العادة في شتاء واشنطن هي الانخفاض الكبير في درجة الحرارة، والغرق في موجات برد وصقيع تشل بعضا من معالم الحياة، لكن الناس هنا، في هذا الجزء من الساحل الشرقي الأميركي، تعودوا على هكذا وضع، ويجدون له ما يكفي لمواجهته من خبرات وتقاليد وأدوات تكيف، وهم الذين لا يتركون في العادة شيئا للصدفة.
في شتاء هذا العام، خرجت الأمور عن عادتها، فالموجة الأولى من الشتاء العاصف لم تنتظر سوى أيام قليلة فقط بعد بدء العام الجديد لتملأ سماء المدينة بطيفها الأبيض.
في شرفات البيوت وفي صالونات الاستقبال وحتى على نوافذ المساكن لا تزال معالم الفرح بعيد الميلاد وقدوم العام الجديد، وحتى سيول المعايدات وتبادل الورد والبطاقات لا تزال جارية ولم تهدأ بعد.
وسط هذه الموجات من المشاعر الدافئة التي تطبع المدينة في هذا الموسم الحافل من كل عام، اختارت العاصفة الثلجية أن ترحب هي أيضا وبطريقتها الخاصة بقدوم العام الجديد، وكأن بها الكثير من الشوق للحدوث سريعا واستهلال العام بتزيين المدينة بوشاح أبيض حتى تزيد من جمالها اليومي جمالا آخر يستمد سحره وعبقريته من وحدة اللون الأبيض من هذا الثلج الذي يبدأ عادة ناعما لكنه يفضل دائما أن ينتهي مدويا.
مرت العاصفة الثلجية بكثير إرباكها للحياة.. تعطلت المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وألغيت كل النشاطات المسائية، فيما هدأت الحركة في الطرقات ونامت المدينة باكرا على غير عادتها ولجأ سكانها إلى الأخذ باحتياطاتهم التقليدية أمام هكذا عواصف، كتخزين الموائد الغذائية الكافية لأيام العاصفة، وتوفير الاحتياطي اللازم من الشموع والبطاريات، ومحاولة التكيف مع الحياة من غير أجهزة تلفزيون وإنترنت، وأكثر من كل ذلك إعادة برمجة يوميات العائلات وفقا لضرورة التصرف مع بقاء الأطفال في البيوت والقيام بخدمتهم.
هدأت النفوس وعادت معالم الحياة إلى المدينة، وعادت خيوط الشمس تملأ كبد السماء في الصباح الذي تلا العاصفة.
صعبة هي حركة السير بين ركام الثلوج وبقاياه الجليدية التي تتطاير في الفضاء من وراء كل سيارة في شوارع المدينة، لكن المشهد على الجانب الآخر من الطريق يسعد القلب وأنت ترى صور الأطفال الراكضين الضاحكين بين أكوام الثلج في سعادة طفولية معلنة ومن ورائهم آباء وأمهات يحاولون جاهدين استعادة طفولتهم الضائعة في زحمة الحياة وتبعاتها المكثفة في عالم اليوم.
لم تنعم المدينة كثيرا بهذا الهدوء والسلام في سمائها وطرقاتها قبل أن تعلن مصالح الأرصاد الجوية عن موجة صقيع تاريخية ستعبر في اليوم التالي منطقة الساحل الشرقي وبعض الأجزاء الأخرى من البلاد.. ستمتد موجة الصقيع إلى ثلثي أميركا وستصل معها درجة الحرارة في بعض أجزاء البلاد إلى أقل من 40 درجة تحت الصفر، بل ستنزل درجة الحرارة في بعض مدن الوسط الغربي إلى أقل من ذلك.
تقول توجيهات الحكومة عبر وسائل الإعلام إلى سكان هذا الجزء من أميركا إنهم مطالبون بأخذ الاحتياطات اللازمة والبقاء في بيوتهم، بل حذرهم تنبيه صحي جاد من التعرض إلى موجة الصقيع لأكثر من خمس دقائق لأن ذلك سيشكل خطرا على سلامة أطرافهم.
لم يكن الخبر -بالتأكيد- سعيدا بالنسبة لسكان الساحل الشرقي، ومنه واشنطن، خاصة أن آثار العبور الكبير للعاصفة الثلجية الأولى في العام الجديد لا تزال ماثلة في المكان.
خرجت في الساعات تلك التي طبعها الحذر والترقب إلى شوارع المدينة بحثا عن معالم الحياة.
وأنا أحمل على كتفي ثقل القلق من الساعات المقبلة، والخوف من انقطاع الكهرباء في ساعات الليل الطويلة وعواقب ذلك على الأطفال والمسنين في البيوت، كان السؤال في القصة الصحافية لسكان المدينة: هل أنتم جاهزون لتحمل هذه التقلبات الجوية وهل اتخذتم ما يكفي من احتياطات؟
“روبرت” رجل سبعيني كان يقود سيارته المتعبة بثقل سنواتها هي أيضا. هادئة جدا هي ملامحه وهو ويواجه سؤالي عن وضعه وعن وجوده في الشارع في هذا الوقت الذي حرص فيه أغلب السكان على العودة سريعا إلى بيوتهم انتظارا لعبور موجة الصقيع لسماء المدينة.
عميق هو الرجل بل مطمئن في إجاباته ويقينه بالقدرة على مواجهة الموجة..
قال لي: لقد أخذت ما يجب من احتياط في الصباح الباكر.. في بيتي الآن ما يكفي من الغذاء ومن بطاريات راديو لسماع الأخبار، وما يكفي من الشموع لإضاءة البيت، وحتى بالنسبة للكهرباء استعنت بمولد كهرباء احتياطا لمواجهة أي طارئ في سماء المدينة.
قلت للرجل إن استعداده فيما يبدو كاملا. ابتسم بثقل الزمن على كتفيه، وقال لي إنه عسكري متقاعد، وتعلم من تجربته العسكرية أن يتخذ الاحتياطات اللازمة في الحياة لكل أنواع الطوارئ التي يمكن أن تحدث.
وعن سر وجوده في الشارع في هذا المساء يقول لي الرجل إنه سمع من مذياع السيارة نصيحة من سلطات المدينة تدعو السكان إلى تعبئة سياراتهم بما يكفي من بنزين لأنه في حال انقطاع الكهرباء سوف لن يكون في مقدور السكان التزود بالبنزين لأن ذلك سيؤدي قطعا إلى تعطل محطات توزيع البنزين عن العمل.
قلت للرجل: لكنك تبدو قادما من مسافة بعيدة.
ركن الرجل السيارة في أقصى اليمين من موقف السيارات في المركز التجاري في “سبرينغ فيلد” جنوب غرب العاصمة واشنطن، وقال لي إنه كان يتفقد بطاته العشر اللواتي يرعاهن منذ خمس سنوات ويضع لهن الأكل كل صباح في بحيرة “بورك” وإنه حرص على أن يضع لهن ما يكفيهن من طعام لمواجهة الاضطراب الجوي الذي يعبر المدينة.
ينظر إلي الرجل عميقا في عيني، ويقول لي: في اعتقادك كم ستدوم موجة الصقيع؟ لأنه يريد أن يعرف متى يصبح في إمكانه أن يعود مرة أخرى إلى البحيرة حتى يطمئن على بطاته الصغيرات والكبيرات ويقدم لهن الغذاء الكافي كما يفعل دوما.
لم تكن لدي إجابة كافية أو شافية لقلق الرجل، لكني أخبرته أنه في اليوم التالي سيكون من الصعب جدا عليه وعلى غيره من سكان الساحل الشرقي مغادرة بيوتهم والخروج إلى الشوارع، كما أنه سيكون من الصعب جدا على بطاته الخروج من مخابئها والبحث عن أكله المفترض قدومه في ساعة محددة من كل يوم.
لمزيد من التوضيح يقول لي الرجل إنه يفعل هذا منذ خمس سنوات كاملة، ويحرص على رعاية هذه البطات المقيمة في بحيرة عامة رعاية كاملة، وحتى صغارها عندما يأتون يجدون منه كل هذه الرعاية الدائمة .
حزن آخر يسكن قلب الرجل بدا واضحا وهو يفاجئني به، ويقول لي:
تعود أن يضع بعض الأكل كل مساء للحيوانات العابرة للغابة المجاورة لحديقة بيته الخلفية، وهو يفعل ذلك بصورة يومية.. لكنه الآن يسأل إن كانت هذه الحيوانات العزيزة على قلبه ستقدر على الحضور الليلة إلى حديقة بيته عند عبور موجة الصقيع المدينة.
هذا سؤال تعذر علي أن أجيب الرجل عنه، لكني في المقابل شردت في رحلة تفكير بعيدة وتساءلت عن حجم الرحمة في قلب الإنسان وهو يحقق المعنى السامي لإنسانيته.
يتحدث الرجل بقلب الجد الكبير عن أحفاده واضطرارهم للبقاء في البيت، وحاجتهم إلى الرعاية الكاملة لأيام، وعن أولاده واضطرارهم إلى إعادة جدولة التزاماتهم وفقا لضرورة بقاء الأطفال في البيوت، لكن قلبه لا يزال يتسع في مساحة كبيرة منه للتفكير وأخذ الاحتياطات اللازمة لتأمين غذاء بطات يرعاها من سنوات وحيوانات تعبر جوار حديقة منزله.
استأذن روبرت في المغادرة.. تحركت سيارته ليبتلعه الفضاء الواسع ومقدمات البرد العاصفة في المدينة، فيما كان مذياع سيارتي يخبرني عن اضطرار مطارات واشنطن إلى إلغاء وتأجيل 400 رحلة خلال الساعات الماضية وتوقف حركة القطارات بين واشنطن ونيوريورك ووفاة 10 أشخاص في مدن عدة ولأسباب مختلفة جراء موجة الصقيع التي تعبر البلاد.
تأخدني عيناي إلى زاوية مختلفة من المدينة.. على طرف الشارع يتجمد نهر “الباتوماك” وتتوقف حركته الانسابية الجميلة، و تشيخ معالم الحياة في أشجاره، فيما طيوره العائمة والطائرة تسارع للاختباء في أماكن آمنة.
وسط كل ذلك.. يقيم روبرت في تفكيري وصوته يرتفع في ذاكرتي هادئا وعميقا.. إنه يحرص على غداء بطاته في البحيرة، قبل أن تعبر العاصفة سماء المدينة، ويسأل إن كانت الحيوانات ستملك القدرة على الحضور إلى حديقة البيت لتناول طعامها اليومي.
أخجل الرجل إنسانيتي، وانصرف إلى صمته السبعيني، لكنه ترك ضجيجا هائلا داخلي أعرف جيدا أنه لن يفارقني أبدا.
رابح فيلالي
رابح فيلالي إعلامي وروائي خريج جامعات قسنطينة وعنابة بالجزائر، ومعهد سيرينيا للاعلام بفرنسا. تنقل فيلالي بين الصحافة المكتوبة والتلفزيون في مشوار مهني توزع بين تقديم الأخبار و البرامج الثقافية والحوارية السياسية. عمل فيلالي لصالح عدة محطات إخبارية عربية قبل أن يستقر بقناة “الحرة” حيث يعمل مراسلا متجولا لها في واشنطن. إلى جانب العمل الإعلامي، يكتب فيلالي الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى المقال السياسي.