كتب “دكستر فيلكنز” (Dexter Filkins) مقالا مطولا من العراق نشرته مجلة “نيويوركر” عما خلفه الاحتلال الأمريكي للعراق وراءه: زعيم استبدادي، عودة العنف الطائفي وأمة قلقة بشأن مستقبلها.
ـــــ 1 ـــــــ
في الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء نوري المالكي لولاية ثالثة، يخشى الكثير من العراقيين حربا أهلية أخرى، ويرى أن المالكي هو المسؤول.
في يوم عيد ميلاد العام الماضي، كما استهل الكاتب مقاله، ظهر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على شاشات التلفاز العراقي راجيا للأقلية المسيحية التي فر أفرادها بالآلاف منذ الغزو الأميركي في عام 2003، عطلة سعيدة.
بعد أن أمضى جزءا كبيرا من حياته مطاردا من قبل القتلة، يعطي المالكي انطباعا عن نفسه كما لو أنه الرجل الذي تعلم منذ فترة طويلة قمع مشاعره بقسوة.
“لم يبتسم أبدا، لم يسبق وأن سمعته يقول: أنا آسف، أعتذر”، كما أخبر زميل له منذ فترة طويلة كاتب المقال. بالنسبة للمالكي، كانت التهنئة بالعيد ذريعة. ما ينبغي حقا أن يتحدث عنه هو الاحتجاجات الجارية في محافظة الأنبار، غرب بغداد.
عندما غادر آخر الجنود الأميركيين العراق في نهاية عام 2011، كانت الحرب الأهلية الدموية بين السنة والشيعة في البلاد قد أُخمدت، ولكنها لم تُحل. الآن عاد العنف الطائفي مع كثافة مرعبة. منذ أكثر من عام، احتشد الآلاف من العراقيين، كلهم تقريبا من أبناء العرب السنة، للاحتجاج ضد حكومة المالكي التي يهيمن عليها الشيعة.
ورغم أن الاحتجاجات كانت سلمية في معظمها، فإن قوات الأمن تعاملت معها بقسوة واعتقلت الآلاف من الرجال السنة دون توجيه اتهامات لهم. وامتلأت الساحات على امتداد المناطق السنية، شمال وغرب بغداد، بالحشود الغاضبة.
يتحدث إلى كاميرات التلفزيون في عيد الميلاد، طلب المالكي من المتظاهرين المغادرة. وتجاهل إلى حد كبير تجاوزات رجاله، وادعى أن الاحتجاجات سيطر عليها المتطرفون.
في احتجاجات الرمادي، ألهب برلماني سني، ويدعى أحمد العلواني، الجماهير، متهما المالكي بالارتباط مع النظام الإيراني، القوة الشيعية الكبرى في المنطقة. “رسالتي هي للثعبان إيران!”، وقال في إشارة إلى المالكي ومن حوله ممن أسماهم بالصفويين والزرادشتيين: “دعوهم يسمعون أن المجتمعين هنا سيعدون العراق إلى شعبه!”.
بعد ثلاثة أيام من خطاب المالكي، حاصرت قوات الأمن مجمع العلواني . وادعى مسؤولون أنهم لم يذهبوا لإلقاء القبض عليه، لأنه عضو في البرلمان يتمتع بالحصانة، ولكن لاعتقال شقيقه، الذي كان مطلوبا بتهم غامضة: “الإرهاب”. أُطلقت النيران، قتلت قوات المالكي ستة أشخاص وأُخذ العلواني بعيدا. والتُقطت له صورة هُربت من السجن ببذلة برتقالية مع كدمات على وجهه. في حين قال شقيقه رميا بالرصاص.
بعد ذلك بقليل، أخلت قوات المالكي مخيم الرمادي في وقت لم يكن ممتلئا بالمعتصمين. لتنفجر في إثرها محافظة الأنبار، جنبا إلى جنب مع بقية المناطق السنية في العراق، ولم تتوقف أعمال العنف. وضربت موجة من المفجرين والمفخخات بغداد، وفي يناير (الماضي) قُتل أكثر من ألف مدني عراقي، والأغلبية الساحقة منهم شيعة، مما يجعله واحدا من أعنف الشهور منذ سنوات الذروة في الحرب الأمريكية.
وفي محاولة لإخماد الاضطرابات، حاصر لمالكي أكبر مدينتين في المحافظة: الفلوجة والرمادي، بالمدفعية وبدأ القصف. استقال أربعة وأربعون عضوا سنيا في البرلمان. في حين تخلت الشرطة في الفلوجة والرمادي عن مواقعها.
أمر المالكي الجيش، بعد أن أدرك، فيما يبدو، أنه قد أخطأ، بمغادرة المدينتين.
ويخشى العديد من العراقيين من سقوط بلدهم مرة أخرى في حرب أهلية، ويحملون المالكي مسؤولية دفعها إلى الهاوية، وهو الرجل الذي راهنت عليه الولايات المتحدة واستثمرت فيه كثيرا من مواردها وطموحاتها.
في 30 أبريل القادم، سوف يتوجه العراقيون إلى صناديق الاقتراع لاختيار برلمان، ومن ثم رئيس وزراء. وبعد ثماني سنوات في منصبه، يسعى المالكي للحصول على ولاية ثالثة. ويخشى الكثيرون من أن فوزه سيغريه بتشديد قبضته على الدولة، كما قال زميل قديم للمالكي، وأضاف: “إذا فاز هذه المرة، فلن يغادر أبدا”.
رأيت المالكي في مكتبه خلال فبراير الماضي، بدا قاسيا وعديم اللون كما ظهر خلال خطابه التلفازي. مكتبه غرفة معقمة بلا أثر للدفء، وكان بلا نوافذ، ربما لأنه يمكن تحطيمها بالقنابل.
