوي على أوهام وعلى تصورات مبالغ فيها.
قطر بلد رائع. وشعبها شعب جميل، ووديع، وينتسب الى قيم أخلاقية رفيعة. وليس في أسرتها الحاكمة ما يدعو الى القلق. بالعكس تماما. الله يبارك بالخير لأهل الخير فيهم. فلطالما تبنت قطر في السابق، بفضل تلك الأسرة، وبفضل إرثها المديد، خيارات سياسية واستراتيجية سليمة، وتبنت مواقف نبيلة، وسعت الى بذل الكثير من أجل خدمة قضايا الإجماع العربي.
باختصار: لم تكن قطر إلا شريكا عربيا طيبا، حينما كانت تؤمن بنفسها، وتثق بمكانتها، وتحترم نسبها ومرجعيتها.
ولكنها اليوم، إذ تندفع لمعالجة وهم، فإنها تجبرنا نحن لكي ندفع الثمن. هي تدفع بالمال، ونحن ندفع بالمصائر وخراب الحال. وذلك بسبب اندفاعها الهستيري لاعادة ترتيب الخرائط في المنطقة لكي تتناسب دولها الجديدة مع حجمها هي.
حاكم ما، أو طاغية ما، ربما كان العقيد معمر القذافي، هو الذي أوقع قطر في حفرة تلك العُقدة، فأورثها مشاعر النقص. فهو بتفاهته وسطحية منطقه، عاب على قطر صغرها. فثارت ثائرة الغضب في الدوحة، حتى تحول الغضب الى استراتيجية تدمير جماعي لكل من يعتقد انه “كبير”.
الفكرةُ الحاكمةُ للغضب كانت تقول: كلكم صغار. وكلكم قابلٌ للتمزيق لكي تعودوا قبائل متنازعة لا يملك أي منها إلا قطع أرض أصغر من قطر.
ولقد توافقت هذه الفكرة المجنونة مع منعطفين كبيرين:
الأول، اكتشاف حقول غاز تجعل من قطر واحدة من اغنى دول العالم (قياسا بعدد السكان)، فوجدت نفسها تملك فائضا ماليا هائلا يمكنها أن تنفقه لتصفية الحساب مع كل عُقد النقص!
والثاني، قيام خبراء الخبث في الولايات المتحدة بطرح استراتيجية “الفوضى الخلاقة”. وهي الاستراتيجية التي انبنت فوقها الخارطة المسماة “الشرق الأوسط الجديد”، الذي صممه الصهاينة الجدد بين واشنطن وتل أبيب والدوحة، لكي تنشأ دويلات متصارعة في محل كل الدول المعروفة الآن.
فوافق شنٌّ طبقه! واعني، تطابقت عقدةُ النقص القطرية مع المصالح الاستراتيجية الصهيونية لتخريب كل المنطقة، وتحويل كل دولة فيها الى عراق آخر، تتنازع فيه الطوائف، وتتناحر المكونات، وتصبح مستنقعا مفتوحا للفساد والفوضى والإرهاب،… وكل هذا، بإسم “الديمقراطية” طبعا!
فمضى الأمر هكذا: جاءت عقدة النقص لتجد من يحولها الى مشروع استراتيجي للمنطقة بأسرها. ووجدت قطر انها قادرة على تمويل هذا المشروع!
وبدلا من أن تخطط قطر، بما لديها من مال، لتجعل من المنطقة أقوى وأكبر، فقد خططت لكي تجعلها أضعف وأصغر!
ولم يكن هذا التخطيط الظالم، إلا وعدا بتدمير شعوب بأسرها، يتفاقم ليدمر حياة ملايين البشر، وينشر في أوطانهم خرابا له أول وليس له آخر.
وكأي مشروع كبير، فانه كان بحاجة الى أداة تنفيذ ظلامية تلائم طبيعته.
هنا برز الاخوان المسلمون، بوصفهم القوة المثالية التي يمكنها أن تحقق الهدف. فهم قوة داخلية منظمة في العديد من البلدان المؤهلة للتمزيق. كما أنهم قوة تتبع جهاز مافيا دولي يمكن التحكم فيه. وهم قوة لها تاريخ متجذر في العمالة للاستعمار (الانجلوساكسوني خاصة). وهم يقدمون غطاء دينيا كافيا لأي هدف، مهما كانت طبيعته الإجرامية (ذلك أن كل ما يصدر عنهم يمكن أن يُقدم على أنه إرادة ربانية. كما أن كل كارثة من ثمار أعمالهم، يمكن أن تُفسر على أنها قدر من أقدار الله، وليس مؤامرة للصهاينة الجدد).
هذا هو السبب الذي جعل الدوحة تتمسك بدعم الاخوان المسلمين، وتموّل إرهابهم في مصر وسوريا والعراق والسعودية واليمن والإمارات والبحرين.
وكأن لسان حالها يقول: لن ينجو من عُقدة الصِغر أحد، والكل يجب أن يدفع الثمن.
إنما بلا مبرر! هكذا، شعوب تذهب، وأوطان تنفجر، ببلاش! بسبب انطباع مجنون، لا أكثر.
…
قطر، مع ذلك، ليست صغيرة أبدا. وما من بلد في الدنيا صغير أصلا.
الأوطان بالخير تكبر. ولكنها بالشر تصغر.
أقول هذا، لعل صدور الغل تشفى بالعلاج الصحيح. فالاخوان لا يمكنهم أن يكونوا علاجا لمرض من أمراض الوهم، لأنهم مرضٌ أسوأ وأخطر!
وأقول هذا، لعل الدوحة تدرك أو تستدرك، أن مشروع تفتيت المنطقة لتصغيرها، لن ينقلب إلا وبالا عليها أيضا، ويزيد الطين بلّة!
علي الصراف، كاتب وصحافي عراقي، ومدير قناة “أي.أن.أن”