في صقيع يوم جمعة، تخلو شوارع واشنطن من السيارات كما تخلو…
في صقيع يوم جمعة، تخلو شوارع واشنطن من السيارات كما تخلو أرصفتها من المارة، لكن الثلج الذي يغلف معظم شوارع العاصمة الأميركية بطبقة بيضاء، يجعلها تبرق تحت شمس ساطعة، ويزيد جمالها الهادئ تألقا.
هو هدوء ينسحب على المركز الإسلامي الذي يقع على جادة ماساشوسيتس. المبنى الكبير بعمارته الإسلامية المميزة والكتابة بالحروف العربية على واجهته الأمامية ومآذنه العالية بات من معالم العاصمة بعدما مضى أكثر من 56 سنة على افتتاحه.
كما في أي دار عبادة آخر، ينفصل المكان من الداخل عن مدينته ولا يعود هناك ما يدل إلى أن هذا المسجد يقع هنا، في شمال العالم. جدران وأعمدة مزخرفة وقبة عالية بنوافذ ذات زجاج ملون، وأرض مفروشة بالسجاد ومحراب.
خطبتان عربية وإنكليزية
بينما يرفع الآذان بالعربية، يروح صحن المسجد يمتلئ رويدا رويدا برجال من أعراق كثيرة تؤكد صورة البلد الذي يعيشون فيه وغنى الخليط الذي يؤسس لفكرة وجوده.
مع صعود إمام المسجد إلى المحراب ليلقي خطبة الجمعة، تدخل أميركا إلى المسجد، حيث الخطبة هنا هي، حرفيا، خطبتان: واحدة بالعربية، وأخرى بالإنكليزية. ومدير المركز، وهو نفسه إمام المسجد، الدكتور عبد الله خوج، ينتقل بسلاسة عالية بين اللغتين، فيقول عبارته بالعربية ثم يتبعها مباشرة بترجمتها الانكليزية.
يستمر الإمام على هذا المنوال حتى النهاية. يلقي خطبة دينية بحتة، لا يتطرق فيها إلى السياسة قط. يشرح معنى التقوى والدعاء وقراءة القرآن، ويقدم نصائح تتعلق بالحياة اليومية للناس، كإنجاز الأعمال في وقت مبكر من اليوم، وينهي الخطبة بالدعاء بأن يوحد الله قلوب المسلمين وأن يتوادوا ويتراحموا. خطبة من الصعب إن لم يكن من المستحيل معرفة انتماء الشيخ المذهبي اعتمادا على مضمونها.
تذوب الفوارق المذهبية بين المصلين تحت قبة مسجد يبدو بعيدا جدا عن الأسباب السياسية والاجتماعية التي تغذي النزاع المذهبي في الشرق الأوسط.
تبدو الأمور هنا أبسط مما هي عليه خلف المحيط. عمر عبد العلي يقول إنه أمضى عمره في واشنطن، وإنه يأتي إلى المركز مذ كان طفلا، ولم يشعر يوماً بأن هناك تمييزا في المسجد، كما أنه لم ينتبه إلى فروقات بين المسلمين الشيعة والسنة في “دي سي”. نحن لا نتدخل في مثل هذه المواضيع. الإيمان بالله هو المهم، وتقبل الاختلافات بين بعضنا البعض بطريقة حضارية وصحية. ويتحدث الشاب ذو الأصول الفلسطينية بالإنكليزية ضاحكا ليقول إن الطقس لن يمنعه من أداء فرض الجمعة هذا.
صلاة ثانية على الرصيف
مع انتهاء الصلاة، ينقسم المصلون بين مغادرين وبين من يذهبون إلى الحديقة الخلفية للمركز، حيث يتشاركون غداء شهيا يقدمه المركز عماده الأرز واللحم. هنا، وبينما البخار يصعد من بين الأيادي التي تحمل صحون الطعام الساخن، تختلط اللغات واللهجات مجددا. وبالرغم من الصقيع ترتسم على الوجوه ملامح امتنان لفيض الود.
إلى هذه الحديقة يصل صوت من الرصيف المقابل، حيث يقف رجل مصليا وخلفه يقف بضعة رجال ونسوة.
منذ أكثر من ثلاثين عاما والشيخ محمد العاصي يلقي خطبة الجمعة ويؤم المصلين على الرصيف. يختلط الأمر على من لا يعرف، ويشاع أن الشيعة يصلون في الخارج والسنة في الداخل. لكن العاصي قال إن المصلين على الرصيف، كما في المركز هم في العادة خليط من المذهبين. كذلك يقول المسؤولون في المركز. فلماذا الصلاتان إذن؟
يشرح العاصي أنه هو إمام المركز المنتخب، لكن خوج عين مديرا للمركز واستبعد العاصي عن منصبه، فصار يقيم الصلاة في الخارج.
لم يمنع العاصي من الصلاة حيث يريد، حتى ولو على الرصيف. من بين المصلين خلفه محمد جبران، وهو من اصول مصرية. لماذا اختار الرجل الصلاة هنا؟ يقول إنه قبل تسع سنوات بدا يتردد على المركز ويستمع إلى الخطبة في الداخل ثم انتبه إلى الشيخ على الرصيف، فاستمع إليه في مرة ورأى أن كلام العاصي يروق له فقرر أن يصير من متابعيه.
جبران ينفي أن يكون سبب الفصل بين الصلاتين مذهبياً. “إنه الحق في حرية الرأي والاختيار. هذا فحسب. وواشنطن تعطي هذه الحقوق”. هذا ما قاله جبران الذي يعيش في واشنطن منذ أعوام عديدة ويضيف أنه لم يلمس يوماً تمييزا بين سني وشيعي.