ملاحظة: تجدر الاشارة بأن الزميل الكاتب علي الصراف كان قد أرسل هذا الرد إلى صحيفة القدس العربي لمقال كتبه صبحي الحديدي إلا انها امتنعت عن نشره بدون أت توضح الأسباب (محرر وطن)
قدم الأخ الأستاذ صبحي حديدي، في مقال (مسارح رفعت الأسد: الترهيب بعد الترغيب) (القدس العربي، 30.01.2014)، كل “ما يشفي الغليل”، سوى انه غليلٌ لا يُشفى مع الأسف.
وإن كان يجوز للمرء أن يفترض أن الكراهية نوع من العمى، فأن بعض الأسطر المجانية يمكنها أن تفعل الكثير في الصدور الموغلةِ بالجاهز والمسبق، ولكنها لن تصل الى نهاية، مع أسف الأسف.
غير التهاويم التي تستند على افتراضات هشة، لا يستطيع المرء أن يفهم ماذا أراد حديدي بالترهيب أو الترغيب، أو حتى بالمسارح. هذا إذا استثنينا مسارحه الكوميدية هو.
وقد تكون الدماء في سوريا تغلي بالكثير، إلا انها مسرح للكوميديا السياسية بالنسبة للكثير من “كُتّاب المعارضة” الذين لا يعلم إلا الله والراسخون في العلم، ماذا يريدون بالفعل، أو ضد من هم بالفعل،.. هذا إذا لم يكونوا ضد العقل والمنطق فقط.
فثمة فوضى في الذهن تجعل هؤلاء الناس لا يعرفون من أين يبدأ مسرحهم الدامي، كما أنهم لا يعرفون الى أين ينتهي.
“آل الأسد”، حسب هذه الكوميديا، هم، برمتهم، مطلوبون للتجريم، بصرف النظر عن أي شيء، حتى ولو كان بينهم من وقف معارضا للنظام، وحتى ولو انتهى بعضهم الى انهم يتعرضون لعداء “النظام” وحصار مؤسسته وترهيبها.
وهل قلنا “النظام”؟
ولكن، هل هناك من يفهم، بين أولئك الكتاب، ما هو النظام فعلا؟ وإذا فهموا انه المؤسسة الأمنية والمخابراتية التي أطبقت على صدور السوريين لعشرات السنوات، وفرضت على الحاكم منطقها، فرضها على المحكوم، فهات من يمكنه أن يفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود في مواجهة هذه المؤسسة.
والأسهل، بالنسبة لمن يفضلون الأسهل (لاعتبارات تتعلق غالبا بضيق مساحة الفهم) هو أن نخلط الحابل بالنابل، لاتهام الجميع، من دون رحمة، وذلك على غرار ما يفعل غلاة النظام بالقصف من دون رحمة.
وعلى غرار القول: “كلنا في الهم شرقُ”، فكلهم في تلك الدار من “آل الأسد”، كائنا ما كان موقفه من التغيير، وكائنا ما كان موقعه من الأزمة.
وسأتخذ من تلك الـ “آل” مثالا صعبا. إنه بكل بساطة “حافظ بشار الأسد”.
فما رأيكم بهذا الطفل؟ هل نعدمه؟ هل نسحقه، بجريرة من يموت من الأطفال كل يوم؟ أم هل نعلقه من رجليه لأغراض التشفي؟
يمكن للسيد حديدي أن يسأل صحبه. وسيعرف، بما لم يختلط بالغث في ثقافته، من أين تبدأ المأساة. سيعرف انهم يتمنون لو مزقوا ذلك الطفل وشربوا من دمه.
ليش؟
لأنه من آل الأسد!
هذا هو المنطق السائد بين كل أولئك الذين يستخدمون هذه المفردة! وهم يستخدمونها كرمز لتصفية حساب أشمل! ولقطع رؤوس أشمل!
وهذا، في الواقع، ما يخيف الكثير من السوريين الذين يعرفون العاقبة إذا انقلب المنقلب الى حرب أهلية، لا مكان فيها للديمقراطية حتى ولو كانت هي الحلم الأول.
ولستُ مُستدعيا هنا، إلا ما تكشفه الضغينة من نوايا. ولستُ مُحرضا، إلا على ما يكشفه العمى من حقد.
ولكن هات من يمكنه أن يقنع غلاة المعارضة، بان هذا الطفل لا جريرة له في كل ما جر وينجر في رحاب الكارثة التي غرقت فيها سوريا، حتى وهو لا يدري أن هناك من غلاة التطرف المضاد من يدعوه رئيسا بعد رئيس.
لا يدري ذلك الطفل أيضا أنه من بيئة أقل تحضرا بكثير من تلك البيئة التي سمحت لابنتين من أبناء الكارثة في تشيلي، أن يتواجها بالفكر والسياسة وليس بحرب “آل” ضد الـ”آل”!
ولكن هذا هو قدرنا، الذي جعل من “داعش” والغبراء، تاريخنا الوحيد الممكن.
