بعد أن فاض الكيل بالأخضر الابراهيمي، وبلغ السيل الزبى بمحاولاته لايجاد حل سلمي للأزمة في سوريا، توجهت الى بيدبا لأسأله عن السبب الذي حال دون تحقيق “تقدم”.
فقال، كيف تتحدث عن “تقدم” وانت توكل قضيتك الى أناسٍ هم ليسوا سوى “تخلف” و”تراجع” و”تأخر”؟ وهل يمكن لفاقد الشيء أن يُعطيه؟
قلت، كيف؟
قال، أنظر الى النظام وستعرف أنه يعاند التغيير منذ أواسط السبعينات. وكلما طالبه أحد بالاصلاح، فانه إما أن يلقيه في غياهب السجون، أو يلقيه في غياهب المنافي. إنه نظام يجسد التخلف بعينه، ليس لأنه ظل يعاند التغيير ويرفض الإصلاح، وليس لأنه ظل يصمم اصلاحات مزيفة، من تلك التي تصنعها أجهزة المخابرات، بل لأنه ظل مقتنعا الى يوم الناس هذا، بأنه الكمال بعينه، وبأنه الطهارة التي ما بعدها طهارة، وبأنه المقاومة والصمود والتصدي بقضّه وقضيضه. ولذلك، فما من أحد قال له: أصلح، إلا واعتبره عميلا للامبريالية. فكيف تطلب تقدما من نظام يعتقد انه وحده صح وكل العالم غلط؟ وكيف تطلب إصلاحا من نظام تحركه أجهزة مخابرات؟ وكيف تطلب تغييرا من نظام يرى أن موقفه “مقدس”، وكل مواقف الآخرين “مؤامرة”؟
قلت، ولكن النظام يعرف أنه في أزمة؟ والأزمة تتطلب حلا معقولا ومرضيا، للآزمين والمأزومين معا.
فقال، لا أزمة ولا بطيخ. فكل ما يراه النظام هو أن هناك مؤامرة. وأن هذه المؤامرة تستهدف صموده وممانعته، التي حتى وإن لم تجلب الذيب من ذيله، فانها (كشعارات فارغة) ظلت تقض مضاجع الإمبريالية. ولهذا السبب فانها تتآمر عليه، لأنها لا تريد أن ترى أناسا يرفعون شعارات فارغة من دون مبرر.
فقلت، وهل تقضُّ الشعارات الفارغة مضاجع الامبريالية فعلا؟
فقال، طبعا، طبعا. فالامبريالية التي تراها دمشق، هي غير الامبريالية الواقعية والعملية والعقلانية التي يراها العالم. إنهم يخاطبون امبريالية خاصة بهم. إنها امبريالية الكلام الفارغ. وهم يناطحونها بالكلام الفارغ. وبما أن القصة كلها هي قصة كلام فارغ في كلام فارغ، فانهم يحققون انتصارات عليها كلما ازداد صمودهم بالكلام الفارغ، وكلما تطورت ممانعتهم بالشعارات، حتى أصبح كل نقد مؤامرة، وكل داع للاصلاح عميلا، وكل مطالب بالتغيير متخاذلا…
فقلت، متخاذل عن ماذا؟
فقال، متخاذل عن ممارسة الكلام الفارغ. فالكلام الفارغ هو كل القضية. إنه جوهر كل الأشياء. وبه تتعلق كل المصائر.
فقلت، طيب، يا بيدبا العزيز. يبدو أنك “حاقد” على نظام لم يعمل أي شيء يضر أو ينفع في “ممانعته”. ولكن ماذا بشأن المعارضة؟ أليس فيها ما يستحق النظر اليه كبديل؟
فقال، شوف، خليني أشرح لك. صحيح أن هناك معارضة وطنية تطالب بالاصلاح والتغيير منذ عدة عقود، إلا أنها ذات صوت منخفض، لأنها تعرض بضاعة لا يشتريها أحد في سوق النخاسة. أما المعارضة ذات الصوت المسموع، فانها ليست معارضة من بالمعنى التقليدي للكلمة.
فقلت، أرجوك لا تربكني بكلامك المعقد.
