لقد فعلها فلاديمير بوتين مجدداً. كان ذلك سابقاً في ترانسنيستريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والآن في شبه جزيرة القرم؛ أينما تكون هناك مناطق عرقية روسية واقعة ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ليست على استعداد للانصياع لروسيا، سوف تكون هناك حركات انفصالية قد تنفصل بذاتها كما هو الحال في مولدوفا وجورجيا والآن أوكرانيا – وسوف تقدم روسيا الدعم اللازم لها. ولا يهم وجود اتفاق دولي ملزم – في هذه الحالة “مذكرة بودابست” – الذي أصبحت بموجبه روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوكرانيا أطرافاً فيه؛ وبموجب تلك المذكرة تعهدت روسيا باحترام وحدة أراضي أوكرانيا؛ لقد كان ذلك في عام 1994 عندما كانت روسيا حينها، في نظر بوتين، ضعيفة، أما الآن فالعام هو 2014، ولم تعد روسيا ضعيفة، وبمقدورها فرض إرادتها دون الاكتراث كثيراً بالعواقب.
ومن المفارقة أن بوتين، الذي يحرص كل الحرص على وحدة أراضي سوريا – وينتقد التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة – سرعان ما أغفل هذا الحرص عندما رأى أن مصالح روسيا غدت طرفاً في اللعبة. ويبدو أن مبادئه تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وحينما تتوافر لديه القوة اللازمة لفرض إرادته فلن يتردد للحظة.
ينبغي أن تكون تداعيات هذا التدخل على الولايات المتحدة وأوروبا واضحة للعيان. يجب أن يكون هناك ثمناً ما. فلن يقدم أحد على شن حرب بشأن شبه جزيرة القرم، بما في ذلك أوكرانيا. لكن يتعيّن أن يكون هناك ثمن سياسي واقتصادي. ولن يؤثر على بوتين عدم مشاركة [رؤساء دول آخرين] في اجتماع “مجموعة الثماني” في سوتشي. فسيقول إنه يقوم بحماية الروس العرقيين؛ وإذا قرر الرئيس أوباما والقادة الأوروبيين مقاطعة قمة “مجموعة الثماني” فسيكون بوتين متحدياً – وفي غضون ذلك من المرجح أن يحظى بالكثير من الدعم المحلي. ولكن لماذا لا نقول بأنه إذا بقيت روسيا في شبه جزيرة القرم أو تحركت لدمجها، فسوف تفقد روسيا عضويتها في قمة “مجموعة الثماني”؟ وماذا عن مقاطعة جميع الاجتماعات المالية والتجارية مع الروس؟ أنا شخصياً أُفضل الذهاب أبعد من ذلك وفرض عقوبات مستهدفة على الروس. ويقيناً، قد ينتاب القلق البعض من أنه إذا ما أقدمت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على فرض عقوبات اقتصادية على الروس، فسوف يردون على ذلك بحجب إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا وأوكرانيا و/أو وقف تعاونهم كجزء من مجموعة «دول الخمسة زائد واحد» بشأن الملف الإيراني. إن ردود الفعل هذه ممكنة بكل تأكيد. بيد، يحتاج بوتين أيضاً إلى النظر في عواقب هذه التحركات في الوقت الذي تحقق فيه بلاده نمواً ضئيلاً لا يكاد يُذكر، ولا تستطيع تحمل خسارة العوائد التي تجنيها من إمدادات الغاز، بالإضافة إلى مواجهتها خطر خسارة أسواق الغاز الطبيعي الهامة في الوقت الذي تتزايد فيه بشدة أهمية الموردين الآخرين، بمن فيهم الولايات المتحدة. وبالمثل، هل يريد بوتين فعلاً أن تتحول إيران إلى دولة تمتلك أسلحة نووية؟
ويكمن بيت القصيد في عدم افتقار واشنطن للنفوذ لفرض العواقب؛ بالإضافة إلى ذلك، بعد أن صرح أوباما بأنه سيكون هناك ثمناً لذلك، يجب أن يكون الرئيس الأمريكي على يقين بحدوث ذلك. ويحمل هذا الأمر أهمية خاصة لأولئك في الشرق الأوسط الذين يراقبون تكشف الأحداث في شبه جزيرة القرم. وهم في الوقت الحاضر يشهدون مثالاً آخر على استعداد روسيا لتحدي الأعراف الدولية والعمل على خدمة سلطتها – وهي في الغالب اللغة الوحيدة التي يفهمها معظم القادة في الشرق الأوسط. إنهم يراقبون ميزان القوى بعناية. ويعتقد العديد من أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة مترددة بشكل متزايد بشأن العمل على مواجهة التحديات الإقليمية التي تعمل على تحويل ميزان القوى ضد أصدقائها وضد مصالحها في المنطقة. إن الإنصات إلى السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين هذه الأيام قد يكون عملاً مؤلماً يتمثل بسماع انتقادات بأن الولايات المتحدة في تراجع. ويمكن للمرء تحدي تصوراتهم واستنتاجاتهم لكن لا يستطيع إنكار وجود هذه المخاوف. ولا شك في أن ذلك ربما يكون السبب الرئيسي وراء قيام الرئيس الأمريكي برحلة إلى المملكة العربية السعودية هذا الشهر ولقائه ليس فقط بالقادة السعوديين بل مع غيرهم من زعماء دول الخليج الأخرى أيضاً.