هذا هو قدرنا الذي جعل من حرب “آل” هي المآل الوحيد للفكر والسياسة حتى بين المثقفين، وكأنهم في حرب مفتوحة مع أنفسهم بالذات. وذلك بافتراض انه ما من أحد مقطوع من شجرة، وما من أحد إلا وكان لديه “آل” ما، لتنتهي الضغائن أن يتحصن بها في آخر مطاف الكوميديا الدامية.
ولعله يمكن للباحثين عن كوميديات أخرى، أن يتخذوا من آل خدام أو آل طلاس مثالا، لم يشملهم التجريم، ممن رافقوا تلك المؤسسة الأمنية بكل ما أوتوا من جميل “الشمائل”، حتى جاز استثناؤهم من الترهيب، دع عنك مسارحه، ربما لأنهم من دون أقارب!
وهؤلاء هم النظام الذي فضّل (“الأخ”) النأي عنه في أواسط الثمانينات، لكي لا يخسر أخيه على الأقل. وظل منفيا حياله من دون أن يكسب الأخ ولا ابن الأخ.
ولكن هات من يدرك أن المشكلة كانت في النظام؛ في بنيته الأمنية، كما في كل “آل” يتم استثناؤهم من المسؤولية (لانهم… من المبشرين بالجنة)، كما في كل الذين شكلوا آلته القمعية، والذين أسسوا أرضية الكارثة وقادوها وقادوا قيادتها الراهنة أيضا.
ولكن، فليس الكل مطلوبا للمحرقة. فقط “آل الأسد”.
والمشكلة قد لا تكمن في العمى عن أن التعميم ضار. ولكن الوازرةَ التي تعلّقُ الجميع على وزرها، بعيدةٌ عن العقل، دع عنك بُعدها عن الشرع والأخلاق والمنطق.
ولكن بافتراض أن الكثير من المعارضة بلا منطق، فليس صعبا أن تعرف لماذا ذهبت الى جنيف وهي لا تعرف من أين تبدأ. فاختارت الخيار الأعوج الذي يجعل سفك الدماء هو السيناريو الوحيد في ذلك المسرح.
ولم أفهم عن أي ترهيب بعد ترغيب يتحدث حديدي.
فـ “العم” لم يأخذ من أحد شيئا. وهو ليس مُسابقاً أحداً على أي شيء. وقد آثر النأي، ليس لانه لم يقدم حلولا، بل لأن حلوله عورضت من كلا طرفي معادلة التطرف الراهنة، التي استمرأت القتل، وجعلت من الخوف والإرهاب مجال السياسة الوحيد.
وحتى الآن، فلا الدعوات الى الإصلاح والتغيير قد سُمعت من طرف معارضة السحق والمحق، ولا امكن للنظام، بكل من يتلف حوله، أن يتبدل.
مع ذلك،.. ربما ظل من اللازم القول: ما هكذا تبنى مقومات التغيير. ولا هكذا تخاض الثورات. وذلك مثلما يجوز القول، ما هكذا أيضا تعالج المطالب المشروعة لأي شعب يبحث عن الحرية.
لقد غرقت البلاد في دوامة لا نهاية لها من الأحقاد والكراهيات. وليس عجيبا أن يتحول الفطر الطائفي المسموم الى الغذاء الوحيد الذي يتغذى به كل أولئك الكتاب ممن يكتبون بلغة الـ”آل” لكي يجرموا الجميع ويلقوا بوزرها على كل وازرة، حتى لكأن العمى صار هو الدليل الوحيد في المسرح.
وهو مسرح دم. نعم. إلا انه مسرح دمى أيضا!
فهل أدلك، يا أخي صبحي، على الأصابع التي تحركها، أم أنك تعرف؟
فرفقا بـ”الترهيب” الذي يأتي ممن ما أراد، منذ بدء هذا المنعطف، لنفسه شيئا. ولا طالب بأكثر من تغيير عاقل، يبدأ من أسس النظام وركائزه القمعية، قبل أن يبدأ بتعليق المشانق وقطع الرؤوس لوضعها على ظهور الضحايا.
أما الراهن، فليس سوى نموذج لكوميديا لم ينتج التاريخ أكثر منها إثارة للإشمئزاز.
وهذا ما يجدر بالوطنيين الحقيقيين أن يقفوا ضده.
من دون ترهيب: الحل يبدأ بتغيير الأسس، لا بقطع الرؤوس!
ولكن سحقا للقدر. فهذا ما لم يكن بوسع مسرح الدمى أن يفهمه. ولا أن يفهمه حديدي، مع الأسف.
وحيثما ظل الأمر يبدو، على سطحه، كمجرد مناورة، فان الثقافة المستقيلة قد أعفت نفسها من البحث عما هو أعمق.
وذهب الذاهبون الى جنيف 2، من أجل قطع الرؤوس، وليس من أجل تغيير النظام، فظل الموت دائرا.
ليش؟
لأن هذه هي سوريا الوحيدة التي يمكن أن ينتجها خراب العقل. وهذا هو مسرحها. وهؤلاء هم ممثلوها الذين إذا أصابهم العمى، آثروا خيار المحرقة.
علي الصراف