سمعت من والدي رحمه الله قصة حقيقية عن منافسة حادة بين إثنين من التجار في الستينيات من القرن الماضي جرت في سوق التجار وسط بغداد، وهو سوق متخصص لبيع الأقمشة موازي لسوق الصفافير. كان لأحدهم رجلا يدعى أبو حسين يتجسس على التاجر المنافس له ويأتيه بالأخبار عن أحواله، وكلما كانت الأخبار سيئة مثل تلف أو عيوب في الأقمشة أو كساد البيع أو تأخر وصوله الأقمشة من المنشأ، كانت المكافأة جزيلة. وفي أحد الأيام جاء أبو حسين مسرعا وهو يزف خبرا لصاحبه التاجر فبادره بالقول: اليوم سأحصل على أكبر مكافأة منك، لأني أحمل لك خبرا مفرحا. فقال التاجر: هات ما عندك بسرعة. فقال أبو حسين: لقد مات منافسك التاجر. فأصفر وجه التاجر وقرأ سورة الفاتحة على منافسه وترحمه وأستغفر الله عما إرتكبه من أثم بحقه، ثم إلتفت إلى أبا حسين قائلا: عليك اللعنة! هل في الموت تشفي؟ إنه طريقنا جميعا، ثم طرده وحذره من العودة إليه مرة أخرى.
للموت في جميع الأديان السماوية والوضعية حرمة كبيرة، وللميت وضع خاص ومراسم تتسم بالقدسية للموت أكثر منها للميت يُعمل بها منذ مهد البشرية ولحد الآن. لذلك فأن الإعلان عن الموت وإشعار الناس بالوفاة، وتحديد مكان القبر ودفن الميت بحضور الأهل والأقارب والجيران والمحبين وفق الشعائر الدينية الخاصة بكل ملة ونحلة، والصلاة عليه والإستغفار له، علاوة على وسواد الهدوء والإحترام خلال مراسم الدفن والعزاء، كلها أعراف وتقاليد حافظت عليها الشعوب، ولها عند المسلمين قدسية خاصة.
الموت ظاهرة عامة لأنه مرادف للحياة، لكنه ظاهرة خاصة في العراق فهو رفيق العراقيين الدائم، مقيم في الديار منذ مطلع الثمانيات من القرن الماضي وله حضوره اليومي على مستوى العائلة أو الأقارب والجيران. إنه يحب الديار لأنه يشعر بأنهم يودونه ويحتاجون إليه بإستمرار لتصفية مشاكلهم بما فيها التافهة منها. لا عجب فعندما يغيب القانون يحضر الموت بدلا عنه. وقد ألف الشعب العراقي الموت وتآلف معه فصارا صنوين.
من عجائب الموت في العراق حضوره الدائم كضيف ثقيل على الشعب سواء أثناء الحرب أو السلم فالأمر سيان عنده. والأغرب منه إن ما تعلنه الدول المفجوعة بالحرب من أموات سنويا لا يضاهي عدده في العراق يوميا أو اسبوعيا، ومع هذا هناك من يحاججك بإن البلد مستقر ولا توجد فيه مشاكل. ومن هذا المنطلق البليد تتعامل الدول الغربية مع اللاجئين العراقيين. وعندما تحاججهم بعدد التفجيرات اليومية وعدد القتلى والجرحى. يُجيبوا: لكن هذه ليست تصريحاتنا بل تصريحات رئيسكم ورئيس الوزراء وبقية المسؤولين الذين يقولون إن البلد آمنا، وهم يريدون عودتكم لغرض المساهمة في عملية التنمية والعمران! أمر بثير السخرية، لكنه ليس موضوعنا الآن.
الموت في العراق ظاهرة خاصة لأنه لا يقتصر على دين أو مذهب أو قومية أو قبيلة، إنه لا يعترف بهذه الحدود المجحفة التي وضعها البشر، فهو أممي من وجهة نظر اليسار، وديمقراطي من وجهة نظر اليمين. لأنه يضم تحت جناحيه الواسعين كل الشرائح الإجتماعية وكل الفئات العمرية من الجنين إلى أرذل العمر. وهو ظاهرة خاصة لإنه يتصف على الأقل في العراق بالشراهة فمعدته لا تشبع من جثث العراقيين، وظمأه لا يرتوِمن دمائهم، ربما لأن طعمهم طيب ومستساغ عنده. الموت في العراق ذو طابع شمولي، لأنه لا يقتصر على العراقيين فحسب، بل كل الذين يعيشون في ربوعه الخضراء. يضم كل الخائبين الذين حطوا الرحال في هذا البلد الأمين طوعا أو قسرا. في دول العالم يدفع المواطنون عادة الضرائب نقدا، لكن في العراق تدفع الضرائب دما، وضريبة الدم لا يعفى منها أي مقيم في العراق، يدفعها حتف أنفه صاغرا.
الفلسطينيون الذي عاشوا في العراق عقودا من الزمن وقاسموا العراقيين أفراحهم وأتراحهم، فرحوا لفرحهم وحزنوا لحزنهم، دفعوا ضريبة الدم في عراق المالكي على أيدي ميليشيا جيش المهدي بتهمة إنهم من أعوان الرئيس الشهيد، مع إنهم مقيمون في العراق قبل أن يبلغ الشهيد الحلم. ومقارنة بين عدد الفلسطينيين الذين قتلهم سلطات الكيان الصهيوني في أرضهم المقدسة منذ عام 2003 ولحد الآن فهو لا يمثل 10% من القتلى الفلسطينيين في العراق منذ الغزو الغاشم. إنها ضريبة الدم العروبية.
وهذا حال اللاجئين الإيرانيين في عراق المالكي، فغزوات قطعان المالكي ضد هؤلاء الأبرياء لا تتوقف، ولن تتوقف طالما الحكومة العراقية تُقاد كالشاة من قبل الولي الفقيه. وأن بقيت مشكلتهم بلا حلٌ فإن مسلخ المالكي سيستمر في نحرهم حتى آخر لاجيء. وطز وألف طز في الشرعية الدولية التي وقفت عاجزة أمام المالكي الذي تعهد لأسياده في إيران بأن يُنهيهم كما وعد أبناء الأنبار قبلهم ببحر من الدماء. والحق إن موقف الشرعية الدولية المستوحى من ثلوج الأسكيمو هو الذي شجع المالكي على نحر الأشرفيين والتنصل من الإتفاقيات الدولية ذات العلاقة بوضع اللاجئين. وهذا ما عبر عنه صراحة رئيس لجنة العلاقات مع العراق في البرلمان الأوربي استرون استيفنسون بقوله ” مع الأسف فان ردٌ الفعل الجبان من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي تجاه المذبحة في مخيم أشرف، ترك الباب مفتوحا أمام نوري المالكي وأسياده في ايران، لكي ينفذ المزيد من الهجمات على مخيمي أشرف وليبرتي ويرفض كل الاحتجاجات الهزيلة”. فعلا إحتجاجات هزيلة تعاني من مرض السل.
إنظروا للمبعوت الأممي في العراق نيكولاي ملادينوف فيما إن كان له حقا دور في تخفيف وليس إنهاء معاناة الأشرفيين! فقد فشل في حل مسألة المخطوفين السبعة (منهم 6 سيدات) من الأشرفيين رغم مرور أشهر من العملية الإرهابية (لا نعرف هل خطف اللاجئين في العرف الامريكي والأممي إرهاب أم عمل الأحباب لا يُعد إرهاب، ولا يستوجب حتى العتاب؟)، وهم لا يزالوا في قبضة المالكي، الذي لم يتطرق لهم إطلاقا كأنه غير معني بهم! وفشل المبعوث الأممي في معرفة نتائج التحقيق في الهجمات الصاروخية السابقة على مخيمي أشرف وليبرتي والجهة المسئولة عن العمليات الإرهابية. وفشل في التعرف على طريقة قتلهم من خلال الإطلاع على تقارير تشريح القتلة. وفشل في تسليم جثث المغدورين إلى ذويهم ليدفنوا حسب شرع الله ويقيموا مراسم العزاء الخاصة بهم. وفشل في حث الحكومة على تعزيز دفاعات المخيم من الهجومات الصاروخية القادمة. وفشل في تسليط الضوء على محنة الأشرفيين ونقل صورة حقيقية عن معاناتهم للرأي العام الدولي. وعجز عن تحقيق زيارات ميدانية لسجن الحرية، بل لم نسمع منه منذ زيارته للسيستاني وإعلان ولائه له، أي حديث عن الأشرفيين! إنه يصلح كممثل في المسرح الكوميدي وليس المسرح الدولي.
إن هذا المبعوث لو إهتم بقضية الأشرفيين بنسبة 10% من إهتمام السيد (استرون استيفنسون) رئيس لجنة العلاقات مع العراق في البرلمان الاوربي لتغير وجه القضية تماما. فهذا الرجل الإنساني الذي يحمل قلب مسلم وعقل مؤمن الذي مقره في أوربا يتابع موضوع الأشرفيين أكثر من المبعوث الأممي الذي مقره في العراق، وهذه حالة من الصعب تفسيرها أو قبولها. ففي الوقت الذي ما يزال فيه المبعوث الدولي يدور في حلقة السكوت المريب والمدفوع الثمن من نظامي الملالي والمالكي يفكر بطريقة” جئت لأغتني، الصمت واللامبالاة هي وسيلتي كما أرشدني آية الله كوبلر”. فقد أصدر(استرون استيفنسون) بيانا شديد اللهجة ضد حكومة المالكي وضع فيه النقاط على الحروب، بعد أن تناهى الى سمعه قيام حكومة المالكي بموارة جثامين الشهداء الإيرانيين في مكان سري أسوة بالسيدة فاطمة بنت محمد(ص). لقد سرقتهم حكومة المالكي وهم أحياء وإستولت على معداتهم وسياراتهم وكل ممتلكاتهم حتى الشخصية منها، وسرقتهم أيضا وهم أموات بين يدي الرحمن، ولم تكتفِ بسرقة أكفانهم فحسب بل جثثهم أيضا! الا لعنة الله على الظالمين! ما هي ملتكم ومن أي دين أنتم؟
وصف استيفنسون عملية دفن الشهداء من قبل حكومة دولة القانون بأنها إساءة مقززة، وشبهها بأعمال النازية الوحشية. ووصف المقبرة الجماعية الجديدة لحكومة المالكي بعمل إجرامي وأن” الدفن السري والاجرامي لجثامين الضحايا الـ (52) الأبرياء هو النتيجة المتوقعة لمثل هذا السلوك. في الحقيقة ان عدم رد الفعل القوي وبأشد العبارات بهذا الخصوص، سيعطي الضوء الأخضر الى هجمات قاتلة عديدة أخرى. الكثير من الايرانيين وبمواجهة هذا السلوك أصبحوا محبطين جدا وهم يطالبون الآن بالعمل، يجب أن يحاسب المالكي والتابعون له في محاكم دولية”. إن هذا البيان المنصف هو حقا بمثابة صفعة شدية في وجه المبعوث الأممي، الذي يبدو إن فيروس كوبلر قد أصابه أيضا. صرنا على يقين بأن أسعار ذمم المبعوثين الدوليين في العراق تتحدد في بورصة الولي الفقيه في طهران، وضمائرهم تُشترى منذ بداية ترشيحهم للعمل في العراق وقبل أن تطأ أقدامهم الوسخة العراق. لذلك أول ما يقوموا به هو زيارة السيستاني في البراني لإعلامه بأنهم من أتباعه، وسائرون على خطى الولي الفقيه.
