حين صرخ محمد دحلان بطريقة مسرحية هستيرية أمام جماهير حركة فتح في غزة بعد أسابيع من الاقتتال الداخلي سنة 2007 بعبارته الشهيرة “قناصة مش قناصة … ارجعوا ورا خلي حماس تطخني”!؛ كان المستفيدان الأكبران من بقائه حيا، راعيته منذ بدأ مسيرته الأمنية، إسرائيل، وراعيته المستجدة اليوم، الإمارات.
عاد دحلان بقوة إلى المشهد وعلى الأرض، بعد أن غاب منذ سيطرة حماس على قطاع غزة وطرد أبو مازن له من حركة فتح، عاد من مدخله الأثير، الأمن وعصابات مسلحة، ومن مدخل جديد وفره مضيفوه الإماراتيون، المال والأعمال. والحقيقة أن دحلان منذ أقصي عن الساحة السياسية الفلسطينية واتهم بسيل تهم منها الخيانة والعمالة على يد فتح قبل غيرها، ظل ضيفا على قنوات الإمارات التلفزيونية، لم تنقطع العربية عبر جزيل خوري عن استضافة صديقها “أبو فادي” – وبلهجة لبنانية فيها الكثير من التودد وغيره-، وظلت قناة دبي وأبو ظبي مصرتين على استضافة هذا العنصر الخامل في ظاهر الأمر، إلا أن الظهور الإعلامي كان الجزء الظاهر من جبل جليد العلاقة الدحلانية الإماراتية.
أمنيا ظل دحلان على اتصال وثيق ببعض قيادات في الأجهزة الأمنية الفلسطينية وعناصر من حركة فتح، يمدهم بالمال والمعلومات، وبعد أن افتعل عدة مواجهات مع سلطة أبو مازن في جنين ونابلس وضربتها السلطة بقوة؛ انتقل للعب في ساحته التقليدية، غزة، وباستخدام عناصر أمنية تحولوا بين ليلة وضحاها لجماعات سلفية جهادية تتقرب إلى الله بإطلاق الصواريخ على إسرائيل، وتدخل في مواجهة مع حماس التي تريد احتكار خيار المواجهة مع إسرائيل كونها من يدفع الأثمان الأكبر حال حدوثها.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وانتقل دحلان للعب في الساحة اللبنانية، هناك بدأ دحلان يشقّ حركة فتح، ويرفع مستوى المواجهة مع أبو مازن وممثليه في لبنان عزام الأحمد وعباس زكي، وفي لبنان اختار دحلان نموذجا سائدا ومحليا في تجنيد الأتباع والمناصرين؛ جليلة دحلان، زوجة القيادي البارز وبكيس متخم من الأموال الإماراتية تدور على المخيمات تحت أسماء سلقت على عجل لمنظمات إغاثة وجمعيات خيرية، وتستغل الأحوال الاقتصادية المزرية للاجئين الفلسطينيين لكسب ولاءات وشراء بسطاء للتجنيد في مشروع دحلان ومن خلفه.
هناك في مخيمات لبنان اكتشفت جليلة في نفسها سيدة أولى وبدأت مواقع إخبارية تابعة لدحلان تسلط الضوء عليها وتبشر بامرأة أولى في فلسطين تحتل مكان أم مازن الشاغر أصلا على المستوى الشعبي، المهم أنها كانت في صحبة الشيخة فاطمة بنت زايد آل نهيان رئيسة الهلال الأحمر الإماراتي دوما، والأهم أن الهلال الأحمر الإماراتي وتحت أذرع وسيطة ممول مهم لمواقع إخبارية يرعاها دحلان، ولا يعدم الدحلانيون وسائل ربط الإغاثة بالإعلام الأصفر.
في لبنان كانت جليلة وفاطمة يتنقلن بين بيوت اللاجئين المعوزين لاستغلالهم نهارا، وتلتقي حرم دحلان بقيادات فتح العريقة في مطاعم صيدا ليلا، وإحدى خلاصات العشاءات تلك كانت طرد فتح للعميد الفتحاوي محمود عيسى الملق بـ”اللينو”، لأنه على ما يبدو أسرف في التعاون مع جليلة وصديقاتها، ليخرج العميد مع مجموعة من الدحلانيين في المخيمات في احتجاجات على “اختطاف أبو مازن لحركة فتح”، نفس القاموس الدحلاني يتردد في أنحاء كثيرة.
وفي لبنان أيضا وبعد الانتهاء من أعمال الإغاثة وشراء الأتباع تشكلت حلقة وصل لافتة بين السلفيين الذين يطلقون الصواريخ في غزة وحزب الله، جليلة ومرافقوها الإماراتيون رتبوا لوصل الحركة، وما الضير أن يمارس حزب الله لعبة سوريا؟! سيقاتل الحزب إسرائيل على أرض غزة عبر السلفيين ودحلان يضمن انتظام الحلقة وقوتها.
وانتظام الحلقة كان يتعثر في مصر حتى جاء السيسي، بل جاءت الإمارات والسعودية وبرضى أمريكي بالسيسي وانقلابه على حكم الإخوان المتعثر. وبانقلاب السيسي، اكتملت الكثير من حلقات دحلان -الإمارات، وبدأ ضاحي خلفان صديق دحلان وزميله يثرثر عبر تويتر حتى كشف الكثير عن الترتيبات الإماراتية مع السيسي. وفي السياق كانت تكشف تحركات العلاقة الحميمة المتصاعدة مع دحلان وقيادته في إسرائيل. طبعا لا يختلف فلسطينيان في حواراتهما العادية على عمالة دحلان، بل ربما هذا هو الثابت الوحيد لدى كل الفلسطينيين باختلاف أحزابهم وجماعاتهم، يكفي أن الإسرائيليين لم يمتدحوا عميلا كما امتدحوه، ويغدو انطوان لحد بالنسبة لدحلان أقرب إلى طفل يدرج على دروب التعاون والتنسيق.
