في البروتوكولات الرسمية بين الدول كاملة السيادة عادة تكون اللقاءات الرسمية على نفس المستوى الوظيفي، فرئيس الجمهورية يلتقي بنظيره، ورئيس الوزراء يلتقي بنظيره ورئيس البرلمان بنظيره وكذلك الأمر بالنسبة لبقية المستوياتت الوزارية، هذه هي القاعدة العامة في التعامل الدولي، لكن هناك إستثناءات تجري خارج هذه السياقات في حالات خاصة ومحدودة جدا.
أما الدول ناقصة السيادة فالغالب أن يكون التعامل معها خارج السياقات المتعارف عليها، فالدولة المهيمنة على مقدرات دولة أخرى تتعامل معها وفق نظرة دونية على أساس إنها تابعة لها أو هي مرهونة بأوامرها، وهذا ما لاحظناه في تعامل الولايات المتحدة الامريكية ونظام الملالي الحاكم في إيران مع المسؤولين العراقيين بإعتبارهم عملاء لهم، ويدينون لهم بتسليمهم دفة الحكم بعد أن كانوا يشحذون على أبواب المخابرات المعادية للعراق.
لذا بالرغم من أن الرئيس الراحل جلال الطالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي من أبرز عملاء النظام الإيراني، ولم يحيدا عن الأجندة الإيرانية في العراق قيد شعرة، لكنهما لا يحظيان بالتعامل الدبلوماسي اللائق معهما من قبل أركان نظام الملالي. في اللقاءات التي تمت بين الطالباني والمالكي من جهة وبين القيادة الإيرانية كان من أبرز الظواهر.
1. عدم وجود العلم العراقي خلف الطالباني والمالكي، بل كان هناك العلم الإيراني فقط! كأنه يقول العراقيين: لم نكتفِ بتغيير علمكم السابق، بل أزحناه أيضا. ومن الطبيعي أن لا يجرأ الطالباني أو المالكي بالإستفسار عن هذه الظاهرة المخزية أو إستجداء رفع العلم في اللقاءات الرسمية لغرض مداراة وضعهم ومكانتهم السياسية أمام الشعب العراقي على أقل تقدير. لكن العميل ينفذ وليس له حق المناقشة والإعتراض والإستفسار، فالدول المستبدة غالبا ما تلبس عملائها اللجام لتسيرهم كيفما تريد.
2. في كل زيارات الرئيس الراحل الطالباني والمالكي والنجيفي كان يستقبلهم في المطار وزير أو رئيس دائرة المراسم في الخارجية الإيرانية، أما في الولايات المتحدة فكان مساعد وزير الخارجية أو نائب ئريس البرتوكول في إستقبالهم. في آخر زيارة للرئيس الراحل الطالباني كان في إستقباله في مطار طهران وزير التعليم الإيراني! وليس الرئيس السابق نجادي كما يفترض في مراسيم وبرتووكول إستقبال الرؤساء والملوك المتعارف عليه دوليا والذي أقرته إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية. الانكى من ذلك إن الوزير المضيف لا يشغل حتى وزارة سيادية كوزارة الخارجية أو الدفاع. وكان في إستقبال الطالباني قبل تلك الزيارة وزير الرياضة الإيراني! الذي غالبا ما يستقبل الفرق الرياضية وليس الرئاسية. ربما بسبب معرفتهم بأن ضخامة الراحل كان شغوفا برياضة الأكل والنوم!
3. لا يوجد حرس شرف أو إستعراض أو بسط السجادة الحمراء أو إستحضار السفراء عند إستقبال الرئيس الطالباني الراحل. وهذه المراسم من المستلزمات التي تصاحب زيارات الملوك ورؤساء الدول بما فيها الدول الأفريقية المتخلفة التي لا تشكل أهمية سياسية وإقتصادية كالعراق.
4. من المتعارف عليه إن السيارة الرسمية للضيف الزائر خلال إستقباله في المطار أو تنقله داخل العاصمة المضيفة، يوضع علم دولته قرب المرآة الأمامية من السيارة، للتعريف بأهميته وشخصه، وهذا ما لا يطبق على الرئيس العراقي ورئيس للوزراء ورئيس البرلمان.
5. لا تنقل اللقاءات الرسمية بين الطرفين المتقابلين مباشرة وعلى الهواء، ولا يُصور أي لقاء حتى لو كان المحادثات ودية وغير سرية. كي لا يتعرف المشاهد على طريقة التعامل الدونية مع المسؤولين العراقيين.
