في حزيران القادم، كما يقول عدلي منصور، سيصبح رئيس مصر المؤقت رئيسًا دائمًا. يعتقد الخبراء الآن بأنّ الاحتمالات الأكبر هي لصالح عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، في أن يُنتخب رئيسًا. وبالفعل، يأمُل الكثيرون في مصر بأن يرسي السيسي الاستقرار في مصر بل وأن يواجه بكفاءة مشاكلها المعقّدة، حيث إنّ المشكلة الأكثر إلحاحًا هي مشكلة الاقتصاد المتعثّر. ومع ذلك، فمن الصعب أن يتجنّب المشاهد الانطباع بأنّ السيسي هو رجل من المؤسسة العسكرية لمصر القديمة، وبالتالي سيكون كما كان من قبل.
في الثقافة السياسية المصرية هناك عامل واحد يلقي بظلاله على كلّ شيء آخر؛ استقلاليّة الجيش وقوّته الاقتصادية. ومعنى استقلاليّة الجيش أنّه ليس خاضعًا لرقابة مدنية حقيقية، ولا يمكن المسّ بميزانيّته. طوال فترة “الربيع العربيّ” وخلال النقاشات حول الدستور المستقبلي لمصر كان الجيش قادرًا على الحفاظ على مصالحه ومنع التدخل الحقيقي في شؤونه. وقد تمثّل اتجاه الحفاظ على قوة الجيش واستقلاليّته في الدستور المصري الذي أقرّ قبل عدّة أشهر.
في الوقت الراهن، فإنّ قبضة السلطات المدنية على الجيش (والتي تُقاد كما يبدو بأيدي السيسي، والذي هو من طينة العسكر)، ستزول وتتداعى.
من الصعب أن نقدّر بأرقام دقيقة قوّة الجيش الاقتصادية. هناك من يشير إلى كونه يسيطر على 40% من الاقتصاد المصري. وحتى لو كان هذا الرقم مبالغًا فيه، فمن الواضح أن الجيش يتمسك بمصالح اقتصادية واسعة النطاق وأنه لاعب اقتصادي مركزي مؤثر على اقتصاد البلاد. ومثال على ذلك، فهناك عقد كبير وقّعه الجيش مع شركة “عربتك” من دبي من أجل بناء مليون وحدة سكنيّة في جميع أنحاء مصر مقابل أربعين مليار دولار. ستقوم الأبنية على أراضٍ تابعة للجيش المصري. إنّ مشروعًا بهذا الحجم، والذي من المتوقع أن يؤثر بشكل عميق على العمالة في مصر وعلى أسعار المساكن في السوق، وبالتالي على النظام الاقتصادي بأكمله؛ هو مؤشّر واضح على تأثير الجيش على الاقتصاد والحياة اليومية لسكان مصر.
إنّ الانتخابات التي يكون المرشّح الرئيسي فيها رجلا من كبار العسكريين، والذي لا يزال حتى اليوم، قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، يرتدي الزيّ العسكري، لا تبشّر بتغيير بعيد المدى في السياسة المصرية. إنّ ثالوث “الجيش، الثروة، السلطة”، والذي يولي فيه الجيش جزءًا كبيرًا من المضامين والقرارات المتعلقة بالدولة بأكملها للثروة والسلطة؛ يدلّ على أنّ الثقافة السياسية في مصر قد تراجعت وهي محاصرة مرّة أخرى في قبضة الجيش الخانقة، كما كان الحال عليه في العقود التي سبقت “الربيع العربي”.
ولا نستطيع حاليًّا أن نحدّد مدى القوة التي يمكنها تقويض قوة الجيش المصري السياسية أو تقديم ثقافة سياسية جديدة. تقلّدت قوة المعارضة الأهم في مصر وهي “الإخوان المسلمون” السلطة، لعام ثم تم إسقاطها. أولا: إذا كان “الإخوان” قد فشلوا بسبب سلوكهم السياسي الهاوي أو بسبب الاستخفاف وتدمير النخب القديمة (والتي ترأسها الجيش والنظام القضائي المصري)؛ فإنّ الذي يتّضح من تلك التجربة بأنّه لا يوجد قوة قادرة اليوم في مصر على أن تحرّكها من الغيبوبة السياسية – الاجتماعية التي دخلت فيها. لقد وجّه فشل “الإخوان” ضربة قوية للجهود الرامية إلى دمج الحركات الإسلامية في السياسة المصرية وتغيير هيكلها العميق.
إنّ قطاعات واسعة من السكّان، وخصوصًا في الأوساط الشبابية، تعاني من الإحباط من الوضع الحالي. يشكّك الكثيرون في أن يغيّر انتخاب الرئيس في أواخر الربيع من أنماط السياسة والاقتصاد في مصر، ويستنتجون من ذلك أنّ البلاد تتّجه نحو سلسلة من الأزمات الاقتصادية، مما سيخرج الجماهير مجدّدًا من بيوتهم إلى الشوارع. إنّ إبقاء القوة بيد النخب القديمة لمصر معناه استمرار بل وتزايد التوتّر بين الحكّام والشعب. وعلى ضوء ذلك، فمن المحتمل جدًّا أن ينفجر التوتّر المتراكم تحت السطح ويهزّ البلاد.
استطاع الجيش خلال “الربيع العربيّ” الحفاظ على ممتلكاته، وعلى مكانته وقوّته السياسية. في الواقع فقد خرج معزّزًا من هذه الأحداث، في حين أنّ المجتمع المدنيّ يستمر في الضعف. من المحتمل أن تذمر منظّمات حقوق الإنسان والمواطنين الجريئين، والذين يقومون بتوجيه النقد للجيش من اليوم، أن يمتزج مع الإحباط المتفشي بين الطبقات الدنيا في مصر، والتي يئست من فشل الحكّام في تحسين أوضاعها الاقتصاديّة. عند هذه النقطة سنرى انفجارات جديدة. حيث إنّه حين ينعزل الثالوث – الجيش، الثروة، والسلطة – عن الشعب، فسيعود احتجاجه على شكل أمواج.
تم نشر هذا المقال في موقع: http://canthink.molad.org/
د. نمرود هوروفيتس، مختصّ في مجال إسلام القرون الوسطى، القانون، والمجتمع في الشرق الأوسط والعلاقات بين الدين والدولة. مُحاضِر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في النقب. محرّر وكاتب ثابت في موقع Can Think