في زمن انحراف بوصلة الجامعة العربية عن وجهتها المفترضة والتئام القمم العربية لغرض التفريق لا التوحيد، وفي الوقت الذي يوغل فيه الكيان الصهيوني في ممارسة إرهابه تحت مظلة الاستكبار الأميركي من خلال ارتكابه الجرائم تلو الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، أقبل علينا شهر نيسان هذا العام بكل ما اختزنته ذاكرته من قوافل الشهداء الفلسطينيين الأبرار الذين سقطوا خلاله على مدار ستة وستين عاماً من الصراع العربي – الصهيوني.
لا أظن أن بين الفلسطينيين داخل الوطن وفي ديار الشتات من نسي أو غاب عن باله ولو للحظة واحدة مسلسل الإبادات والمذابح والمجازر وعمليات الاغتيال التي ارتكبها جزارو وسفاحو كيان العدو الصهيوني بحقهم، على المستويين الجماعي والفردي، في تلك الأعوام، وبالأخص في الشهور النيسانية!!؟
ولا أظن أن بين الفلسطينيين، المظلومين والمضطهدين دائماً وأبداً دونما ذنب ارتكبوه غير حب الوطن والوفاء له، من نسي أو غاب عن باله ولو لبرهة أو لمحة بصر جرائم عصابتي “شتيرن” و”الهاغاناة” وغيرهما من العصابات الصهيونية الإرهابية المنظمة وغير المنظمة قبل حدوث نكبة عام 1948 الكبرى وأثناء وبعد حدوثها وصولاً إلى عصر الانحطاط والذل والخنوع الذي نعيشه هذه الأيام، وبالأخص جرائم رجال وعملاء جهاز الموساد التي ارتكبت بحق الفلسطينيين الأبرياء داخل الوطن وفي ديار الشتات.
مذابح ومجازر بربرية فاقت بفضاعتها كل التصورات، وجرائم إبادة جماعية وعمليات اغتيال لا أخلاقية ولا إنسانية كبيرة لا حصر ولا وصف لها إلا في قواميس التتار والمغول والنازيين القدامى والجدد، ارتكبها الجزارون والسفاحون الصهاينة بحق الفلسطينيين خاصة والعرب عامة منذ عهد الإرهابي بن غوريون وصولاً إلى عهد الإرهابي الحالي بنيامين نتانياهو، مروراً بعهود كل من تعاقبوا على السلطة اللقيطة في تل أبيب من كبار الإرهابيين الصهاينة. وشلالات دماء طاهرة سفكها الإرهاب الرسمي الصهيوني على مدار 66 عاماً من الاحتلال القهري المستمر، ومسلسل دموي صهيوني بغطاء استكبار أميركي تتواصل حلقاته، ويتقاطع مع مسلسل دموي تشهده بعض الأقطار العربية وفي مقدمها القطرالعربي السوري منذ عام 2011 حتى الآن، ومن يدري فلربما أن الآتي أعظم وأدهى وأمر!!
كما هي العادة مع شهر نيسان من كل عام نعيش أيامه بكل ما تستدعيه من مستلزمات التأمل والاستنفار وما تفترضه من متطلبات الحيطة والحذر، لما لها وما عليها من مخاطر وتبعات سلبية محتملة. ومن باب الوفاء لشهدائنا الأبرار نجد أنفسنا في هذا الشهر مندفعين بشكل تلقائي لاسترجاع شريط تلك المذابح والمجازر وجرائم الإبادة وعمليات الاغتيال التي دفع فيها الفلسطينيون من دمائهم الذكية والغالية الكثير الكثير فداء الأرض المباركة والقضية المقدسة، جراء صنوف وأنواع الإرهاب الصهيوني التي مورست ضدهم ولم تزل تُمارس حتى أيامنا هذه.
ونحن نعيش هذه الأيام بحلوها ومرها، نستذكر القسطل ودير ياسين وفردان وسيدي بوسعيد والسارة وغيرها الكثير، ونستذكر أرواح الشهداء الأبرار الذين سقطوا في شهور نيسانية مماثلة اصطُلح على تسميتها شهور البذل والعطاء والشهادة والاستشهاد من أجل الشرف والعزة والكرامة وحرية الأرض والإنسان، لكثرة الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا خلالها وبالأخص على المستويات القيادية.
في نيسان نستذكر أرواح الشهداء عبد القادر الحسيني وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر وخليل الوزير “أبو جهاد” والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعقيد طيار محمد درويش والعقيد طيار غسان ياسين والمهندس طيار ثيودوروس جيورجي. ونستذكر أرواح ثمانية عشر شهيداً أبت أرواحهم إلا أن تهاجر من الأرض الفلسطينية المحتلة لتعانق روح “أمير الشهداء” يوم وصلت يد الغدر الإرهابي الصهيوني إلى جسده الطاهر في العاصمة التونسية، وتُزف معها في عرس شهادةٍ ما بعدها شهادة. كما نستذكر أرواح هؤلاء الذين قالوا للكيان الصهيوني لا وألف لا، لن تموت جذوة الانتفاضة المباركة مع اغتيال “أمير الشهداء”. ولا ننسى أن نستذكر أرواح الشهداء الثلاثة الذين قضوا وهم يدافعون عن “الأمير” والقضية، مصطفى وحبيب التونسي وأبو سليمان.
وحتى أجنب نفسي الوقوع في النسيان وأنا في شهر نيسان وكي لا يؤخذ علي مأخذ “التجاهل المتعمد لا قدر الله” وأقع تحت طائلة لوم نفسي قبل لوم الآخرين لها، أرى أن من العدل والإنصاف استذكار أرواح كل الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين وصلت إليهم أيدي الغدر الصهيونية والأميركية والبريطانية والغربية بشكل عام خلال شهور نيسان والشهور الأخرى وعلى مدار أعوام الصراع العربي ـ الصهيوني.
ولأني سأقصر كلامي على هذا الشهر اللعين أجد نفسي مضطراً أن أتوقف عند رموز قياديةٍ فلسطينية، كان همها الرئيسي الحفاظ على وحدة الصف الوطني وخدمة القضية الفلسطينية، ولم تفكر يوماً بتقديم “الأنا” أو المصلحة الذاتية أو الحركية أو الفئوية على المصلحتين الوطنية والقومية، استهدفها الإرهاب الصهيوني في شهور نيسانية سابقة.
فالحديث عن القائد الشهيد عبد القادر الحسيني يعيدنا بالذاكرة إلى الوراء 66 عاماً. والحديث عن هذا القائد الكبير يعيدنا إلى تاريخ استشهاده في معركة القسطل في 8 نيسان 1948، ويعيدنا أيضاً إلى أيام بالغة الظلمة والسواد، أفرطت خلالها عصاباتا شتيرن” و “الهجاناة” الإرهابيتان في عدوانهما النازي والفاشي على المواطنين الفلسطينيين لغرض ترحيلهم والاستيلاء على أراضيهم، فارتكبتا من المذابح والمجازر الجماعية ما لا يُعد ولا يُحصى وما يندى لها جبين الإنسانية.
من بين تلك المجازر كانت مجزرة دير ياسين التي حدثت في 9 و10 من ذات الشهر والعام والتي اغتال الصهاينة الأنذال فيها جميع أبناء البلدة إلا من نجا منهم بأعجوبة، في واحدةٍ من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية .
والتوقف عند تاريخ 10 نيسان 1973 يذكرنا بذلك اليوم الأسود الذي تمكن فيه الإرهاب الصهيوني النازي بواسطة مجموعات مجرمة تابعة لجهاز “الموساد” من اغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين الكبار في شارع فردان في قلب العاصمة اللبنانية بيروت هم الشهداء كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر.
لقد كان الشهيد القائد كمال عدوان واحداً من أهم وأبرز الإعلاميين إن لم يكن أبرزهم وأهمهم. وكان الحريص الدائم على أن تتعانق الكلمة الحرة مع البندقية الحرة، فرأى العالم من خلال القضية الفلسطينية، وكان القائل، وصَدَقَ قوله، “حتى تكون قومياً وحتى تكون أممياً لا بد أن تكون فلسطينياً أولاً. أتقن فن الثورة ودرب الآخرين على إتقانه وممارسته. أصدر جريدة “فتح” من قلب المعركة عندما تطلبت الضرورة ذلك. وكان الشهيد القائد أبو يوسف النجار “السهل الممتنع” في مرونته وصلابته صاحب الشعار الثابت والدائم “الحق أولاً والمبدأ أولاً”. وقد مثل أبو يوسف النجار نموذجاً لجيلٍ فلسطينيٍ كاملٍ عَبَرَ عنه بنقاء ثوري أصيل. أما الشهيد القائد كمال ناصر “ضمير الثورة” الذي أحبه جميع الثوار كما أحبهم، إذ كان لحركة فتح كما كان لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، فقد كان أديباً وشاعراً ومفكراً، وكان إنساناً بكل معاني الإنسانية النبيلة. حبّب القتال إلى قلوب الجماهير فأصبحت الجماهير الحاضن الأمين والحُضن الآمن والدافئ لفكر المقاومة وممارساتها. وكان حريصاً على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعمل من أجلها بشكل دؤوب ومتواصل إلى درجة أنه سُمي ب “ضمير الثورة” لما شكله من قاسمٍ فكريٍ وسياسيٍ مشتركٍ بين جميع فصائل المقاومة، بتعدد نزعاتها الفكرية والسياسية.
ما من أحد عرف أمير الشهداء القائد الرمز خليل الوزير”أبو جهاد” إلا واحترمه وقدره وأحبه، وأنا كنت واحداً من هؤلاء الكُثر جداً في الأوساط الفلسطينية والعربية والإسلامية. وما أقوله أنا وغيري عن الأمير الشهيد القائد لا يُمثل إلا جزءاً يسيراً مما اتصف به من نُبل وعُرف عنه من أخلاق حميدة ومسلك مُشرف. ولا أبالغ حين أقول أنني مهما اخترت له من الصفات النبيلة والكريمة والإنسانية الشائعة والجديدة لن أوفيه بعض ما استحقه في حياته وما يستحقه في مماته، وهو أكثر بكثير.
كان “أبو جهاد” قائداً بكل معاني الكلمة، وما أحوجنا لأمثاله وأمثال إخوانه الذين عاصروه وقضوا قبله وبعده في الأيام العصيبة والظروف الدقيقة والخطيرة التي مرت بها القضية الفلسطينية وكل قضايا الأمة الوطنية والقومية.
لقد وصلت يد الإرهاب الصهيوني المجرم إلى جسده الطاهر في 16 نيسان 1988 فاغتالته مع ثلاثةٍ من مرافقيه بعد معركةٍ غلب عليها طابع الغدر في ضاحية سيدي بوسعيد التونسية. ويوم اغتال الكيان الصهيوني الشهيد الكبير الذي سُميت باسمه “دورة الانتفاضة” للمجلس الوطني التي انعقدت في مدينة الجزائر في تشرين الثاني 1988، اعتقد أنه بذلك الاغتيال تمكن من اغتيال الانتفاضة المباركة، لكن وفاء أبنائها للقضية وللقائد زاد الانتفاضة اشتعالاً وتوهجاً، إلى أن جاءت “أُوسلو” اللعينة فاغتالتها بالإنابة عن الكيان الصهيوني!!
وصلت يد الغدر والإجرام الحاقدة إلى جسد القائد الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي عندما قامت الطائرات الحربية الصهيونية أميركية الصنع مساء 17 نيسان 2004 بقصف سيارته، لتعانق روحه الطاهرة أرواح جميع شهداء فلسطين الأبرار الذين سبقوه.
حدثت جريمة اغتيال الرنتيسي بعد 25 يوماً فقط من جريمة اغتيال ملهمه وقدوته المغفور له الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس الذي سقط في حينه مع اثنين من مرافقيه هما الشهيدان أكرم نصار وأحمد الغرة. ولا شك أن مسيرة القائد الرنتيسي المميزة هي نسخة مشرفة عن مسيرة ملهمه وقدوته، وتجعلنا هي الأخرى أعجز من أن نذكر كل صفاته ومآثره الكريمة في كلمات أو سطور قليلة.
وكلا الرجلين، القائد والقدوة، حرصا على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعملا وقضيا من أجلها ومن أجل وحدة الشعب والأرض والقضية، ولربما أنه لو كتب لهما أن يعيشا أطول لما حدث ما حدث، ولما كان ما كان، ولما وصل الحال إلى ما وصل إليه، ولما فُرض على قطاع غزة أن يدير ظهره للضفة الغربية وقلبها مدينة القدس المباركة ويتباعد عنهما.
توقفي في مقالي هذا عند ستة من الرموز الفلسطينية الكبيرة في مسيرة النضال والاستشهاد وفي مسيرة الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يقلل أبداً من قيمة وشأن ومحبة أي من الشهداء الأبرار الآخرين، أكان ذلك على مستوى القيادة أو القاعدة. فالكل شهداء القضية النبيلة، من أصغر طفل رضيع وامرأة وشيخ مسن إلى أكبر قائد فلسطيني، والكل تحترق قلوبنا ألماً وحسرةً على فراقهم، ولن ننساهم أبداً .
لا شك أن قوافل كثيرة من الشهداء سبقت وأخرى لحقت ومثلهما تنتظر دورها، والعطاء يتواصل ولا تنقطع حلقاته. لكن “نيسانية” الموقف افترضت كما أسلفت القول أن أتوقف عند هؤلاء القادة للتدليل على فيض العطاء الفلسطيني وللتدليل على أنه لا يقتصر على مقاتل دون قائد، بانتظار وقفات أخرى قادمة.
إنه قدر فلسطين وشعبها أن يُلازمهما على الدوام حصادٌ دموي “نيساني” يعقبه حصاد بعد حصاد. مسلسل من الحصاد الدموي المستمر والمتواصل. فالإرهاب الصهيوني بشتى أشكاله وصوره الهمجية والمقززة مستمر ومتواصل بحقد وشراسة، وشلال العطاء الفلسطيني من أجل الأرض والإنسان والقضية بشتى أشكاله وصوره النبيلة والمشرفة مستمر ومتواصل بغزارة هو الآخر. ولنا في كل يوم وأحياناً كثيرة في كل ساعة أو دقيقة شهيد بل عشرات الشهداء، و “موسوعة الشهادة والاستشهاد” التي استوجبتها النكبة لتخليد الدم الفلسطيني الطاهر تبقى مشرعة الأبواب ومفرودة الصفحات لاستقبال سِيَر جديدة لكواكب من الشهداء الجدد، قادة وأفرادا، ينضمون إلى إخوان ورفاق لهم سبقوهم إلى شرف الشهادة، إلى أن تتحقق العودة ويتحقق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة ويعترف العالم كله بالمدينة المقدسة عاصمة لها. رحم الله كل شهداء فلسطين.
محمود كعوش
كوبنهاجن في نيسان 2014