عندما سألت المالكي عن الأنبار، قدم تفسيرات مشوشة عن سبب إلقاء قواته القبض على النائب السني، قائلا: “لا أحد يمكنه أن ينكر ذلك، كان هو وشقيقه يحملان السلاح ضد الحكومة العراقية”. وعندما سألته عن احتمالات إعادة انتخابه، قال لي إن له الحق في الاحتفاظ بمنصبه لأنه، من بين أمور أخرى، تعامل مع العراقيين على قدم المساواة، بغض النظر عن الطائفة، وقاوم القوات التي مزقت البلاد، وأضاف: “أولا وقبل كل شيء أبقينا العراق موحدا”.
أثناء حديث المالكي هز مكتبه دوي انفجار: سيارة مفخخة على بعد بضع مئات من الأمتار من مجمع محصن حيث يعيش المالكي. وكان واحدا من ثمانية انفجارات ضربت بغداد في ذلك اليوم، مما أسفر عن مصرع أربعة وثلاثين شخصا. صمت الجميع للحظة، ثم التفت إلى أحد مساعديه، آمرا: “اذهب لترى ماذا حدث”.
ـــــ 2 ــــــ
بعد سنتين من مغادرة الدفعة الأخيرة من الجنود الأمريكيون للعراق، لا تزال حفنة من الأميركيين هناك، في رحلات حول العاصمة، لمساعدة العراقيين على استخدام المعدات العسكرية الأميركية، وللتنقيب عن النفط، حيث أصبح العراق واحدا من أكبر المنتجين للنفط في العالم، ولكن لا يصل إلى عموم الشعب العرابي إلا القليل من الأرباح.
انبعاث الشيعة في العراق هو أكبر تركة الغزو الأمريكي الذي أطاح بحكم “السنة” واستبدله بحكومة يقودها الشيعة للمرة الأولى منذ القرن الثامن عشر. بعد ثماني سنوات من تولي المالكي رئاسة الحكومة، لم يتغير شيء من أحوال العراقيين مقارنة بسنوات الاحتلال.
في أوائل عام 2006، في ذروة المواجهات المسلحة مع الاحتلال، استدعي السفير الأميركي في بغداد، زلماي خليل زاد، إلى دائرة تلفزيونية مغلقة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وكان ائتلاف الأحزاب الشيعية قد فاز بمعظم الأصوات في الانتخابات البرلمانية (ديسمبر 2005)، ولكن مرشحهم لمنصب رئيس الوزراء، إبراهيم الجعفري، كان يصارع من أجل تشكيل الحكومة. وكان الجعفري قد أغضب بوش بتردده: رئيس وزراء ودود وسط حمام دم طائفي أعقب تفجير مزار شيعي رئيسي.
خلال الدائرة التلفازية المغلقة، سأل الرئيس بوش من السفير خليل زاد: “هل يمكن التخلص من الجعفري؟”، “نعم”، أجاب خليل زاد.. “ولكن سيكون ذلك صعبا”.
أبلغني خليل زاد أنه كان يعمل لمنع الجعفري من تأمين أغلبية برلمانية، وأخيرا نجح. ولكن، كشرط لسحبه بهدوء، أصر الجعفري أن يأتي رئيس الوزراء المقبل من حزبه، المعروفة باسم حزب الدعوة، والتي قاتل لخمسة عقود بضراوة دفاعا عن مصالح الشيعة. بدا علي الأديب، مسؤول الحزب المحبوب، المرشح المنطقي، ولكن خليل زاد كان مضطربا بشأن أديب، إذ إن والده إيراني، وكان الكثير من العراقيين مقتنعون بالفعل أن إيران تسيطر على بلادهم سرا . وأضاف: “إنه من دم فارسي”، كما قال خليل زاد: “هذا ما كانوا يعتقدونه”.
رجع السفير خليل زاد إلى محلل وكالة المخابرات (C.I.A) في مكتبه، وهو يتحدث العربية بطلاقة، وكان عمله التعرف على قادة العراق المهمين، وسأله: “هل يمكن أن يكون في هذا البلد الذي يبلغ تعداده ثلاثون مليون، اختيار رئيس الوزراء محصورا بين الجعفري، الذي هو غير كفء، أو علي الأديب، الذي هو إيراني؟ أليس هناك أي شخص آخر؟”، فرد عليه ضابط الاستخبارات: “لدي اسم لك”.. إنه “المالكي”.
لم يكن المالكي معروفا، إلى حد كبير، بين الأميركيين رغم أنه خدم في اللجنة المكلفة بتطهير الحكومة العراقية من الأعضاء السابقين في حزب البعث. واستطرد ضابط الاستخبارات قائلا: إنه نظيف”، وأضاف: لم يكن فاسدا، وليس لديه علاقة واضحة بأنشطة إرهابية. “ليس لدينا أي دليل عليه”، وعلى عكس الجعفري، كان المالكي “رجلا قويا”، ويبدو أنه قادر على تحدي النظام الإيراني.
“دعني أقابله”، قال خليل زاد.
في تلك الليلة، وخلال مأدبة عشاء طويلة في السفارة الأميركية، سأل خليل المالكي إذا كان يفكر في أن يصبح رئيسا للوزراء. وأشار خليل زاد، ضاحكا، إلى أن المالكي قفز من الدهشة.
ولكن مع حديث الرجلين، قال المالكي إنه يمكن تأمين الأصوات، عندها، في منتصف الليل، طلب السفير خليل زاد الاتصال هاتفيا بالبيت الأبيض. وروى للكاتب: “أعلمنا واشنطن أن هناك تغييرا في الخطط. أيد الساسة السنة والاكراد ترشيحه. في غضون ثلاثة أشهر، أصبح المالكي رئيس وزراء العراق.