إلا أن المال الإماراتي كان كفيلا يتغيير تصريحات الكثيرين داخل فتح، مثلا سفيان أبو زايدة لم يتوقف عن مناشدة أبو مازن للعفو عن دحلان، بل وكتب مقالات مطولة يشرح فيها لأبو مازن كيف يمكن الاحتيال على قرار المحكمة الحركية وإعادة دحلان، وكان أبو زايدة ينشر وصفاته تلك على موقع وكالة معا، وتمر تحت يد رئيس تحريرها ناصر اللحام، نعم هو نفسه صديق دحلان ومدير مكتب الميادين في فلسطين، حلقة أخرى تكتمل عند هذا “الصحفي” الذي يرى التطبيع وجهة نظر وتتسع صفحات وكالته للكثير من الإسرائيليين والمطبعين.
مشاريع ومحاولات إعادة الأمور إلى سابق عهدها بين أبو مازن ودحلان لم تتوقف، وسابق عهدها هو زمن حصار أبو عمار، حين كانت أمريكا تريد أبو مازن رئيسا وإسرائيل تريد دحلان وكيلا أمنيا واحدا وحيدا، وكان الفتحاويون يخرجون لنصرة أبو عمار بهتافات كلها ضد “كرزاي فلسطين والعميل”، أبو مازن ودحلان. المهم أن يدا ما دست السم لعرفات، وفي قصر في دبي تستقبل زوجته وابنته في جلسة عائلية، ودحلان يتوسط سهى وجليلة وزهوة. ويدا أمريكية دفعت أبو مازن الذي انتظر أن تقصي حماس دحلان ولم تفعل، فأقصاه بنفسه، ولكن الأمور اختلفت والربيع العربي كان خريفا على الإمارات وأبو مازن والكثيرين في الإقليم.
هرع أبو مازن إلى مصر للقاء السيسي بعد الانقلاب، بعد تيتّم لم يستمر لأكثر من سنتين بعد رحيل مبارك، وهناك في مصر كانت الإمارات حاضرة، ودحلان حاضر، ومحور الثورة المضادة يتشكل بقوة والمال يسرّع اصطفافه، ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري يعد لترتيب جديد للمنطقة. وفي مصر أدرك أبو مازن أن دحلان يشببه في آخر سنوات أبو عمار، دعم خارجي ورضى إسرائيلي، وفي حالة دحلان أضيف عليهما مال الإمارات وشبكة استخبارية ضخمة، وفي مصر اكتشف أبو مازن أن دحلان على صلات طيبة وفعالة بمحور سوريا حزب الله، فأعاد التفكير بالأمر برمته.
أشهر قليلة وسفراء السلطة نشطون في سوريا وحولها، وهؤلاء كالعادة يغلفون عملهم الاستخباري بقليل من الدبلوماسية ويصدف أحيانا- كما حدث مع جمال الجمل في التشيك- ويدفعون الثمن، لينتهي الأمر بلقاءات مع نظام الأسد وتحقيق اختراقات لصالح حزب الله ومحوره في لبنان؛ عاد الأسد ليلتقي أعداءه اللدودين بجهود دحلانية، فالعدو اليوم واحد، الإخوان في مصر، والمسلحون في سوريا، وخصوم لبنانيون وحماس في غزة. الخريطة جاهزة والأموال جاهزة ودحلان يلعب لصالح الإمارات كل الأدوار “القذرة” التي يتردد “المشايخ” حيال اللعب بها مباشرة.
وإلى جانب المال والجهد الاستخباراتي الذي يتبادل دحلان مع الإماراتيين فيه المنافع، أطلق حكام الإمارات يد دحلان في وسائل إعلامهم وتلك الحليفة معهم، ولكن دحلان منذ أمد يحلم بفضائيته الخاصة، فكانت “الغد العربي” بعد أن أغلقت السلطة فضائية “فلسطين الغد” التابعة له وللإمارات في رام الله. وفي السياق الإعلامي وجد دحلان يدا عاملة رخيصة في مصر وأطلق شبكة مواقع إلكترونية بأقلام مصرية تهاجم خصوم الإمارات وتفتعل مواجهات في المنطقة عبر مهاجمة قطر والقطريين، ويقود ضاحي خلفان ضمن السياق نفسه عبر مجموعة كبيرة من العناصر الأمنية حملات على تويتر تحرض الخليجيين على قطر ويتولى دحلان جانب العبث بمصر وعلاقتها بحماس في هذا الجانب.
قصر دحلان وجليلة في دبي محطة دائمة في جولات قادة المخابرات الإسرائيلية آفي ديختر ويوفال ديسكن، واستقبل حليف إسرئيل في دبي وزير الطاقة الإسرائيلي سلفان شالوم قبل أيام بعد لقاءات لا تنقطع هنالك مع مستشار نتنياهو اسحق مولخو، وهناك يقفلون الدوائر بضيافة لائقة من حكام الإمارات، ويرتبون هناك لخلافة أبو مازن، ولا يملّ أحمد الطيبي من محاولة الإصلاح بين أبو مازن ودحلان ليغدو أمر تسليم السلطة هادئا.
ما ينغّص على دحلان ومضيفيه اليوم هو اندلاع أية مواجهة فلسطينية مع إسرائيل، وأي انحسار للثورة المضادة وانقلابها في مصر، ولهذا حراكهم اليوم محموم، وفي غمرته يفقد محمد دحلان وضاحي خلفان كرجلي أمن الكثير من حذرهما ويتضح بسفور أن خط الأوامر والمعلومات اليوم هو “تل أبيب – دبي”.
بلال عرفة