فقال، خليك بيدبا مثلي وستفهم. فحتى الجاهل يمكنه أن يفهم أن معارضة لا تملك سوى الأحقاد، ولا تحمل إلا الكراهيات الطائفية، ولا تنطق إلا بهوى السحق والمحق، هي وحدها التي تستحق أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للمعارضة في سوق النخاسة. ولأن النخاسة نخاسة، فهؤلاء يمكن شراؤهم وبيعهم، كما يمكن التحكم بهم. أما المعارضون الوطنيون الشرفاء الآخرون، فمَنْ، بربك، بحاجة اليهم بين النخّاسين من أصحاب المصالح الكبرى؟
فقلت، أنا أعرف أن سوق النخاسة في السياسة لا يروق له إلا المعارضين الأفاقين والجوعانين، ولكن هل كل الذين تراهم في جنيف هم على هذه الشاكلة؟
فقال، لا تقهرني أرجوك. هؤلاء الحمقى لم يصبحوا حمقى مجانا. وهم لا يتبنون خطابا يقوم على الحقد إلا لأن الحقد هو المطلوب. فالحروب الأهلية تتطلب نزعات دموية، وتطلعات ثأرية، وتصفية حسابات، وغرائز هائجة. ودافعهم هو الانتقام وليس إعادة البناء. ولهذا السبب فإنهم يتجاهلون القضايا الحيوية ويركزون اهتمامهم على مصائر الأفراد.
فقلت، بالله عليك، خليني أفهم.
فقال، شوف يا صديقي. سأضرب لك مثلا. فبدلا من أن يتحدثوا عن المقومات الاساسية لبناء الديمقراطية، فانهم يركزون على رحيل الرئيس. انهم يتجاهلون الدكتاتورية ويركزون على الدكتاتور. بمعنى آخر، إنهم لا يريدون أكل العنب بل قتل الناطور. وبمقدار ما يتعلق الأمر بالأشخاص فهؤلاء الناس لا يتحدثون بكلام، وإلا وتجده يُنقّط سُمّا. فهم عندما يتحدثون عن ديمقراطية “الأغلبية” فانهم لا يقصدون أغلبية المواطنة، التي يمكن أن تتعدد مشاربها ومذاهبها، وإنما عن أغلبية الطائفة. وهم يحاربون النظام ليس لأنه نظام استبداد، بل لأنهم يعتقدون أنه نظام يمثل أقلية واحدة أو أقليات معدودة. وهم لا يريدون إقامة دولة حريات، وإنما إقامة إمارات إسلامية. وهم لا يريدون تصفية الدكتاتورية كمؤسسة، وإنما الانتقام من أفراد. وهم يفعلون ذلك، ليس لأنهم أعداء حقيقيون للطغيان، بل لأنهم يريدون أن يستبدلوا طغيانا بآخر، ودكتاتورية بآخرى مثلها أو أسوأ منها.
فقلت، ولكنهم يقولون غير هذا الكلام، فلماذا تتجنى عليهم؟
فقال، وهل رأيت منافقا يقول عن نفسه أنه منافق؟ روح إسأل أي أحد وسيقول لك إن هؤلاء الناس لم يجلبوا إرهابيين من كل أصقاع الأرض لإقامة دولة حريات، وإنما لتصفية كل وجه من وجوه حرية الفكر والعقيدة والديانة، بل وحتى حرية المشرب والملبس. وسوف يُحرّمون على الناس عيشتهم ويعيثون بها فسادا ما بعده فساد، وينشرون فيها خرابا اجتماعيا واقتصاديا وأمنيا ما بعده خراب، وكلما انتقدتهم في شيء قالوا عنك “كافر”.
فقلت، وكأنك يا صديقي تقصد أنهم مثل النظام الذي إذا خالفته قال إنك “عميل”، فانهم يقولون إنك “كافر”.
فقال، واضح أن أمورك بدأت تتحسن. وأن الغمامة التي على عينيك بدأت تنقشع. فإذا قلت لي أيهما أسوأ، قلت لك إن الدكتاتورية سيئة بطبيعة الحال، وهي تقمع وتعذب وتقتل، إنما من أجل خدمة حفنة منتفعين يبيعون لك كلاما فارغا، لا أنت تصدقه، ولا هم أنفسهم يصدقوه. أما هؤلاء المعارضين، من خانة الاخوان المنافقين، فانهم يعتبرون كلامهم مقدسا، وهم يمارسون الأعمال البشعة نفسها، إنما بإسم الله، ولأنهم يضعون الله وراء كل ما ينتهكون، فأنهم يُصدّقون ما يقولون، ويؤمنون بما يرتكبون.