لم يكن من المستغرب أن تقوم قوات المالكي بدفن الشهداء الإيرانيين سرا ودون إعلام المبعوث الأممي ومن ثم سكوته عن تلك الإهانة البليغة، بالعكس كان الأمر متوقعا لأن الكشف عن الجثث والإطلاع على التقارير الطبية حول طريقة قتلهم، ستكشف بعض الإسرار، سيما أن الضحايا أعدموا وهم مكبلي الأيادي ومن مسافات قريبة جدا. كما أن تسليم الجثامين لعوائلهم من شأنه أن يعيد قضيتهم الى الواجهة الإعلامية، وهذا ما لا تريده حكومة المالكي، سيما بعد إندلاع ثورة الأنبار، وتزايد الضعوط الدولية على حكومته الطائفية الفاسدة. كما إن إثارة الموضوع لا يخدم الأمريكان أيضا لأنهم هم الذين سلموا الأشرفيين للمالكي على طبق من فضة، عبر تنصلهم عن حمايتهم وتهربهم من وعودهم الخائبة.
علاوة على أن تسليم الجثامين سيخلق حالة من الشجب الدولي ويفضح حكومة المالكي، ويؤكد همجيتها في التعامل مع الأشرفيين من منطلق الولاء التام لسيده الخامنئي. ورغم الخسارة والمرارة التي تكبدتها منظمة مجاهدي خلق نتيجة هذه المجزرة، فإن حكومة المالكي تخشى من إستثمار المنظمة لهذا الموضوع الذي من شأن أن يخلق حالة من الإستقطاب والتجاذب الوجداني بين المنظمة من جهة والرأي العام الدولي من جهة ثانية. ربما تظن حكومة المالكي بأنها سرقت الفرصة من المنظمة لإستثمار موضوع القتلى ولو إعلاميا بدفنهم سرا، ولكنها كمن إستجار بالرمضاء بالنار، لأنها فضحت نفسها كالعادة بحمقها العالي المستوى، وأكدت للعالم بأنها هي التي تقف وراء المجزرة، والدليل على ذلك تخوفها من تسليم الجثامين لكي لا تكشف الواقعة بكل أبعادها ويثبت الدليل.
عجبا من حكومة الفئران تخشى حتى الأموات!
أما العجب العجاب فهو في موقف أصحاب جهاد العمالة(الخدمة الجهادية)، فمجلس النواب اأو مجلس العاقرات والعقيمين لا علاقة له بأي شيء يتعلق باللاجئين الأشرفيين، كأنهم يعيشون على كوكب آخر وليس العراق! وكأن مناقشة المسلسلات التلفازية أهم من مناقشة أرواح البشر! لذا من يعتبر حكومة المالكي أحد خفي حنين الفقيه، عليه أن يعرف بأن البرلمان هو الخف الثاني.
وفي الختام نترحم على الشهداء من العراقيين والفلسطينيين والأشرفيين من ضحايا حكومة المالكي وميليشياته الإرهابية الذين تم نحرهم قرابين للتقرب من الولي الكريه.
إن ألستنتا دائمة وأبدا رطبة بالدعاء للشهداء، فيا ايها السماء افسحي المجال، فقد جاءتك كوكبة الأبطال. إنهم حقا الأرواح الطيبة التي تدخل في موطن اليأس والخنوع فتزيحه، وتحل محله الأمل ببزوغ فجر جديد، رحم الله تعالى ارواحا زكية وذواتا نقية، وجعل مضجعهم المنير روضة بهية من رياض الجنة، ممطورة بسحائب الرحمة والرضوان. ولعن الله الظالمين كل الظالمين.
وليعلم الطغاة بأن الطريق بين العرش والنعش أقرب مما يتصوروا. وإن غدا لناظره قريب.
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي