لا مكان للحب في سوريا.. قد يكون العشق على هذه الأرض المنكوبة ارتدى ثوبا آخر.. قد يكون اختفى مثل حبيبات المطر التي تتبخر لدى بزوغ شمس الصباح.. هكذا قرر بكل بساطة أن يحمل قلوبه الحمراء ويلجأ إلى أراض بعيدة، حيث لا قصف بالطائرات الحربية، ولا ضرب بالصواريخ وقذائف الهاون، ولا جوع، ولا موت، ولا كيماوي يطرح آلاف الأطفال أرضاً كأنهم ما زال أحياء يرزقون.
“فالنتاين” يحب الفرح، وفي سوريا لا فرح اليوم. حتى “فالنتاين” هجر هذه الأرض، وبات السوريون لدى سؤالهم عنه، يضحكون من سخرية الفكرة، ويحقدون على عيد تخلى هو الآخر عنهم وهرب بعيداً إلى أراض أخرى ما زالت تحتمل قليلاً من حب.
“إذا كان اللون الأحمر رمزاً للحب، فكل سوريا تحتفل بالفالنتاين بعدما غطى الدم شوارعها”، هذا ما يقوله الناشط السوري هادي العبدالله، في ريف دمشق لـCNN بالعربية، مستهزئاً من سؤاله عن عيد العشاق.
لا متسع للوردة الحمراء.. ولا من له القدرة على شرائها.. من يشتري وردة حمراء بـ500 ليرة في سوريا الآن.. بعدما كان سعرها لا يتخطى 20 ليرة؟.. من يشترى وردة حمراء، إذا كانت العائلات ليس بحوزتها ثمن ربطة الخبز التي بات ثمنها يقل عن ثمن الوردة الحمراء أو يتساوى معه؟.. من يبالي بوردة حمراء في ظل هذا الدم كله؟.. كيف يعيش الحب في أرض الموت؟
ويلفت العبدالله إلى أن السوريين بعيدين كل البعد عن الحب، بقوله: “لا شيء اسمه عيد الحب في المناطق المحاصرة في حمص والقصير والخالدية والريف الشمالي لحمص، وبقية المناطق التي تخضع لسيطرة الثوار”، مؤكداً: “نحن في حالة حداد دائم.”
كيف يعيش الحب في مدينة يغطي الشهداء شوارعها يومياً؟.. يبدو السؤال قاسياً، والإجابة دوماً حاضرة، إذ برأي عبدالله “ليس هناك من مجال للفرح.. كل ما نفكر به هو كيف نخاف على حياتنا، في ظل القصف بالطيران الحربي، والدبابات والهاون.”
وبدوره، يسأل كل ما يدور في بال أي شاب سوري: “كيف أفكر في عيد الحب، وأنا أفكر كيف أؤمن قليلا من الخبز حتى أبقى على قيد الحياة، ولا يوجد كهرباء ولا مياه ولا اتصالات؟”
ويكرر سؤاله: “كيف أفكر بالحب، والناس تتناول وجبة طعام واحدة كل يومين؟.. من المستحيل على أي إنسان عاقل أن يفكر في الحب في هذه الأوقات.”
المشهد يختلف في ما قبل الأزمة السورية وما بعدها.. مشهدان متناقضان إذ قبل بداية الأحداث الدامية، كان الشباب يحتفلون بالعيد وتتحضر المحلات التجارية للاحتفاء به قبل أسابيع عدة، وخصوصاً في مناطق الشعلان والمالكي وأبو رمانة وباب توما، والتي تحولت في هذه الأيام إلى مناطق شبه خالية من أي حركة.
أما بعد الأزمة السورية، فكل شيء انقلب رأساً على عقب.