عند لقاء الرئيس أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو هذا الأسبوع، شكلت إيران والمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية محور النقاش الذي دار بينهما؛ بيد، كانت أوكرانيا وشبه جزيرة القرم والسلوك الروسي ضمن دائرة نقاشهما الفرعية. تُرى هل سترى إيران في السلوك الروسي مثالاً على أن الأعراف الدولية لا تشكل أهمية كبيرة؟ بالتأكيد إنها لا تعني شيئاً في سوريا. وهل سترحب إيران وسوريا باحتمال تصاعد أزمة ما بين الولايات المتحدة وروسيا على افتراض أن ذلك سيسمح لهما باستغلال الانقسام داخل مجموعة «دول الخمسة زائد واحد» في المفاوضات؟ ليس هناك شك في أن حاجة الولايات المتحدة إلى إيجاد رد حاسم بشأن أزمة شبه جزيرة القرم واحتمالية تأثير ذلك على القضية الإيرانية كانت موضوع نقاش بين الرئيس أوباما ورئيس الوزراء نتنياهو. وسوف يفضل رئيس وزراء إسرائيل ونظراؤه في الشرق الأوسط توجيه رد قوي بشأن شبه جزيرة القرم على وجه التحديد إذ أنهم يبحثون عن مؤشرات تفيد بأن الولايات المتحدة سوف تمارس القوة والقيادة. وبغض النظر عن الطريقة التي قد تسعى بها إيران لاستغلال الانقسامات في هذه المرحلة، سوف يتنفس جل القادة في الشرق الأوسط الصعداء ويشعرون بالارتياح عند ظهور علامات الحزم الأمريكي في الرد على ما يُنظر إليه بأنه استفزازاً روسياً.
يرى الكثيرون الآن في المنطقة أن الروس (والإيرانيين) يتصرفون ويقومون بأعمال [تخدم مصالحهم] بينما تكتفي واشنطن بالتحذير. والجواب هو أنه ليس من شيم الولايات المتحدة التهور في ردود أفعالها أو الإدلاء ببيانات طائشة لا يمكنها الإيفاء بها. بل إنها تحرص على دعم التوصل إلى مواقف ذات معنى والوفاء بها. أما الآن، فيجب على واشنطن أن تعمل على إقرار مجموعة واسعة من العقوبات السياسية والاقتصادية – وتتولى تقديم الدعم المادي لأوكرانيا. كما ستغدو مساعدة أوكرانيا على تحقيق استقرار اقتصادها مهمة ضخمة لكنها تضحى المهمة الأكثر أهمية الآن – وربما يكون تبرير التضحيات أسهل بكثير في أوكرانيا من أي وقت مضى. وتمثل مساعدة أوكرانيا أيضاً إجابة واحدة للروس ورسالة تذكير حول وجود قيادة أمريكية، وسوف يُسمع صدى ذلك في الشرق الأوسط.
إن عِلْم واشنطن بأن لدى السعوديين مخاوف بشأن حزمها في هذه المرحلة لا يعني أنها لا تستطيع تحديهم أيضاً. فهم يريدون منها القيام بالكثير لتغيير ميزان القوى في سوريا، وكذلك مواجهة الإيرانيين هناك وفي المنطقة. كما أن السعوديين – الذين يعارضون إلى حد كبير ما يقوم به الروس في سوريا – يفعلون القليل جداً من الناحية العملية للتعبير عن تلك المعارضة. يقيناً أنهم سيقولون أنهم لا يستطيعون أن يحلوا محل الولايات المتحدة، لكن هذا ليس الوقت المناسب لكي يساعد فيه السعوديون في تمويل حزمة أسلحة روسية بقيمة 3 مليار دولار إلى مصر. هناك أشياء تشير أكثر وضوحاً إلى أن الروس لا يدفعون ثمناً للعرب جراء مساعدتهم على إدامة جرائم الحرب التي يرتكبها الأسد ضد المدنيين السوريين.
والمفارقة أن إظهار القيادة الآن في رد الولايات المتحدة على التدخل الروسي في شبه جزيرة القرم يرجح أن يجذب انتباه أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط. ولا يمكن أن يكون ذلك بديلاً عما تفعله الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنه قد يفتح الباب أمام قيام حوار جديد مع السعوديين وغيرهم. وفي حوار كهذا ستركز واشنطن وأصدقائها في الشرق الأوسط على ما يمكنهم أن يفعلوه معاً في سوريا؛ وكيف يمكنهم العمل سوية على ضمان ألا تتحول مصر إلى دولة فاشلة؛ وما الذي يفعلوه حال التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران وما الذي يفعلوه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق كهذا. لكن بدء دورة محادثات جديدة سيكون أكثر صعوبة إذا لا يبدو أن لدى الولايات المتحدة خطة استراتيجية فعالة تفرض تبعات وعواقب على تصرف بوتين العدائي ضد أوكرانيا.
السفير دينيس روس هو زميل وليام ديفيدسون المتميز ومستشار في معهد واشنطن.