6. يتزلف المسؤولون العراقيون للأطراف المقابلة بتذلل مهين، وبطريقة تدل على مدى تفاهتهم وتبعيتهم. مثلا من خلال طريقة جلوسهم بوضع اليدين بين الساقين كأنهم طلاب مدرسة إبتدائية، أو عدم إرتداء ربطة العنق خلال اللقاءات الرسمية مع نظرائهم الإيرانيين تقليدا لهم. أو طأطأة رؤوسهم للأسفل عند الحديث مع نظرائهم كالفتاة الخجولة. أو القيام بزيارات جانبية لا تتناسب ومناصبهم ولا علاقة لها بجدول الزيارة، كزيارة رئيس البرلمان النجيفي للعميد سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني في مأتم العلوية أم سليماني.
من البديهي أن إيران لا تجهل البروتوكول. فهي دولة ذات تأريخ دبلوماسي طويل لا يمكن انكاره أو تجاهله. كما إنها تطبق مباديء البروتوكول مع جميع زوارها من الرؤساء والملوك والوزراء بإستثناء زعماء العراق ولا تفتش عن السبب! فالعراق بلد محتل من قبل إيران وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها. ومنها يُفهم السبب وراء إتباع النظام الإيراني هذا النهج الفوقي المتغطرس مع دمى الولي الفقيه في العراق. اذا من الطبيعي أن لا تحترمهم إيران وتنظر إليهم نظرة إستخفاف.
لكن والحق يقال، إنهم يستحقون هذه الإهانة بإمتياز، وهذا ديدن العملاء في أي مكان وفي أي زمان. هم بدورهم يعرفون حق قدرهم، لذلك لا يعترضوا على تلك الاهانات بل يمضغونها بسهولة ورحابة صدر! وهل يجرأ أي منهم على الاعتراض او (المقابلة بالمثل) وهو مبدأ مقبول في السياسة الدولية؟ على سبيل المثال هل كان يجرأ الطالباني أو المالكي مثلا على إرسال وزير من حكومتهم لمطار بغداد لإستقبال الريئس نجادي عند زيارته للعراق مثلا؟ أو أن لايضع العلم الإيراني خلال زيارة ولقاء وزير إيراني.
الزيارة الأخير لنائب وزير الخارجية الأميركي وليم بيرينز بتأريخ 28 شهر كانون الثاني الجاري تدخل ضمن هذا الإطار، فقد إلتقى أولا برئيس الوزراء من ثم النجيفي ثانيا حسب أسبقيات العمالة. وخلال إجتماعه بالمالكي أكد له دعم إدارة البيت الأبيض للعمليات العدوانية الجارية في محافظة الصمود والتصدي بقوله ” ان الولايات المتحدة تقف الى جانب العراق في هذه المواجهة، وهي مستعدة لدعمه بكل ما يحتاج اليه لدحر الارهاب والتطرف. وإن المواجهة الحالية في المنطقة هي مواجهة بين التطرف والاعتدال لا بين المذاهب كما يجري تصويرها”. لربما يأتي حديثه إنتقاما من أبطال الأنبار الذين ألحقوا عار الهزيمة بقوات المارينز ووقفوا وقوف أسد أمام عرينه، يعني تشفي وإرواء غليل ليس إلا. فقد لفظت الأنبار قوات المارينز لفظ الدبر للعذرة.
المالكي بدوره أكد حرصه الشديد على أهل الأنبار سيما المدنيين منهم بقوله ” إن حرصنا على عدم الحاق الأذى بالمدنيين قد يؤخر حسم المعركة”. حرص المالكي واضح المعالم فحوالي(400) طلعة جوية على الأنبار، وقصف مدفعي على الأحياء السكنية ومئات الشهداء من النساء والأطفال وتدمير ممتلكات الناس، وتهجير(140000) شخص من أهل الأنبار(وفقا للامم المتحدة. حيث أشار متحدث باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة بأن هذا يمثل أعلى عدد للنازحين منذ الصراع الطائفي بين عامي 2006-2008).علاوة على إخلاء مستشفيات الأنبار من الأطباء وطرد من يلتحق منهم الى مقر عمله، وفرص حصار غذائي ونفطي على أهل المدينة. هل هناك حرص أكثر من هذا؟
إن كان المالكي حريصا على أهل الأنبار وفعل هذا! فما كان يفعل لو لم يكن حريصا؟ إنه لا يختلف عن الزعيم الذي يرمي شعبه بالرصاص الحي معتذرا من عدم توفر الرصاص المطاطي. إنسان دموي يستحل الدماء ويتلذذ برؤيتها ويتعطر برائحتها.