فقلت، إذن أليس من الأفضل أن نتركهم يتصارعون، عملا بالقول المأثور: “فخّار يكسّر بعضه”؟
فقال، يا ريت لو كان الفخّار هو فخارهم. هناك الآن ملايين الضحايا ممن قتلوا، وممن جرحوا، وممن تهجروا، وممن جاعوا، وممن تعرضوا للتنكيل، الذين ما عاد بوسعهم لا أن يعودوا الى حياتهم الماضية في ظل الدكتاتورية، ولا أن يبنوا حياة جديدة في ظل الإرهاب.
فقلت، أنت متشائم.
فقال، وكيف لا تكون متشائما، إذا كان الأغبياء يحاصرونك من جهة الماضي، والأدعياء يحاصرونك من جهة المستقبل. وكلهم في غيهم سادرون.
فقلت، ولكن لا بد أن يكون هناك حل.
فقال، والله لو سمعت حواراتهم ومناقشاتهم الفارغة في جنيف 2 و3 و4 و10، لوليت منهم فرارا. فهؤلاء الناس لم يتداولوا أفكارا، ولم يقدموا رؤى عملية للتغيير. وظلوا يتصارعون مثلما تتصارع الديكة، بالمناقرة والكلام الفارغ. وبينما يدافع النظام عن طغيانه وقسوته وفشله، وهو أمر مفهوم، فانك لا تعرف هؤلاء المعارضين عن ماذا يدافعون. ولا تعرف ماذا يريدون. والحال، فقد صرنا في محنتين بدلا من واحدة. كانت لدينا دكتاتورية، وكانت “نص مصيبة”. أما الآن فقد صار لدينا دكتاتورية وإرهاب. وذهب ممثلوا المصيبتين الى جنيف، لنكتشف انه لا الطرف الأول راغب بالحل، ولا الطرف الثاني قادر عليه.
فقلت، يا أخي “لو خُليت، قُلبت”، فسوريا ولاّدة، وشعبها قادر على العثور على نخبة وطنية ناضجة تدله على الطريق الصحيح.
فقال، نعم، توجد نخبة ناضجة، ويوجد مفكرون، وتوجد شخصيات كبرى بين المعارضة الوطنية، وهناك بينهم الكثير من أبناء الطوائف التي توصف بأنها “أقلية”، كان بوسعهم أن يمنحوا الطمأنينة للمجتمع بأسره، بل أن هناك وطنيين ومناهضين للدكتاتورية ودعاة إصلاح في كل بيت، بما فيه آل بيت الرئيس، وهم معروفون للقاصي والداني، ولكنهم لم يُمنحوا الفرصة، لا من جهة النظام، ولا من جهة هذه “المعارضة”.
قلت، لماذا، والبلد كان مقبلا على كارثة؟
فقال، لو كان لدى الطغاة فكر ناضج، لما أصبحوا طغاة. وليس من مصلحة معارضةٍ تستعين بالارهاب والجهل والتكفير أن تفتح الطريق لمعارضة تستعين بالمنطق والحكمة والتفكير. وبينما يعتقد النظام أن وليمة السلطة وليمته وحده، فان معارضة الجهل ترى أن الوليمة صارت وليمتها وحدها. أما الوطنيون الشرفاء فقد صاروا مثل الأيتام على مائدة اللئام.
وقد حاول بعض العقلاء أن يدعوا الأزمة تبرد لكي يتشارك بحلها الجميع، إلا أن الحمقى لم يجدوا لهم مصلحة في الحل، حتى حلت الكارثة. واليوم، فحتى ناقص العقل يمكنه أن يسأل: من أين سيأتي الحل، إذا كانت المفاوضات تجري بين دكتاتورية لا تريد حلا، وبين إرهاب وحقد وانتقام هو نفسه مشكلة؟
علي الصراف