هذا ما يؤكد عليه أبو عارف الشامي، وهو ناشط ميداني في العاصمة السورية دمشق، الذي قال إن “الكره والعداوة شعار المرحلة الحالية”، فبرأيه أن فالنتاين أدى أيضاً إلى تقسيم السوريين إلى فئتين، واحدة تعيش في برج عاجي وتحاول الاحتفال بالعيد، دون إحساس بمعاناة الآخرين.
وهذه الفئة تعيش في مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري، حيث الحياة أقرب إلى الطبيعية، ومتطلبات الحياة موجودة.. وهذه الفئة من السوريين تشتري الورود، ولكن ليس لديها أي إحساس بحجم الجوع الذي تعيشه الفئة الأخرى من السوريين، على بعد 500 متر من وسط دمشق، على حد قول الشامي.
أما الفئة الثانية فتقبع في المناطق الخاضعة للحصار في الغوطة الغربية والشرقية والمناطق الجنوبية.. وهؤلاء، بحسب الناشط نفسه، يعتبرون أن “عيد الحب ذكرى جميلة من الزمن الجميل.”
ويبقى السؤال الأساسي لسان حال السوريين: “عن أي حب في المناطق المحررة (غير الخاضعة للنظام السوري) تتحدثون؟.. حب الدماء والموت والأبناء المعتقلين وزوجات الشهداء والأطفال الأيتام.. وكيف يشتري هؤلاء وردة حمراء إذا لم يتمكنوا من شراء ربطة الخبز، أو لم يكن بحوزتهم ثمن كيلو الأرز، الذي بات يساوي 8 آلاف ليرة، أو لتر المازوت، الذي يبلغ أكثر من 400 ليرة سورية.”
“كيف نعيش الحب في عيد الحب والقصف يسقط على رؤوسنا كالمطر.” كيف نعيش الحب تحت المدفعية والاشتباكات والدوشكا” أسئلة كثيرة يطرحها الشامي كجميع السوريين المحاصرين في سوريا وأولئك الذين لجؤوا إلى مدن أخرى.
ويؤكد الشامي “سأحتفل مع زوجتي في المنزل إذ من المعيب أن يحتفي أي شخص سوري بهذه المناسبة في وسط أجواء الموت والحزن. في ظل هذه الأجواء الحالية يخجل الواحد منا أن يفرح.”
أما عبدالله فقرر الالتزام بعدم الحب، بشكل شخصي رفضت الارتباط بأي أحد بعد الثورة لسبب واحد أني بأي لحظة قد أموت. لا أريد أن أظلم أي امرأة وأصدمها.”
لا مكان للحب، الناس تلتهي بالموت اليومي. المدن فرغت من سكانها. صوت فيروز “وينن” لم يعد يصل إلى الآذان. كيف يعيش السوريون الحب عندما يموت الأزواج وتحاول الزوجات الانتحار على وقع المأساة؟ هذا ما يقوله أحدهم “واحد من أصدقائي استشهد منذ أيام عدة وزوجته قطعت شرايين يدها لدى سماعها الخبر.”
لسان السوريين واحد: “يبدو أننا فقدنا حقنا الطبيعي في الحياة، وتحولنا من بشر لدينا حقوق، إلى مجرد حيوانات وأرقام.. كيف يعيش الحب في بحر من الدماء؟.. الكره والعداوة شعار المرحلة الحالية.”
في ظل هذه السوداوية كلها، تقول ريم، وهي ناشطة سورية تعمل في أحد مخيمات اللاجئين في لبنان: “ما زال هناك مكان للأمل.. أرى الأمل بعيني والدة تنظر إلى طفلتها وهي تلعب، وبعيني والد ينظر إلى أطفاله ويشكر الله كل يوم أنهم أحياء.. أرى الحب بعيون شاب وشابة هربا من القصف وقررا الاحتفال بالحب في بلد اللجوء.”
وتؤكد ريم أن “ما زال هناك متسع للحب.. لن ندع الحرب تنتصر.. سنحب ونحب نحب حتى ينسانا النوم.”
دارين العمري – (CNN)