في إجتماع بيرينز مع أسامة النجيفي ـ أبرز المتآمرين على أهل السنة، جاء في الأنباء ” بحث الطرفان تداعيات الأزمة في محافظة الأنبار بعد ارتفاع العمليات المسلحة التي تشهدها منذ 21 من الشهر الماضي. وأكد النجيفي خلال الاجتماع على اهمية الحل السياسي للازمة في الانبار، وايقاف القصف وعودة المهجرين الى ديارهم، مشددا على إن الوضع المأساوي في الفلوجة وما يتعرض له الابرياء العزل يوميا نتيجة القصف العشوائي، يمثل خرقا صارخا لحقوق الانسان”. لكن وليم بيرينز لم يعلق بأي تعليق على حديث النجيفي، ولا عن الضحايا من المدنيين أو تهجير(140000) شخص مدني، أو الغارات الجوية والقصف المدفعي على الأحياء السكنية، ولا حتى الإشارة إلى الإعدامات الجارية على قدم وساق في ظل تسيس القضاء لصالح حزب الدعوة الحاكم. فحقوق الإنسان والحريات الأساسية ليست أكثر من دعاية أمريكية، وهذا ما توضح من خلال صمت بيرينز عن القتلى من المدنيين.
في الوقت الذي لم يعلق فيه بيرينز عن الإبادة البشرية في الأنبار، كان الرد صاعقا من ستروان ستيفنسون، عضو البرلمان الأوروبي الذي شبه الإعدامات التي تستهدف أهل السنة فقط بأنها تجري على نطاق صناعي، وهي أشبه بعملية ذبح الأغنام في المجازر، حيث يقاد المعتقلون إلى أحبال المشانق على دفعات ما بين 10 ـ12 معتقل كل وجبة بدون تحقيقات قضائية نزيهة، ولا مذكرات قضائية، ولا تهم ثابتة ولا شهود، ولا محامين ولا شهادات طبية صحيحة.
لقد وضع ستيفنسون النقاط على الحروف حول حقيقة ما يجري في الأنبار من عدوان همجي بقوله” ان نوري المالكي يشن الحرب على شعبه. وتشارك حكومته التي يقودها الشيعة، وبدعم وتشجيع من اسياده في إيران المجاورة ، في حملة عسكرية لإبادة الجماعية ضد السكان السنة الذين قد وصفهم المالكي بأنهم إرهابيين”. وخلص ستيفنسون إلى القول بأن ” المالكي شغل ماكنة الموت، وإن الأمم المتحدة والولايات المتحدة والإتحاد الأوربي لا يمكن أن يقفوا مكتوفي الأيادي. لقد ساعدنا في فرض حكومة تابعة لايران على الشعب العراقي. وقد حان الوقت لأن نضع حدا لهذه الوحشية القاتلة واستعادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان للشعب العراقي المضطهد”.
من المؤسف حقا إنه في الوقت الذي تتآمر فيه الجامعة العربية على أهل الأنبار والموقف المخزي لمنظمة المؤتمر الإسلامي عن الإبادة البشرية في مدينة المآذن، والذي لا يخرج تفسيره عن التآمر أيضا، وفي ظل الصمت الرهيب من قبل الأنظمة العربية الحاكمة، لا نجد سوى موقف شريف معبر عن الحقيقة من قبل إنسان غير عربي وغير مسلم أيضا! هل أدركت الشعوب العربية والإسلامية إلى أي مدى من الظلم والتخلف والعبث والجهل وقلة الإيمان والوعي قد وصلت إليه؟
إعلموا أيها الناس اينما كنتم بأنه من خضم دوامات المآسي، ومن بؤرة المظلومية الحقيقية وليس المزعومة، ومن لبٌ المعاناة القاسية أنطلقت شرارة الثورة في الأنبار، فالأنباريون عانوا ما عانوا من نير الطغاة الجدد، إنهم غرباء في الوطن، وهم مضطهدون في الديار، ومهمشون في الحياة، ومحرومون من الثروات. وقد عرف عنهم في التأريخ القديم والحديث بأنهم أباة الضيم والذل، فهم اصحاب مروءة وشهامة وغيرة، ووطنية صميمية مشهود لها، علاوة على وقوفهم كالطود الشامخ أمام الرياح الصفراء القادمة من الشرق. وهي نفسها القادمة بقوة مضطردة لدول الجوار وبالأخص دول الخليج العربي. نقول لدول الخليج عن تجربة عراقية قاسيه وليس عن إطروحة فنطازيه: ستصلكم ريح السموم بأسرع مما تتوقعون، عندها ستعضون أصابعكم ندما وحسرة.
تذكروا دائما بأن للأمم أدوار و الدهر دوار. فاتركوا ما فات وانشغلوا بما هو آت! ويا فجيعتكم مما هو آت.
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي