دأبت إيران على إكمال مشروعها وتصدير الثورة “الخمينية” إلى كامل البلدان الإسلامية وبعض الإفريقية، ووظفت كل طاقاتها الإستراتيجية والتكتيكية واللوجستية لخدمة أهدافها العقائدية والسياسية العليا، فرّصت صفوف عقولها لتركز على وضع الآليات الكفيلة بتصدير ثورتها ولتغلغل نفوذها في نسيج العالم العربي والإفريقي. ولأجل هذا، إعتمدت خطط عمل، وعقدت مؤتمرات وجندت واخترقت جماعات، واستفادت من التجربة الصهيونية في تمكين دولتها، واللعب مع الكبار بقواعدهم واستراتيجياتهم.
من الوثائق السرية التي كُشِف عنها ووصلت إلى الرأي العام هي “الخطة الخمسينية”، “الخطة الإعلامية الإيرانية” ومؤتمر “شيعة علي هم الغالبون”.
الوثيقة الأكثر خطورة هي “الخطة الخمسينية” التي تسربت عبر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بقيادة الحكيم، أكدت فيها أن تصدير الثورة نهج أصيل في السياسة الخارجية الإيرانية، تضخمت لأجلها ميزانية وزارة الخارجية الإيرانية دون غيرها من الوزارات؛ الثورة لا يعني الهجوم العسكري وتجهيز الجيوش، بل النفاذ الناعم الذي لا يزعج ولا يلفت الإنتباه وعن طريق الإعلام والتبليغ.
يجب الإلتفات إلى نقطة مهمة للغاية، أن نجاح “الإصلاحيين” أو “المحافظين” في إيران لا يفسد في قضية تصدير الثورة، فالخلاف بينهما يكمن في التكتيك لا الإستراتيجية، ويمكن قياسهما على عمل الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي، فالإستراتيجية واحدة ولكن التكتيكات تختلف؛ وجوهر الخلاف في إيران، أن الإصلاحي يرى في سياسة المحافظ فاضحة تكشف أكثر مما تستر، ويرى المحافظ أن سياسة الإصلاحي تهادن أكثر من المطلوب.
الوثيقة تعتمد على أركان أساسية، جوهرها تحسين العلاقات مع الآخرين تحت غطاء تقريب المذاهب، لتطمين الدول العربية والإسلامية تحت شعار “حوار الحضارات” أيضاً، بدأت مع مرحلة الرئيس الخاتمي؛ هذا الجوهر أسس قاعدة تضليل في ما كان النشاط الدعوي والإستخباراتي يشق أنفاقاً تحت سطح الحوار، عبر الحملات الخيرية والإغاثة والمساعدات وبناء المدارس والمكتبات ودور التوزيع لنشر فكر ودعوة “ولاية الفقيه”.
الخطة تتقسم إلى خمس مراحل:
مرحلة التأسيس ورعاية الجذور: يتم عبر إيجاد السكن والعمل لأبناء المذهب المهاجرين في هذه الدول، وإنشاء العلاقة والصداقة مع أصحاب رؤوس الأموال والمسؤولين في الدولة، ومحاولة خلخلة التركيبة السكانية وإيجاد تجمعات شيعية في الأماكن العامة.
مرحلة البداية: النصف الأول عبر العمل من خلال القانون القائم، وعدم تجاوزه، ومحاولة التسرب إلى الأجهزة الأمنية والحكومية؛ والنصف الثاني، العمل على الوقيعة بين علماء السُنة والدولة من خلال تحريض العلماء على المفاسد القائمة وتوزيع المنشورات بإسمهم، ثم تحريض الدولة عليهم بهدف إثارة أهل السُنة على الحكومات فيتحقق لهم سوء ظن الحكومات بكل المتدينيين من أهل السُنة، تنامي الحقد بينهم، ضياع مكانة أهل السُنة وإحجام الحكام عن المساعدة في نشر الدين.
مرحلة الإنطلاق: عدم التدخل بالأنشطة الدينية بعد ترسيخ التغلغل في الأجهزة الحكومية والعسكرية، يرافق ذلك إبراز أن “الشيعة” مذهب لا خطر منه عليهم؛ وإقناع رؤوس الأموال السنية لتتحول إلى إيران ليتم السيطرة عليها بعد إنعدام الأمن في الدولة.
مرحلة بداية قطف الثمار: زيادة الفِرقة بين الحكام والعلماء، في حين يكون الإقتصاد على وشك الإنهيار، فيزيد سخط أهل السُنة على الحكام، وعلى عملائهم الوقوف دائماً مع الحكام وحث الناس على الهدوء وعدم الفوضى، وعليهم زيادة نفوذهم وشراء الأراضي والعقارات.
مرحلة النضج: بعد فقدان الدولة مقومات القوة من أمن، إقتصاد وأمان، سيقدمون عملائهم أنفسهم كمخلِّصين، وإذا لم يتحقق ذلك، فلا مانع من إثارة ثورة شعبية لسرقة السلطة من الحكام.
الخطة الإعلامية الإيرانية، تسربت عن طريق “المقاومة العراقية” التي كشفت أنها كانت بحوزة ضابط مخابرات إيرانية، قيل إنه من “فيلق القدس”. ولعل إنتشار القنوات الفضائية التي تعتمد بروباغندا “ولي الفقيه” بشكل لافت بعد الإحتلال الأميركي للعراق، يشي بوجود ملامح مخطط يغطي جميع أراضي “خارطة ولاية الفقيه”، فيمكن رصد أكثر من ستين قناة فضائية ما بين إخبارية، إقتصادية، حوارية وتعليمية.
الخطة تهدف لتحسين صورة إيران التي تشوَّهت بسبب عونها المريب لأميركا ضد المسلمين السُنة في أفغانستان والعراق، وتركز على الأمور الآتية:
التركيز على إقناع المشاهدين أن إيران هي من استدرجت أميركا للقضاء على حكم صدام على يدهم التي صنعته، ولتوريطها في المستنقع من أجل منعها من الإعتداء على إيران أمَل جميع المسلمين والمستضعفين في العالم.
إعتبار ٢٠٠٦ عام الحسم في العراق، والقضاء في وقت واحد على الأميركي والإرهابي والصدامي والوهابي، ولهذا السبب كلفوا التيار الصدري للقيام بالسيطرة على بغداد وتطهيرها من “النواصب”، حسب ما جاء بالخطة، واعتبروا أن الإنتصار في العراق هو مفتاح تحقيق أهدافهم في البلدان العربية والإسلامية، ليعود الإسلام إلى أصوله التي غيبتها سرقة الخلافة من قِبل أعداء آل البيت قبل أربعة عشر قرناً.
وحتى يتم التغاضي الإعلامي عما يحصل في العراق من حرب ديمغرافية ضد السُنة، أصدر المرشد الأعلى الخامنئي أوامره لحسن نصر الله لجعل لبنان ساحة جلب الأنظار من خلال طريق الإشتباك مع الكيان الصهيوني، لضمان حشد الرأي العام العربي مع إيران ومنع مهاجمتها بسبب العراق. ولأجل هذا وفروا ل”حزب الله” كل ما يحتاج إليه لتحقيق أفضل صمود ممكن، وليسمح ببقاء الكثير من المثقفين العرب معهم مستندين إلى ما يحققه “حزب الله” من انتصارات ومكاسب استراتيجية.
جاء في الخطة أيضاً، أن تمتين العلاقة مع “الإخوان المسلمين” باب لنشر التشيع في مصر، البوابة الأفريقية، لأنهم أقرب إليهم من “العفالقة العلمانيين”، وأوصت الخطة أن يكونوا كرماء جداً مع هؤلاء لأنهم أقدر من غيرهم على عزل التيارات القومية العنصرية العربية.
ولأجل إضعاف “الإرهاب” وعزله (الجهاد السني)، على أنصارهم في العراق (التيار الصدري) تنفيذ الخطة الموضوعة للقيام بعمليات عسكرية ضد الإحتلال الأميركي من أجل كسب دعم مناهضي الإحتلال الذين يأخذون عليهم مهادنة أميركا في العراق. والنتيجة اذا نجح التيار الصدري في هذه المهمة، بالإضافة إلى مهمات “حزب الله”، سوف يضعفان ناقدي إيران وأعداءها. يتزامن ذلك مع نشر الفكرة الواردة في أحد تصريحات الخامنئي القائلة إن المواجهة الآن بين إيران ومعها “حزب الله” وسوريا و “حركة حماس” في جبهة، وأميركا ومن يقف معها من الأنظمة العربية والقوى السياسية التابعة لأميركا في جبهة أخرى.
تضيف الخطة إلى ضرورة كشف حقيقة “المقاومة العراقية” أنها مقاومة طائفية سُنية تكفيرية صدّامية، ولهذا الصدد يجب التركيز على نشر الفتاوى التي صدرت بتكفير الشيعة وتحليل دمهم، وما أعقبها من هجمات إجرامية دموية ضد شيعة آل البيت المظلومين لإثبات ذلك.
الخطة تدعو إلى توزيع الأدوار بين أنصار إيران من كتّاب وصحافيين العرب، لمهاجمة الإرهاب “الصدامي”، و”الوهابية” التكفيرية، ولا مانع من قيام البعض بنقد موقف إيران من العراق بهدوء، من أجل تجنب عزلهم عربياً، مع عدم المساومة والتمسك بدعم “حزب الله”.
الخطة التي انبثقت عن مؤتمر “شيعة علي هم الغالبون” الذي عُقد منتصف عام ٢٠٠٦، وهو المؤتمر الشبيه بمؤتمر “بازل” الذي دعا إليه هرتزل عام ١٨٩٧ لتفعيل الخطة الصهيونية العالمية، تسربت وثيقتها مطلع عام ٢٠٠٧ إلى الرأي العام، وأهم ما جاء فيها من توصيات، إستغلال كافة الإمكانات والطاقات “النسوية” في كافة الجوانب وتوجيهها لخدمة الأهداف الاستراتيجية للمنظمة، التنسيق مع القوميات والأديان الأخرى لاستغلالها في دعم الشيعة بالعالم، تصفية الرموز والشخصيات الدينية السُنية البارزة ودس العناصر الأمنية في صفوفهم للإطلاع على خططهم ونواياهم.
الشاهد من كتابة وتلخيص هذه الخطط الثلاثة، توعية الرأي العام، وإطلاعهم عليها؛ ولم أرد تنزيل تنفيذها على دولة هنا أو هناك، لأنها قابلة التنزيل على جميع الدول المُهدّدة من تصدير ثورة إيران إليها، بدءً من البحرين والسعودية ودول الخليج العربي، مرورواً بالعمق الإستراتيجي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان حتى دول الطوق الأعمق في أفريقيا؛ وهنا لا بد من إلقاء التحية على هؤلاء الذين اختاروا الوقوف خلف الجبهات في الشام للتصدي أمام جحافل إيرانية، التي تحاول أن لا تخسر عمقاً إستراتيجياً لم تحلم يوماً أن ثورة ممكن لها أن تزعزع موازين خططهم.
نبيه العاكوم